في افتتاحية عام واحد وستون للهجرة حطت رحال قافلة غريبة قادمة أرض مكة تحمل معها مشروع خلاص كما حملت مكة من قبل أصل المشروع وجوهره، ليقول صاحب الموكب القادم أن الحياة تجربة كبيرة لا بد لها أن تخضع في كل مرة للنقد، وأن نعود مع كل أنحراف إلى تلك الجادة التي رسمها الخالق لتكون حياة الإنسان مسيرة متواصلة على خط بياني مميز وصولا إلى الفوز التام بما في الحياة من معان وقيم ووظائف، في كل خطوة نحو هذا السبيل كان هناك ثمن يدفعه السائرون دون النظر للفداحة الذاتية بقدر ما يمكن أن يصحح من مسارات التاريخ. هكذا نزل الحسين أرض كربلاء ليس غريبا عنها ولا مستغربا لحاله فيها، ولو قلنا هذا متعمدين الدلالة نكون قد ظلمنا الحسين وظلمن أصل القضية، التاريخ بمفرداته الوثائقية والحية يشير إلى هذه البقعة على أنها "كرب إيل" أو كربلة بمعنى مسجد الله أو حرم الله، بلغة سومر وأكد وبابل فهي جزء من تراث الحسين قبل أن تكون مصادفة حكمتها الوقائع وأختارها عامل جغرافية الطريق، إن هذا النبي أولى بإبراهيم والذين معه هذه الأولوية لم تأت أعتباطا ولم تكن مجرد خطاب ترضية له إنها أمتداد لفكرة إبراهيم وفكرة الخروج من سنة الأكثرية نحو سنة الحق ومنهجه مع تحمل فضاعة وغلاء الثمن سواء في النار والتحريق أو في القتل والتغريب. لا الحسين غريب عن كربلاء ولا كربلاء غريبة عن الإصلاح فكلاهما عنوان أساسي في مسيرة حفظ الكلمة التي ابتدأت من آدم ورددها كل الرسل والأنبياء، كلمة الإصلاح والنجاة والفوز الأبدي في مقارعة جند الشيطان وأحزابه وتكتلاته سواء الواعية منها أو التي تسوقها المنايا والمنى والأحلام سريعة التبخر مع أول خيط من نور الشمس، لم يكن الحسين غريبا بمعنى أنه فقد السند والمستند الذي جاء من أجله ولم يكن ضالا للطريق فوقع في غربة مكان كان وقعه شديدا مؤلما عليه وعلى أصحابه، كان الحسين ع يدرك أنه يمضي على هدى من ربه ومن يمشي على الهدى إنما يختار حرا ولم يخضع للقدر المجهول، فلا غربة ولا غرابة في أن يكون الحسين في وطن يعرف أنه سيكون منارة للحرية أو يرجع وقد أشعل بركان الحرية في أمة تكاد أن تموت من كثر السم التي أحقن في جسدها الشاب اليافع. لقد كان الحسين صوت الإصلاح والعَلَم الذي رفعه القدر ولأن تكون كربلاء محل الصدى الذي لا ينقطع مرددا مقولة (لقد جعلها الشيطان لنا خيارا وجوديا بين السلة والذلة)، هذا الخيار المعروض علينا لليوم ومفروض بقوة القهر والظلم لا يتحقق فيه الفوز إلا بالأنتماء للصوت والأستجابة لسماع الصدى، من موطنه الأصلي ليكون لنا المنبه الذي يوقظنا من غفلة الزمن كلما أنحرف الطريق عن مساره، أو أنحرفت المسيرة الإنسانية الحاملة لجوهرية الحق والإصلاح عن الطريق المعبد، السؤال هل نحن جميعا مهيئين بالقوة لأن نسمع ذلك الصوت الهادئ في نبرته والهادر في أثره وترددات الصدى؟، الوقائع تقول لا والحقيقة الكاملة تقول نعم، وبين الــ(لا) وبين الـ (نعم) تاهت قوافل المحبين تتلمس طرقا فرعية وحافات طريق متربة وكأني بالطريق يقول دع عنك دروب تريد ركوبها وأخلع رداءك وهذا الطريق معبد. مشكلة الإنسان الأزلية يسمه دائما لصوت الذات الداخلي أكثر مما يسمع لصوت الأخر حتى لو كان هذا الصوت ينال قبوله العقلي، لكنه يفضل أن يسمع ما يراه مناسبا لنداء النفس، هكذا ضيعنا صوت الحسين وضيعنا جمال الصدى الذي تردده جدران الزمن من حولنا أن الحسين سفينة نجاة، هل هذا يكفي كمبرر لأن نطيع النفس أكثر لأنها تهوى السهل والميسر وصوت الحسين أمر صعب تحمله كمسئولية أخلاقية أضافة لمسئوليته الإنسانية، هنا أبتكر البعض حلا وسطا يلائم بين الرغبة في دفع الذات لتبني مشروعية الإصلاح متناغما مع حق النفس في التغني بالسلامة فلجأ إلى المزج بين النقيضين في ظاهرة غريبة هي ظاهرة أن نحمل من الحسين الوجه المأساوي الذي أنتهت به رحلته إلى كربلاء مع رغبة غير معلنة بتجاوز حالة الأستفداء والتعالي عن حب الحياة من أجل البقاء، فصرنا بهذه وتلك مجرد أصوات فارغة لا تنبئ عن ميلاد زلزال يهدد عروش الظالمين وأكتفينا بالدموع والآهات المصطنعة لنبرر لأنفسنا أننا سمعنا واعية الحية ونحن نمثل اليوم دور الناعية، فلا واعية دفعتنا للتخلص ن الذلة ولا الناعية نجحت في جرنا إلى وسط الصراط المستقيم
|