يخطئ من يظن أن الثورة هي محاولة الأنفلات القوي من واقع فاسد ومنحرف وظالم والتحول من خلال حراكيتها ومنهجها، إلى واقع رؤية فكرية وعملية ترسم البديل النقيض بأستخدام القوة بمعناها أثر الفعل، لتعيد التوازن المفترض والطبيعي بين عنصري الحق والباطل أو الخطأ والصح، هذا المفهوم مطاط ومشوش وفيه الخلط الكثير بين الثورة كخيار وإرادة وبين فعل الثورة المستمر في الواقع ونتيجتها الحتمية التي لا بد أن تتحقق في ظل حراك الفعل لا حراك الفكرة. الثورة هي بالملخص المبسط ((لحظة قرار عقلي وإرادة حرة على التغيير مصحوبة بتصور البديل العقلي والعملي للواقع وفق منهجية تستمد شكلها من هدف الثورة وغائية الثائر))، وهذا الفهم الذي يعتمد تلمس نتيجة ما هدفها الإنسان أولا ومصلحته الشمولية في ظل تناقضات الواقع والمفترض الطبيعي بناء على حصيلة القراءة والمعطيات التي يكتشفها الثائر، ويبني فكرته هذه ليس كرد فعل بل كفعل ضروري وحتمي لخلل بنيوي في حركة المجتمع، فإن أمكن أكتشاف طريق أخر غير الثورة يحقق ذات النتيجة لم تعد للثورة مشروعية، ولم تحقق الثورة هدفها الأساسي وتتحول من فعل خلاق إلى مجرد عنف وتغيير غير ملزم وغير ناضج وقد يجر إلى أضرار بالإنسان ومصلحته لا تساوي النتائج المتوفرة من فعل الثورة. هنا لمجرد أن تتحول الفكرة السامية لها إلى فعل عملي على الأرض تنتهي الثورة بالتتويج، لننتقل من دور ومرحلة التصميم والإرادة إلى مرحلة فعل الإرادة والترجمة والبسط واقعا، لتمضي في منهجها ووفق أهدافها وشعاراتها وهذا ما يسمى أجتماعيا بالعمل الثوري، وهو في الواقع كحراك ليس من الثورة كجزء بل كواقع أخر مسترشد بها ولكنه منفصل عنها، كون الثورة أفكار نظرية ومثالية تفترض وتمارس حق التدبر بالنقد الإيجابي لراهنية الأهتزاز الأجتماعي وغياب التوازن في حده الأدنى بين المقبول الطبيعي وبين الواقع المنحرف، والعمل الثوري ممارسة على أرض تترجم تقبل أختبار الفكر والبرهنة عليه وتمتحنه دون أن تتدخل الثورة في تنفيذه أو جره إلى برهان. هذه المقدمة مهمة في دراسة شروط الثورة وكيفية التمكن من توصيف أي حركة إنسانية على أنها ثورة أو مقاومة واقع بغض النظر عن القائم بها أو الظرف الضروري الداع لها، فلكل ثورة لا بد من مبرر يمنحها الحق في أن تفرض رؤيتها على واقع المجتمع من خلال العمر الثوري اللاحق لأعلان الثورة وأنطلاق مسيرة الفعل الثوري، ولكن لا يمكن قبل ذلك أن نفترض أنها ثورة أو أنها تمتلك شرطها دون مبرر معقول في حده الأدنى ألا يكون عبثيا وألا يكون خارج سياقات الممكن الواقعي في موازنة بين المقدمات والنتائج أولا وبين العلل والأسباب والنتائج ثانيا، هذه الموازنة ثلاثية الأطراف تمنح الثورة شرطها الأول والضروري، وبغياب المبرر الأساس تفقد الثورة حقها في أن تقود مرحلة التحولات والتغيرات التصحيحية لحالة اللا تواز الأجتماعي بوجود بدائل أو بوجود أعذار حقيقية تمنع من أصلاح الخلل بوسائل أخرى. الشرط الأخر مع توفر الضرورة والمبرر لا بد للثورة من صورة لما يجب أن يكون