الكاتب سجينا!

 

يحدث أحياناً أن تطالع كتاباً ما، فتستذكر كتاباً آخر، تجد ضرورة بإعادة قراءته!، لا لسبب يتعلق بصلة بين المحتويين، ولكن ربما بسبب وجود ثيمة معينة تربط في موضوع الكتابين، وتجعلك تنفتح على عوالم أخرى، تغيّر فيك أشياء مهمة بعمق، حتى إنك لم تعد كما أنت بعد تلك القراءة، وتلك من معجزات المعرفة، فتجربة القراءة التي ربما لا تتجاوز ساعات معدودة قد تترك أثرها في الإنسان إلى أمد بعيد.
الكتاب الأول"كنت نزيل سجون صدام" للكاتب فليح سوادي، ويسرد فيه ذكريات مريرة عن أيام قضاها معتقلاُ، حيث يستذكر فظائع تعذيب يروي بعضها بطريقة مباشرة، احتجتُ أياماً لإنهاء مطالعتها في صفحات الكتاب البالغة (176) صفحة، لثقل ما يرد فيه من مواجع. وحالما انتهيت من الكتاب وجدتني بحاجة شديدة إلى إعادة قراءة كتاب كنت قرأته سابقاً، بشغف أدبي، وهو "الكاتب والآخر" الذي يتحدث عن تجربة حياتية للروائي الأورغوياني كارلوس ليسكانو، ضمن سيرة ذاتية ورؤية فريدة، يتحدث فيها عن سنواته في السجن السياسي وما أعقبها، حيث اعتقلَ شاباً لمدة 13 سنة. بعد خروجه من السجن يطلب اللجوء في السويد، ويبقى لعشر سنوات هناك، ثم يعود إلى بلاده بمنصب سياسي. وهي سيرة تشبه إلى حد بعيد تفاصيل الاعتقال والتعذيب، ومن ثم الهجرة والعودة لكاتبنا العراقي (فليح سوادي)، وهذا ليس مهما بقدر وجود وقائع ومحاكاة بين تجربة كاتبين، يتقاربان عبر أجواء ما مرّ من ظروف القمع والاعتقال، في أزمنة التسلط الديكتاتوري، وحكايات الرعب التي صاحبته، فتجربة (ليسكانو) التي يعيش خلالها ولمدة ستة أشهر تعذيباً يومياً من جلادين أصبحوا يعرفونه ويعرفهم، لكنه لم يصرّح بأسمائهم في كتابه.
تجربة مختلفة من حيث الزمان والمكان عن ماض عراقي أشد قسوة وتنكيلا، ولكن الوقائع النهائية للتجربتين تبدوان في أفق واحد، فها هو الكاتب الأورغوياني يجلس في مقهى بالعاصمة ويرى من خلال النافذة حركة الناس. الوجوه تتداخل أمام عينيه، يتطلّع فيها، ولا يبحث عمن تسببوا بمأساة ضياع 23 سنة من عمره بين اعتقال ونفي، مستقرّاً على صبره وتسامحه، لأنه يتشبث بالوعي الإنساني الجديد لبلده، معللاً ذلك بالذاكرة الطيبة!.
إن التوثيق لتجربة السجن لدى الكاتبين كانت قضية إنسانية تتعلق بالهم الوطني؛ قضية تفوق مدار التجارب الشخصية لتصبح مسألة اعتبار وقيمة عليا للإنسان، وبمعنى أقرب؛ حتى لا تكرّر التجارب السيئة، فالكاتب يجد نفسه أمام مسؤولية كبيرة بقول الحقيقة، والاتعاظ من تجربتها، دافعاً بالماضي إلى غيابه، ومستشرفاً المستقبل بخلود الشهداء والمضحين ممن صنعوا الحاضر. وهذا هو المشترك الأساس في الكتابين رغم فارق الرسالة التي أراد كل من الكاتبين إيصالها، وهو أمر مختلف مهما اقتربت وجهات النظر.