كي نفهم الدلالة القرآنية لآية المباهلة وأسرارها ينبغي أن نقف على الألفاظ التي أبرزتها الآية وكانت المحور الذي في ضوئه تم إثارة فكرتها الرئيسية وهذا ما سنحاول الوصول إليه :
-الدلالة القرآنية للفظة ( أنفسنا ) ومصاحباتها :
((المحاججة )): يشيرُ التعبيرُ القرآني إلى وقوعِ المُحاججةِ في الله تعالى ؛ قال سبحانه : قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة : 139] و وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام: 80] . ويشيرُ أيضًا إلى أنَّ حِجاجًا آخر حدثَ مع إبراهيم ( عليه السلام ) قال تعالى: ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258] ، أمَّا الآية موضوع البحث حيثُ تعلقت بعيسى ( عليه السلام ) ، فقد قدَّم لهم الرسولُ الدليلَ على وحدانيةِ الله بقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون[آل عمران:59]،إلا أنهم لم ينتهوا، فالدعوة إلى المباهلة لمحاجَّة الخصوم في أمر عيسى(عليه السلام) لادعائهم أنه ابنُ الله بقرينة فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ والهاء تعود على عيسى أو الحق في قوله تعالى: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60] .
ولذلك فـ( المباهلة ) هنا أمرٌ عظيمٌ يتوقف عليه انتصار الإسلامِ في معركة التوحيد مع النَّصارى ، ويُشعر بعظمتها اجتماعُ نداءين ، وهما ( تعالوا ) و ( ندعُ ) إذ فيهما معنى النداء ، قال الزجاجي(ت377هـ) : ((تعال معناه أقبل وأصله أنَّ رجلاً كان في مكان عالٍ وآخر في مكان مستفل ، فصاح به تعال أي اعل من العلو ثم كثر واتسع حتى صار بمنزلة أقبل )) ( )، و ((دعوْت فلانًا وبفلان: ناديته وِصحتُ به.)) ( ).
(( تعالوا )): وقد تكرر هذا الفعل في عددٍ من الآيات إلاَّ أنَّه لم يجتمعْ في واحدةٍ منها نداءان إلا فيما يتعلق بمسألةِ التوحيد وهو قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[آل عمران:64] وقد يكتسب النداء أهميته لتعلقه بموضوع التوحيد في كلا الآيتين وقوله أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا قرينةٌ عليه .
(( أنفسنا )): استُعملت لفظة ( أنفس ) مضافة في موارد َ كثيرة ، حيث أُضيفت إلى الكاف ومنها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44] ، وأُضيفت أيضًا إلى الهاء المتصلة بميم الجماعة ومنها قوله تعالى : لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:102] وغيرها من الآيات ، إلا أنَّ ما يُميِّز هذه اللفظة في الآية موضوع البحث إيرادها مضافة إلى ( نا ) ضمير المتكلمين ( الواحد المعظم نفسه ) متعلقةً بفعلٍ دالٍّ على الطلب والفاعل ضمير المتكلم أو في موقع جواب الشرط كما هو الحال في ( ندعُ ) ، وهو ما لم يتكرر للفظة في علاقاتها عبر السياقات القرآنية. ويمكن أن تكون النفس الدالة على رسول الله داعيةً ومدعوَّة وذلك بإشراك غيرها معها في هذه الدعوة ، وهنا إمَّا أنْ تكون ( أنفسنا ) دالةً على جميع المسلمين ، إلاَّ أن هذا القول لا ينسجم مع الغرض من الدعوة ، وهو التباهل لإثبات وحدانية الله وإنزال اللعن على الخصم ، لِما في المباهلة من احتمال حصول الضرر على أحد طرفيها ، وانسحاب أي طرف يلزم منه بطلان ما يدعيه الطرف الآخر، والمسلمون ليسوا على درجةٍ واحدة من الإيمان ، يؤيده قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136] و وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام : 132] ولذلك فالداعي والمدعو الى الله لابد وأن يكونوا على بصيرةٍ في ما يدعون إليه ، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف : 108] .ومن المعلوم أن هذه البصيرة لا تتوافر بدرجةٍ واحدة في جميع المسلمين . والمعنى الآخر وهو مايرجُّحه الباحث أن تدل هذه اللفظة على مصاديقَ محددة ممن اتصفوا بدرجة عاليةٍ من الإيمان ، لايتطرق إليهم هاجس الخوف عند التَّباهل ويصدِّقوا الرسول في دعواه ، وقد ذكر الزمخشري بأن المعنِيَّ بـ( الأبناء والنساء والأنفس ) في الآية هم أقرباء الرسول ؛ باعتبار أن الرسول يقدم أقرب الناس إليه ليكشف عن ثقته وصدقه فيما يدَّعيه من وحدانية الله في قبال ادَّعاء الخصم بأن عيسى ابن الله ( ) . والتعبير القرآني في استعمال لفظة ( أنفسنا ) حيث وردتْ هذه اللفظةُ في موردين آخرين يلمحُ الى إحدى دلالتين :
