فلسفة مبسطة: الفاعل والفعل والمفعول به!!

 

 

هل الوجود يسبق المضمون ؟

 سؤال تطرحه الفلسفة وهو موضوع يعرف فلسفيا باللاتينية باصطلاح "أكسيستاليست"  وهي طريقة تبدأ حسبها الفلسفة بالشخص الحي وصاحب الشعور والنشيط، من ابرز مفكريها الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر الذي طرح رأيه بأن الوجود يسبق الجوهر. لم اجد للاصطلاح ترجمة عربية .

الاصطلاح اللاتيني فيه تشعبات فكرية وفلسفية متعددة. لذلك أكتفي بالتفسير الذي ذكرته اعلاه واضيف يانه يعني أيضا "تعريف الانسان على أساس أعماله". وان "أمله الوحيد بأعماله.. وما يجعل حبه للحياة بهذه القوة الكبيرة هو نشاطه الابداعي". حسب طرح فيلسوف الوجودية والكاتب الفرنسي جان بول سارتر  الذي قال أيضا:  " المبدأ الرئيسي ل"الاكسيستاليست" يعني ان الانسان  لا شيء الا  ما يصنع هو من نفسه".

طبعا عالم البشر لا يقع بعيدا عن عالم الأحزاب، لو راجعنا تاريخ زعماء أحزاب وزعماء دول لوجدنا الآية معكوسة اذ أن "الاكسيستاليست" هنا اصبحت "ما يفعله أعضاء الحزب او رجال الدولة من اجل ان ترتفع أسهم زعيمهم".. أي يتصرفون كالعبيد بنفي كامل لشخصياتهم وهذا ينعكس سلبا على تفكيرهم بتحولهم الى أبواق تكرر ما تلقن به ولا تفكر بما تقول، ونماذج من جعلوا من انفسهم ابواقا بلا عقل  كثيرة والبارز هو تفاهة اقوالهم وبدائية تفكيرهم ومستوى لا يليق بثقافة الإنسان المعاصر . هنا من المفيد ان اذكر ما قاله الفيلسوف الألماني من القرن العشرين كارل يسبرس : بأن "الوجود يجب ان يكون به تعادل بين الايجابيات والسلبيات". طبعا هناك اجتهادات أخرى اوجعت رأسي بها ولا اريد ان اوجع رأسكم بها.

لكن بقي أن اضيف ان الفلسفة الوجودية وممثلها سارتر اهتمت بهذا الموضوع، بصفته يعطي تأكيدا على اهمية الوجود،  وهذا ما تفسرة الطرفة التالية:

كان رجلا يعاشر  زوجة صديقه في الفراش حين سمعوا صوت سيارة الزوج تقف في الفناء خارج البيت. قفز بسرعة واختبأ بخزانة الملابس. دخل الزوج، وظن ان زوجته اعدت له مفاجأة لينام معها، فها هي عارية وجاهزة... بدأ بقلع هدومه وأراد ان يعلق بنطاله بالخزانة، تفاجأ من رؤية صديقه داخل الخزانة عاريا، سأله: ماذا تفعل هنا يا صديقي ولماذا انت عاري؟ اجابه صديقه: حسب فلسفة سارتر الوجودية كل انسان يجب ان يوجد بمكان ما !!

حتى نخترق عمق المقولة كما تظهر في السؤال الافتتاحي أعلاه علينا ان نغوص في عمق  أفكار الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر هيجل أحد أهم الفلاسفة على الإطلاق وخاصة الموضوع الذي يعرف ب "المستحيل الهيجلي". وهو موضوع اشغل الفلسفة وقاد الى شبكة واسعة من التفسيرات.

الفيلسوف هيجل فكر بأنه قفز خارج التاريخ، وانه يشاهد حركة التاريخ من فوق وسمى ذلك المستحيل، واشتهر باسم "المستحيل الهيغلي"... أي فقط هيجل هو القادر على تلك الرؤية من خارج التاريخ. سارتر رأى ان الانسان المنفرد يعيش بتوحد مخيف، لذلك قال "ان الوجود سابق للمضمون(الماهية)".

