آدم و دارون ( ٧ ) قصة مثل.. بقلم الدكتور حيدر محسن جارالله

 

العراق تايمز: كتب الدكتور حيدر محسن جارالله

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)

امتاز القرآن الكريم بتنوع لغته الأدبية و أساليبه البلاغية ففيه الاستعارة و الكناية و التشبيه و فيه الطباق و الجناس و لقد ميز الباحثون بين اُسلوب القران الأدبي و مراداته القصدية فبعضهم قال ان أساليب القران هي المتشابه و اما مراداته هي المحكم من الآيات و لتوضيح الصورة اكثر خذ مثلا هذه الآية 
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

تجد في الآية وصفا جميلا للبيعة و ببلاغة مثيرة للنفوس ( يد الله فوق أيديهم ) كناية عن ان البيعة مع الله مباشرة لا مع غيره . انها بيعة مقدسة و من ينكث فيها انما ينكث مع خالقه و مصدر وجوده فهو ينكث على نفسه .

و هنا يأتي مفهوما المحكم و المتشابه، فالمحكم ما فهمناه من مراد دقيق للآية أما المتشابه فهو ما استعمله القران من فن بلاغي لتصوير الحالة فإن نحن وقفنا عند المتشابه جاء احدهم ببساطة و قال " ان الله يوم الحديبية وضع يده على أيدي المبايعين بالمعنى الحرفي " و سندخل في جدل بيزنطي عن صفات يده و طولها و عرضها ان كان لها طول و عرض ثم قد يتطور الامر فنتسائل أ لها انامل و كم عددها ؟ و ما الى ذلك من تجسيم و تحجيم فنذهب بعيدا عن المراد الواضح و كيف ان الله أوضح من خلال القران على تشديده على البيعة يومذاك بتعبير توكيدي غاية في الشعرية و البلاغة ( يد الله فوق أيديهم ) تعبير يملؤك هيبة و إحساسا بعظمة تلك اللحظة .
لعل الفكرة صارت واضحة لديكم الان ، فالقران مفعم بالبلاغة لانه كان يقارع باللفظ معاصريه من المشركين العرب الذين امتازوا بحسهم الأدبي و طربهم لكل ما هو بديع يأخذ النفوس .
و من لطائف أساليب القران امثاله التي ضربها و نوعها للناس حتى صارت فنا بحد ذاتها اختص فيها المختصون و برعوا في تناولها و شرحها .
كان القران يهدف من اي مثل يدلي به الى تقريب المبهم الى المفهوم و تشبيه المجهول بالملموس و المحسوس و لن اظلم القران حين أقول ان القران حتى في هذه توخى التعامل مع عقول الناس على قدرها فكان يأتي بالمثل مبسطا لا نافرا و معروفا لا معقدا و الهدف الاحتجاج على الناس بما يتلائم و بساطة اذهانهم دون خدش للحقيقة العلمية و لكن ...

دعوني أوضح لكم مثلا بسيطا قبل ان ادخل في لكن هذه و ما وراءها .
افترضوا ان احد اطفالكم الصغار جاء يستفهم منكم عن كيفية ولادته و من اين جاء و تخيلوا أنكم تريدون إيضاح الصورة له دون ان تخدشوا حياء الحديث و دون ان تدخلوا هذا الطفل في دوامة تفاصيل لا يتقبلها عقله الصغير و قد تربك وضعه التربوي ... تخيلوا ما يكون جوابكم :

(١) قد تجيبوه بخرافات من قبيل كنت بذرة بذرناك في الحديقة حتى نما عودك فربيناك و هذا ما لا تقبله نفوسكم لأن ولدكم سرعان ما سيكبر و يكتشف الحقيقة فيفقد الثقة بكل معلومة اخبرتموه بها في صغره . ( و ان كان بعض الآباء يفعلها )
(٢) او يكون جوابكم بما يسمح به حاله من الحقيقة بان تخبروه بمعلومات صحيحة و لكنها مختصرة و فيها من التورية ما يتعدد تفسيره و يمكن له فهمه فيما بعد على وجهه التام .
هنا يمكن لنا فهم المثل من القران الكريم .
في الآية الممثلة التي طالما احتج بها أنصار الخلق المباشر وهي اية مثل عيسى تكمن هذه الحقيقة التي اوضحناها .