أولاهما : دلالتها على الجمع : قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأنعام : 130] . فإنَّ ( أنفسنا ) وردت في صورة الجمع ، فقوله (شهدنا على أنفسنا) يراد بها (الجنّ والإنس ) فتكون بدلاً منهما . والمورد الآخر: دلالتها على التثنية الحقيقية المتعلقة بشخصين ، وهو قولُه تعالى: قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] بخصوص آدم وحواء (عليهما السلام) وقد أشار سيبويه(ت180هـ) إلى أنَّ هذا الاستعمال مخصوصٌ فيما إذا كان الشيئان أحدَهُما بعضًا من الآخر ؛ قال : ((باب ما لفظ به مما هو مثنًّى كما لُفظ بالجمع وهو أن يكون الشيئانِ كلَّ واحد منهما بعضَ شيء مفرَدٍ من صاحبه. وذلك قولك: ما أَحْسَنَ رؤُوسَهما، وأَحْسَنَ عَواليَهما. وقال عزّ وجلَّ: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ، فرقوا بين المثَّنى الذي هو شيءٌ على حِدةٍ وبين ذا ))( ) وكأنَّ هناك نوعين من المثنى : أحدُهما : أن يكون مَن أُشيرَ إليهم بالتثنية أحدَهما بعضًا من الآخر أو جزءً منه ، والآخر : المثنى الذي لم تكن هذه العلاقة موجودةً بين أفراده . فـ( حواء ) بعضٌ من آدم (عليهما السلام) ويؤيده قوله تعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل : 72] . أمَّا في الآية موضوع البحث ، فمن الممكن القول بأن ( أنفسنا ) يُراد بها التثنية ؛ ويؤيد ذلك استعمالها بهذا المعنى في سورة (الأعراف 23 ) ، بالإضافة الى عدم استقامة المعنى بدعوة الرسول نفسَه إلى المُباهلة ، وهذا التَّبعيض فـي (أنفسنا ) لا يعني الجزئية بقدر ما يعني الإنسجام في الرؤية والمنهج أوفي القرابة بينهما ، ويؤيده ما ذكرته معاجمُ اللغة من أنَّ النفس تأتي بمعنى الأخ ( ) فـ( أنفسنا ) تعني نفس الرسول ، إلا أنَّ تخصيصها بالتثنية مع احتمال معنى الجمع يحتاج إلى قرينة أخرى .
الدلالة الأخرى : لـ( أنفسنا) : هي استعمالها بحسب الموارد التي وردتْ فيها ، أي دلالتها على الجمع والمثنى كما في (الأنعام 130) و (الأعراف 23 ) ، مما يعنى إمكانية مجيئها للمفرد كما في الآية موضوع البحث ، زيادةً على أنَّ دلالةَ الإفراد واضحة فيها ؛ لقوله : ( قًلْ) الموجَّهة لرسول الله ومع أنَّه لامعنى لأن يدعو الإنسانُ نفسَه في المبادرة الى المُباهلة ، إذن الدَّعوة خصَّ بها شخصًا آخرَ كنفسه ، وهنا تبرُز خصوصية هذا التركيب وخصوصية هذه الدلالة . وجملة ( ندعُ ) وإنْ كانت جواباً لشرطٍ محذوف ( ) مما يجعلها في حيز المستقبل -وهو هنا زمن المتكلم ( أي زمن المحاججة ) لا مطلق الزمن - غير المتحقق ، إلا أن مجيءَ الدعوةِ على لسان الرسول وبهذا التفصيل يفترضُ وجودَ مَنْ توافرت فيهم صفاتُ الكمال لتصديقه في دعواه الى التوحيد من النساء والأبناء والأنفس وإلا لما دعا خصومه للتباهل ، ويؤيّد هذا المعنى قوله : فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ بصيغة الجمع لاسم الفاعل وإلا لكان التعبير بـ ( فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا ) ( ) ، بمعنى أنَّه سيكون كاذبة وأخرى صادقة ، ولعلَّ في ذلك إشارةً إلى قوله تعالى: َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 91] التي تناولنا بالبحث في ما مضى من هذه الدراسة . ويبدو أن صدق من تعلقت به الآية الكريمة في الدعوة إلى التباهل يتجلى بوضوح في عدم استجابة الخصم المشرك في التباهل والتلاعن (( إن فرارَهم دليلٌ على أنَّهم كاذبون وأن النبيّ (صلى الله عليه وسلم ) صادق )) ( ) ، وهوما يؤيِّده التعبير القرآني ، إذْ لم يرد فيه أن هناك من استجاب لدعوة الرسول إلى التباهل فيكون الفرار من المباهلة مصداقًا لقوله : قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] . |