فيلسوف أمريكي فسر هذه الشبكة من التعقيد الفلسفي بحكاية طريفة محاولا ان يفسر المضمون لذلك الاصطلاح. اصيغها بلغتي وفهمي لفن القص:

خرج جمال برفقة صديقه جواد الى رحلة. اثناء تجولهم بإحدى المدن وجدا اعلانا على باب كنيسة يقول: كل من يغير دينه الى الكاثوليكية سيحصل منا على الف دولار!!

جمال تحمس وقال لصديقه : تعال ندخل وسنحصل سوية على 2000 دولار!!

      لن ارتد عن ديني ... قال جواد.

      انا سأدخل ولن اقاسمك بالألف دولار

      انت حر.

دخل جمال الى الكنيسة. مرت الساعات وجمال داخل الكنيسة وجواد ينتظره ..

بعد ان كاد جواد يغادر المكان مللا من الانتظار، ظهر جمال فجأة:

       ماذا جرى بك لتبقى ساعات طويلة داخل الكنيسة؟

-        غيرت ديني .. وتنورت بالإيمان..واشعر بالراحة والاطمئنان

-        حقا؟ يا للغرابة.. كنت سعيدا وغارقا في ملذات الحياة. هل بعت نفسك بألف دولار؟

-        النقود؟.. انا شخص مؤمن الآن... ما قيمة النقود مقابل الايمان؟ الغير مؤمنين من البشر لا يفكرون الا بالنقود؟!

قال احد الفلاسفة: "الايمان السيء هو أيضا ان نرى انفسنا كأصحاب قدرات غير محدودة، وبدون أي قيود على حريتنا".

هل من يراهن على عبثية ذلك؟ هل حقا ان "الانسان  لا شيء الا  ما يصنع هو من نفسه وليس ما يصنعه به الأخرون"؟!مقولة جديرة بالتفكير!!

الذين آمنوا بالماركسية في عقود سابقة ، لا تختلف حالهم عن حال جمال. أشبه بمن غير دينه مجانا، وأبقى الألف دولار لمن يملكون الاف لا تعد ولا تحصى من الدولارات ولا يلتزمون بما أقنعوا جمال به.

ما نراه اليوم ان الطبقات التي يدعون انهم يريدون محاربتها أصبحت تشكل أكثرية داخل صفوف أحزابهم، لأنهم يعرفون من اين تؤكل الكتف...اما طبقتهم العاملة فغائبة عن العضوية وعن القيادة...لا وقت لديها للعبة الألف دولار ... دينها سيبقى عملها!!
ينطبق على هذا الايمان ما كانت تقوم به جارة لنا ، كانت تخرج كل صباح جديد ، وتنظر الى السماء وتقول بصوت مرتفع: "احفظ يا الهي هذا البيت بعيدا عن النمور" وتعود الى داخل البيت. وهكذا مضت الأيام.. والجيران يضحكون من  هذا الرجاء، حتى تجرأت جارة وقالت لها:" يا جارتي العزيزة .. انت تشغلين نفسك بموضوع بعيد عن الواقع، لأنه لا يوجد نمور قريبة من بلادنا، وأقرب نمر الينا يبعد عنا الاف الكيلومترات.. وحتى يصلنا يجب ان يجتاز اراضي وجبال وأنهر وبحار" فردت عليها الجارة: "هل ترين الآن فعالية رجائي"؟

في بداية وعيي كنا نغني في مظاهراتنا العمالية: "عاش حزب الشيوعية وزعيمه ستالين". ترى ما الفرق بين هذه الكلمات ودعوة الجارة من ربها ان يبعد النمور عن بيتها؟

إذن شيء من تفعيل العقل لا يضر. واذا لم يتبق شيء من العقل بل ايمان لخدمة مجموعة انتهازيين، فليحولوا أحزابهم الى طوائف سياسية... هكذا يتطابق الفاعل والفعل والمفعول به!