نصارى نجران جاءوا يحاورون النبي عن شأنية عيسى و هل هو ابن لله فما كان من القران الا ان اخبرهم ان مثله عند الله كمثل ادم . مبسطا لهم الأمور و محتجا من معرفتهم التوراتية بغير خدش للحقيقة الأصلية .
سألهم ببساطة أيهما اعظم خلق ادم ام خلق عيسى 
١. بحسب التوراة خلق ادم و بحسب الحقيقة التفصيلية ايضا خلق ادم .
٢. استخدم مثلا يسهل فهمه من قبل رجال دين مسيحيين دون ان يدخل في التفاصيل أ هو خلق مباشر او خلق متدرج بل و وضع إشارات في ذات الآية على التدرج مستخدما بعض التورية لا لخوف و وجل منهم بل اشفاقا عليهم و ملائمة لمعارف عصرهم .
هل هناك دليل على صحة كلامنا من القران ؟!!
اجل ...
خذوا هذه الآية و المثل 
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا

سؤال صغير : هل المس او الجنون هو من فعل الشيطان ام ان ذلك تمثيل يلائم حال المخاطبين في ذلك الوقت من العرب .. نعم قد يأتي بعض العرفانيين و يقول ان الشيطان هو السبب و العلة غير المباشرة .
هنا ايضا سنرد بان الله سبحانه أورد الموجز بما يتلائم و معارف الناس حينها فلم يفصل عملية الجنون تفصيلا و كلنا يعرف ان الجنون او المس له اسبابه الطبيعية المباشرة .
و بالتالي فنحن و اياكم نتَّفق على ان في المثل اختصار.
سأعطيكم دليلا اخر من مثل قرآني اخر

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

كان المفهوم السائد ان شباك بيت العنكبوت واهنة ضعيفة و لكن اثبت العلم الحديث قوتها و متانتها و الذي تبين ان بيت العنكبوت اجتماعيا هو الواهن فالعنكبوت تلتهم و تاكل شريكها الجنسي بعد التزاوج و في بعض الأحيان تاكل صغارها و في انواع اخرى تاكل الصغار أمها و في حالات اخرى يلتهم الذكر الأنثى .

في الملخص تجد الحالة الاجتماعية لبيت العنكبوت محطمة للغاية و لا قيمة لها

هنا ماذا استفدنا ... استفدنا ان القران ضرب مثلا يحتمل عدة معانٍ بحسب العصر و الفهم و تقدم العلم و المعرفة .

نفس الكلام ينطبق على اية عيسى و ادم فالله سبحانه لم يزد على الإيجاز القابل لتعدد المعاني بل و وضع إشارات على الحقيقة الكاملة .
انظروا معي

خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ

الخلق أولاً ثم الكينونة و فصل بين الحالتين بثم التي تفيد التراخي و الانفصال اي ان الله فصل بين الخلق من التراب و كينونة ادم.

كم يا ترى طالت المدة بين نشوء الحياة على الارض من خلية واحدة و كم استغرقت حتى ظهرت كافة الأنواع و ارتقى بعضها الى كينونة اول نوع بشري وصولا الى الانسان الحديث هذا ما تخفيه كلمة ( ثم ) ؟ و كشفه العلم الحديث تدريجياً
بالتأكيد ان عظمة إيجاد كل هذه الأنواع من الكائنات المختلفة و انشاء الانسان عبر التطور التدريجي لملايين السنين لهو معجزة لا تقل عن معجزة خلق عيسى في بطن أمه بل تزيد عليها غرابة و إبداعا

و لنا تتمة اخيرة نوضح بها ما فهمناه من كل هذه السياحة في القران فترقبوا

شكرًا لكم 
و شكرًا لمن امد في عمري و فهمي