منهج عملي يستمد واقعيته ليس من الراهن الممكن بل من الراهن الذي يجب أن يكون، هذه الصورة المنهجية يجب لها أن تحمل فكرة النقيض الأفتراضي ضد الواقع أو ضد موضوع محل الثورة الأساس، فليس من المعقول أن تقوم ثورة لمجرد وجود المبرر وغياب الحل وغياب الرؤية لصنع الحل وخلق البديل المناقض، هكذا أفكار لا يمكنها أن تشكل ثورة بل قد تتحول إلى ما يشبه الحاجة للتمرد ولكن بانعدام الوسيلة وإنعدام الغاية من التمرد، وهنا تشكل عملا عبثيا لا يثمر ولا ينتج إلا سلسلة من الأخفاقات الكارثية، عندما تحين لحظة الأستحقاق الوجوبي للبديل ونحن لا نملك جوابا ولا نملك صورة ما عنه، ونتحول إلى ثوريين تجربيين قد نصل أو لا نصل بالثورة لغايتها وقد ندفع الثمن أغلى من ثمن البقاء على الواقع المدان. الشرط الثالث والأهم هو إيمان الثائر بالثورة وأخلاصه للفكرة وقدرته على التحول من ثائر إلى مناضل ثوري، مشكلة معظم الثورات التي فشلت تأريخيا وواقعيا في إنجاح مشروعها تكمن في هذه النقطة، عند غياب الإيمان الجاد والحقيقي بما قامت من أجله الثورة وروحيتها السامية، أو في تخلف أو ضعف الأخلاص الواجب والضروري للفكرة وللمبدأ وللغاية، وأخيرا الفشل الذاتي في التحول من مفكر ثائر مثالي نظري إلى مناضل حقيقي، يتعاط مع الواقع وينتسب له ويعمل بواقعية مع الحراك الثوري المطلوب في لحظته وظرفه الزماني بما يترجم فكر الثورة وهدفها النهائي إلى نتائج على الأرض. السؤال أو الفكرة التي أطرحها هنا أن الثورة تبدأ من الأكتشاف ولكنها لا تنتهي بالتجربة الثورية أبدا، الثورة ميلاد سريع لمخاض طويل، هذه المسافة بين الأكتشاف والأعلان عنها كإرادة هي كل الثورة ومجمل وجودها كخيار عقلي مقاوم فقط، وكل ما يترتب على هذا الأعلان وما ينشأ من فعل حراك القوة ينتمي لروحية الثورة وقد يترجمها واقعا ولكن لا يمكن أن تكون الثورة مستمرة بهذا الشكل، الثورة تحتاج لمبرر وبمجرد أعلانها وفق للشروط ونهوض العمل الثوري تنعدم الحاجة لفكرة الثورة التي تعني مقاومة الواقع لأن الواقع سيتحول إلى حراك ثوري مستمر في فعله، وعندئذ لا يمكن توقع أن نثور على هدف صنعناه ونعمل لأجل تجسيده وإلا فالعقل لا يؤمن بهذا الفهم أن نثور على واقع فعل الثورة. الآن يمكننا أن نفهم الثورة إرادة تغيير حقيقية مستجيبة لحتم ضروري بدي وتملك مشروعها ومنهجها المميز الذي يصل بها إلى غائية سامية تربط بين حفظ التوازن الطبيعي بين مكونات الوجود واستجابتها للطبيعية الأصلية وبين حق الإنسان في رفض صور التقييد والأسر العقلي المعطل لحركة الزمن، قد تكون الثور هنا في أكتشافها للواقع المنحرف تنبع من حس أخلاقي أو ديني أو معرفي أصيل، ولكن من غير المقبول ولا المعقول أن لا تملك الثورة قيم وأن لا تحمل معها قيم دافعة أو أنها تنهض من لحظة خارج الوعي لمجرد عدم الرغبة في البقاء على راهنية الواقع الذي يرفضه من يقرر الثورة أو يقود العمل الثوري، الثورة الحقيقية هي ثورة المثل الواعية ضد أنحرافات النفس البشرية وتخبطها بين الزلل وبين الطغيان.
|