الإعلام الصّهيوني، وأسلحة الخداع الشّامل؟ |
يشكل الإعلام حجر الزاوية في الاستراتيجية الصهيونية منذ قيام الحركة الصهيونية على يد الصحفي اليهودي ''تيودور هرتزل'' الذي استطاع عقد المؤتمر الصهيوني الأول في 1897 في مدينة بال بسويسرا حيث جاء في البند الثالث من مقرراته ''ضرورة العمل على نشر الروح والوعي بين يهود العالم وتعزيزهما لديهم من أجل دفعهم للهجرة إلى فلسطين''. وعمل الإعلام الصهيوني على ترسيخ مقولة رئيسية مفادها أنه ليس للغرب في هذه المنطقة أفضل من الغرب نفسه، كما يتمثل ذلك في ''إسرائيل'' التي اعتمدت منذ البداية على الدول الغربية الاستعمارية والدفاع عن مصالحها وهذا ما أكده الأكاديمي ''جورج رودر'' حيث قال: إن بقاء ''إسرائيل'' كقوة غربية رادعة يعتبر مسألة بالغة الأهمية للدفاع عن أوروبا وعلى المدى الطويل عن أمن الولايات المتحدة الأميركية وهي مستعدة وراغبة في مشاركتنا أهدافنا الدفاعية والغرب مطالب بالدفاع عنها في وجه التهديدات التي تأتيها من الدول العربية التي تستهدفها وتحاول القضاء عليها. فعملية تأليب الرأي العام العالمي ضد العرب وتشويه صورتهم وتزييف حقيقة وعدالة قضيتهم هي سياسة تتم صياغتها بعناية فائقة من قبل المسؤولين الإسرائيليين ساسة وأكاديميين. فقد نجحت الاستراتيجية الصهيونية وعبر وسائلها الإعلامية العربية المأجورة في خلق الشحن النفسي وحتى المذهبي والطائفي وهو العامل المؤثر والأهم، ولعل كل متتبع عربي شاهد مدى الفرح الصهيوني بما يحدث الآن في الوطن العربي، فقد جاءته الفرصة التي كان يحلم بها من قبل. جاءته من داخل الوطن العربي لنشر الفوضى وهو ما كان يعمل على محوره بدأب صامت لفتح طريق (شرق أوسطي جديد) يخدم مصلحة الكيان الصهيوني. فالبروفيسور ''بنيامين عزار'' يقول: ''إن الإيحاء للعالم باستمرار العداء من قبل العرب ''لإسرائيل'' يخدم جملة من التصورات والمفاهيم التي تقوم على أن الدول العربية تريد إبادة ''إسرائيل'' وإزالتها من الوجود وهو شيء علينا أن نعمل على إقناع شعبنا والرأي العام به بكل الوسائل التي بين أيدينا لأن ذلك يعد من مصالحنا العليا''. والهدف من هذا القول هو إضفاء الشرعية على الممارسات الصهيونية البشعة والعدوانية واعتبارها دفاعاً عن النفس ضد الأخطار التي تتهددها كما تدعي. إن الإعلام الصهيوني كان وما زال يتخذ من تلقين الذهن اليهودي بعقدتي الخوف من العرب وادعاء التفوق التكنولوجي والقيمي عليهم وسيلة لتحقيق أهدافه من أجل تنمية الشعور بالحقد والكراهية ضد كل ما هو عربي. ولا شك بأن الأساليب الإعلامية المختلفة التي ينتهجها الإعلام الصهيوني هي دليل واضح على أن الحركة الصهيونية هي من الحركات القليلة في هذا العالم التي أحسنت استخدام سلاح الإعلام، وسخرته لكي يصبح أداة قوية ومؤثرة في أيديها. والأساليب المستعملة في الإعلام الصهيوني كثيرة ومتشعبة ومتداخلة مع بعضها البعض، ولكن جميعها تفي بالغرض المطلوب سواء كان على صعيد الابتزاز أو الاستعطاف، أو أسلوب المناورة. ويرجع نجاح الدعاية الصهيونية إلى عدة عناصر: ـ تعدد المنظمات الدعائية وتنوعها وضخامة عددها واعتمادها التخطيط العلمي. ـ تقوم الدعاية الصهيونية بتوظيف أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، فهم يشكلون جزءاً عضوياً داخل الجسد الغربي على رغم استقلاله النسبي. ومن ثم تبدو الدعاية الصهيونية كما لو أنها ليست وجهة نظر دولة أجنبية وإنما تعبير عن مصالح أقلية قومية. ـ غياب الدعاية العربية وفجاجتها في كثير من الأحيان. ولكن السبب الحقيقي والأول لنجاح هذه الدعاية، هو أن ''إسرائيل'' كيان وظيفي أسسه التشكيل الحضاري والإمبريالي الغربي ليقوم على خدمته، ولذا فهي تحظى بكثير من التعاطف، لأن بقاءها كقاعدة للاستعمار الغربي جزء من الاستراتيجية العسكرية والسياسية والحضارية للعالم الغربي. من هنا نجد أن عملية الدمج الكلي للإعلام بالسياسة الخارجية والعسكرية للكيان الصهيوني في ظل الدعم الغربي إعلامياً وسياسياً