اصبح تأثير العجز المالي الحكومي على الاقتصاد الوطني معلوما عند المواطن العراقي , التاجر والمستهلك .العجز الذي أصاب ميزانية الدولة العراقية منذ عامين بسبب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية اثر على قابلية الدولة على الانفاق على المشاريع الحكومية , التعينات الجديدة , وعلى تغطية برامج الضمان الاجتماعي. يكفي ان نسوق ثلاثة امثلة على التأثيرات السلبية للعجز المالي على حياة المواطن والاقتصاد الوطني. الأول هو التظاهرات التي عمت عموم إقليم كردستان بسبب تأخر دفع رواتب موظفي الإقليم , الثاني , هو تظاهرات الفلاحين في عموم العراق على تأخر مستحقاتهم والتي طالت اكثر من عام , والثالث , تأخر دفع مستحقات شركات المقاولات في اغلب محافظات البلد , واصبح هناك الالاف من المشاريع الاستثمارية متوقفة عن العمل بسبب شحة التخصيصات . سد العجز المالي عن طريق الاقتراض من البنوك المحلية اجراء مؤقت ولكن ليس بدون كلفة على الاقتصاد الوطني وذلك ان اقتراض الحكومة من البنوك المحلية سوف يقلل رأسمال المتوفر للقطاع الخاص بقدر حجم القرض لدولة. اي عندما تقترض الحكومة مليار دولار من البنوك المحلية , فان القطاع الخاص سيفقد مليار دولار كان بإمكانه اقتراضه واستخدامه في مشاريع استثمارية . بكلام اخر , ان ما تقترضه الحكومة من مال من البنوك الاهلية سوف لن يكون متوفرا للقطاع الخاص , ويؤدي بالنتيجة زيادة النفقات الحكومية على حساب الاستثمارات الاهلية. التأثيرات السلبية على الاقتصاد الوطني سوف تكبر عندما يلتقي العجز المالي مع العجز في ميزان المدفوعات والذي يعرف زيادة المستحقات الخارجية على الاقتصاد الوطني. العجزين يسمى في لغة الاقتصاد "العجز الثنائي " او Twin deficit. نظريا ان العجز المالي هو السبب في العجز التجاري وذلك لان تسديد العجز الحكومي عن طريق الاقتراض الداخلي سوف يؤدي الى ارتفاع في نسبة الفائدة والتي بدورها سوف ترفع من قيمة العملة المحلية بوجه العملات الخارجية. ارتفاع سعر الصرف للعملة المحلية يؤدي بدوره الى انخفاض في قيمة الصادرات (بسبب ارتفاع أسعار السلع داخليا) وزيادة في حجم الاستيراد من الخارج (بسبب رخصها مقارنة مع الأسعار المحلية) , وبذلك فان زيادة الاستيرادات على الصادرات تؤدي الى ارتفاع في العجز التجاري . عراقيا , الاقتصاد العراقي لا يمثل ثقل عالمي , فهو اقتصاد صغير و مفتوح على العالم (نسبة حجم الصادرات والاستيرادات الى حجم الإنتاج المحلي تفوق 100% ), ليس له تأثير كبير على نسبة الفائدة في الأسواق العالمية , وحاجة العراق للاستثمارات العالمية ,جعلت من رأسمال حرية الحركة دخولا وخروجا من العراق . وطالما وان حجم الادخارات في العراق اقل بكثير من حجم الاستثمارات (او الرغبة فيها) , فان نسبة الفائدة على القروض ستكون مرتفعة مقارنة مع العالم الخارجي . ارتفاع في نسبة الفائدة على القروض المحلية قد يؤدي الى تردد المستثمر الداخلي بالاقتراض (ارتفاع أسعار الفائدة لا يشجع المستثمر الحلي) , الا ان ارتفاع نسبة الفائدة في السوق المحلية سوف يشجع المستثمر الأجنبي الدخول للسوق العراقية و سوف يزداد الطلب على الدينار العراقي ومعها تتصاعد الأسعار المحلية للسلع والخدمات. صادرات العراق سوف لن تتأثر كثيرا بارتفاع قيمة الدينار العراقي ولسبب واضح هو ان العراق ليس لديه بضائع مخصصة للتصدير. ولكن ارتفاع قيمة الدينار العراقي سوف يسمح بدخول بضائع اجنبية مستوردة اكثر من حاجته وبالتالي يظهر العجز في ميزان المدفوعات (العجز التجاري) . في مثل هذه الحالة سيكون في العراق ليس نوعا واحدا من العجز وانما نوعين: عجز مالي وعجز تجاري. الأول يوقف التنمية او يعطلها والثاني يقضي على تعاظم الديون الأجنبية على البلد ويسمح بفرض شروط اجنبية عليه , كما يفعل البنك الدولي مع المقترضين . ما العمل؟ لا يوجد نظام ضريبي في العراق يساعد السلطة في التحكم بالاقتصاد وليس للعراق قابلية التحكم بأسعار النفط العالمية (لصغر انتاجه من الإنتاج العالمي) . يضاف الى ذلك ان العراق في وسط التحضيرات العسكرية لتحرير الموصل المختطفة من قبل تنظيم داعش الإرهابي وغياب فرص العمل لنسبة كبيرة من القوى العاملة المحلية مع حوالي أربع ملايين مهجر. أي مساعدة مالية دولية مرحب بها ولكن اخر رقم للمساعدات العالمية للعراق هي لا تتجاوز ثلاثة مليارات دولار وهو مبلغ كبير ولكن صغير جدا لحاجة البلد. الحل الأمثل لمشكلة العجزين في العراق بعد تحرير الموصل هو توجيه ميزانية الدولة نحو الاستثمارات المحلية. هناك على الأقل سببين لهذا الاستنتاج. الأول , هو ان داعش سوف يندحر قبل أعياد الميلاد وراس السنة الميلادية وبذلك تتقلص الأعباء المالية العسكرية على الدولة . سعر دبابة واحدة يساوي بناء خمسين دارا سكنيا. ثانية , ان أسعار النفط سوف لن تستمر على التراجع , حاليا النفط في الولايات المتحدة الامريكية ارخص بكثير من سعر الماء الصالح للشرب , وهذا لا ينفع اقتصاد الولايات المتحدة ولا التنمية الاقتصادية في العالم . لا تستطيع معامل صناعة السيارات في أمريكا و أوربا ببيع سيارتهم في أسواق العالم ما لم يكن هناك نقد في جيوب المواطنين وان استمرار تدهور أسعار النفط سوف لن يساعد ابن العراق او ابن السعودية او ابن فنزويلا شراء ما يحتاجونه من المنتجات الأجنبية. ببساطة ان الشركات العالمية لا تستطيع بيع منتجاتها في الدول الفقيرة ماليا. وعلية فان ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية سوف يؤدي الى سد العجز المالي في ميزانية الدولة العراقية وبدوره سوف يكثر رأسمال المتوفر للقطاع الخاص و بأسعار فائدة رخيصة والتي بدورها سوف ترفع من الاستثمارات الحلية (الاهلية والحكومية) , والذي بدوره يزيد من الطلب على الايدي العاملة و زيادة دخل المواطن . ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية يمكن العراق أيضا من دفع الديون المستحقة والغير مستحقة عليه و بذلك يتحرر من دفع الفوائد السنوية والذي يدعم بدوره ميزان المدفوعات العراقي وبذلك يتخلص العراق من قيود العجزين.
|