الدين ومستقبل البشرية.ح 1



من الواضح جدا أننا كمجتمعات متدينة غارقة في أتون تفاصيل جزيئيات الدين والتدين وعلى خلاف دائم في ترتيب وتقديم وتأخير هذه التفاصيل ودورها في الحياة اليومية والكلية، لا يمكننا أن ننظر لمثل هذا العنوان العريض لسبب بسيط جدا هو، أننا قد وصلنا بعقلنا المؤدلج فعليا وباكرا لنهاية البشرية (الجنة والنار) وأننا خير الأمم، وبالتالي لا يعنينا كمجتمعات أنها أفتراضيا ومنطقيا ستكون محكومة بالتطور في كل لحظة من لحظات وجودنا وأن نهتم بمستقبل البشرية، السبب يعود أن لدينا تفسير لكل حادث وحديث ومبرر ومكتشف لما كان أو سيكون ووفقا للحقيقة التي نؤمن بها ( لا تفكر لها مدبر).
نرجع إلى سؤالنا المثير ونبدأ من حيث ينتهي الناس عادة في الحديث عن مستقبل البشرية القادم بقوة الزمن، أستحقاقات المستقبل وكيفية التعامل مع حركية لا يمكن التنبؤ بها مع قوة عصف الزمن على واقعنا الفردي كإنسان وواقعنا الفردي كمجتمع من مجموعة مجتمعات، من الواضح والمنطقي أن لكل زمن أو عصر ملامح خاصة به ترسم لنا وعنا نمطية الفهم ونمطية التعامل السلوكي مع المتغيرات، من خلال أنساق معرفية تؤكد ملامح التحولات وترسخ ثقافة العصر وتعاطيه مع كل أساسيات العلم والمعرفة ومناهج التعلم والإدراك، يعني هذا أن التطور الزمني يستوجب منا ومن خلال أليات متجددة في كل مرة أن نتجدد "نحن" كصناع للمعرفة ومتداوليها، ابتدأ من طرائق الفهم والتعقل وطرائق الإدراك الوجودي أو اللا شعوري تجاه المتغيرات وأثارنا القريبة والبعيدة، وأيضا علينا في كل مرة أن نعيد صياغة وترقية رؤانا الفكرية الكونية لنكون على خط الأستجابة والتفاعل مع المتغير الزمني وبنفس النسبية الطردية التي يجري فيها الوجود المادي.
من المعروف أيضا أن الدين والمعرفة الدينية عموما كواحد من أهم المعارف البشرية وأقدمها وجودا وتأثيرا على حياة الإنسان، وشكلت معه ثنائية لا تنتهي عند حد ما قد تعرض هو الأخر للكثير من التطور والتحديث، من المفاهيم والأسس الأولى في التكوين والبسط إلى طرائق التدين وأساليب التعامل معه كمنتج معرفي، أو حتى كصانع معرفة ساهم بشكل أو بأخر بترتيبات وجودية مهمة في حياة البشر، هذا الدين اليوم يعاني من تجاذبات زلزالية تفرضها فترات التحول وتضغط جديا بأتجاه الأستجابة للتحولات الزمنية وبقوة، لكن تبقى قابلية العقل الديني على فهم هذه الأستحقاقات هي العقبة الرئيسية في التباطؤ والتعاند عن ملاحقة قانون الحتمية، الذي هو في الأصل إقرار بأن الوجود غير قابل ولا مؤمن بالثبات والبقاء تحت راهنية زمنية واقفة.
البعض يزعم أن الدين قادر طبيعيا على أن يكون مستجيبا لتطورات الزمن، والدليل أن بقاءه في الوجود للآن عامل فعال ومؤثر مع تاريخ البشرية الطويل هو برهان عملي على ذلك، فعلى الزمن أن يفهم أن الدين لصيق الإنسان وأن الدين لن يكون في يوم من الأيام حجر عثرة في طريق التطور البشري ما دام الأخير يتعامل بواقعية عقلية معه، المشكلة أذا ليست في الدين بل في عقل الإنسان ذي التوجه المادي الذي يريد أن يخترع ما يسمى بالدين العملي، ليفلت من روحانية ومثاليات الدين الذي نعرفه وبالتالي فهو يبحث عن صورة للدين هو صانعها وفق لقياسات متحولة وليست إلى مبادئ أساسية، وهذا هو الفرق بين أن ندعو للتطور بغياب الدين أو نبقى متشبثين بالواقع الراهن مع محاولة مزاوجة قسرية بين الإثنين.
الأخر الذي يعاني من نتائج تجربة مريرة مع الدين ومتموضع في فهمها الأخير من أن الدين مع الزمن خلاف وإشكاليات تناقض وتضاد، يرى أن تمسك الدين بثوابت وتصورات فكرية مبنية على كليات ومطلق فهمي هو السبب في تناقض الدين مع حركة الزمن، وعليه أي على الدين أن يعيد حساباته في مراجعة نقدية علمية مبنية على فحص تلك الثوابت بمنطق علمي وعملي ومقارنتها بالتطور الكلي والتفصيلي في واقع الإنسان، النتيجة التي سيتوصل إليه بعد المراجعة النقدية ستثبت له أن الدين والعقل الديني والمعرفة المرتبطة بها بحاجة فعلا إلى تحولات جذرية، تحافظ على دور الدين الروحي والأخلاقي تتركز في تقدم هدفية الدين أولا، كونه خادم للوجود البشري بالأصل وإنزاله من مرتبة أهتمامه من قداسة الدين إلى قداسة الإنسان، فلا يعقل أن ما كان تكيفيا لأجل أن يكون الإنسان أفضل حالا بوجوده أعلى في ترتيب الأحترام والتعظيم من الإنسان ذاته، التي جعل الدين منهجا له وليس غاية بحد ذاته.