ومادياً وعسكرياً تحاول أن تبث في نفوس العرب اليأس والإحباط للتخلي عن المقاومة التي هي الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق المغتصبة وهذا ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ''إسحاق رابين'': ''إن السياسة الإعلامية والدبلوماسية الإسرائيلية يجب أن تنطلق من أن ''إسرائيل'' قد أصبحت حقيقة ثابتة في المنطقة العربية وأن مهمتها تتجسد في مواجهة العرب بتلك الحقيقة على الصعيد العالمي، وتوضيح مقدار عجز العرب في تغيير هذه الحقيقة المؤكدة التي يجب أن يقروا بها ويتصرفوا على ضوئها''. ويتسم الإعلام الصهيوني بسمتين أساسيتين: الأولى أنه دعاية منظمة ومخططة ذات أهداف استراتيجية واضحة، فهي تسبق الأحداث وتواكبها ولا تأتي في أعقابها. والثانية: أنه دعاية تركز على تكرار مجموعة من القضايا والدعاوى الباطلة التي يتم الالحاح عليها لترسيخها في الأذهان وتثبيتها في ذاكرة الإنسان حتى تصبح وكأنها حقائق يجب التسليم بها. وفي هذا الإطار نجد أن الدعاية الصهيونية تركز على استخدام مصطلح ''النزاع العربي الصهيوني'' بدلاً من مصطلح ''القضية الفلسطينية'' لإيهام العالم أن ثمة طرفين متنازعين هما العرب والصهاينة لكل منهما حق في فلسطين وأن نزاعهما يدور حول هذا الحق كما يصر الإعلام الصهيوني على استخدام مقولة ''أرض إسرائيل'' بدلاً من إسم فلسطين ليوحي للعالم أن فلسطين ليست أرضاً فلسطينية بل هي أرض إسرائيلية وأنها ملك لليهود وليس للفلسطينيين حق فيها. من جهة أخرى يستخدم الإعلام الصهيوني منذ أواخر القرن التاسع عشر مصطلح ''الشرق الأوسط'' بدلاً من عبارة الوطن العربي التي تؤكد عروبة هذه الأرض من المحيط إلى الخليج وما ''إسرائيل'' إلا جسم غريب عن الوطن العربي. كما لم ينس العالم ما روجته الدعاية الصهيونية لمقولة: إن العرب يريدون إلقاء اليهود في البحر وكان ذلك تمهيداً للعدوان الصهيوني على العرب في 5 حزيران 1967 ولكسب عطف الرأي العام العالمي وتأييده. لقد برزت إلى السطح في الأشهر الأخيرة في إسرائيل، وفي الساحة الإعلامية فيها على وجه التحديد، ظاهرة تشير إلى اتجاه كبار أصحاب رؤوس المال لوضع يدهم على وسائل الإعلام الرئيسية في إسرائيل، وبشكل خاص الصحف الكبرى ومحطات التلفزة واسعة الانتشار، ما أثار القلق لدى أوساط إعلامية إسرائيلية ترى أن السيطرة المطلقة لرأس المال الكبير على الإعلام الإسرائيلي لا تعني وضع هذا الإعلام في خدمة مصالح كبار الرأسماليين على حساب الشرائح الأخرى، بما يعنيه ذلك من اتساع التصدع الاجتماعي الذي كشفت عنه موجة الإحتجاجات الأخيرة في إسرائيل فحسب، بل إن هذه السيطرة تعري مقولات ''حرية الإعلام والتعبير'' التي دأب الإعلام الصهيوني على تكرارها، والتي تاجرت بها الصهيونية كإحدى الركائز التي اعتمدتها الدعاية الصهيونية، وهي تروّج للمشروع الصهيوني، كامتداد للحضارة الغربية، وكحامل لقيمها في الديمقراطية والحرية، لتبين أن ''الإعلام الحر'' لم يكن إلا أكذوبة أخرى استخدمت لخدمة مصالح النخبة الأشكنازية التي تدير المشروع الصهيوني، متحالفة مع النخب الممسكة بالقرار السياسي والاقتصادي في عواصم الغرب الكبرى الراعية للمشروع الصهيوني. ففي التقرير الصادر نهاية تموز الماضي عن ''مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل'' حول الانتهاكات والتعديات على حرية الصحافة والصحفيين في إسرائيل خلال السنة الأخيرة، أورد التقرير العديد من الأمثلة التي تبين أن ''حرية الإعلام'' شعار وواجهة وقناع تجميل، أكثر بكثير من كونها واقعاً ملموساً، وتكشف هذه الأمثلة عن تدخل من يمتلكون القرار السياسي والاقتصادي والعسكري في عمل المؤسسات الإعلامية بأشكال مختلفة، تظهر على سبيل المثال في العلاقة المشبوهة التي تربط أصحاب رؤوس الأموال من مالكي هذه المؤسسات مع الشخصيات السياسية وزعماء الأحزاب، فصحيفة ''إسرائيل اليوم'' الأوسع انتشاراً يتأثر عملها الإعلامي بالعلاقة التي تربط مالكها المليونير ''شلدون أدلسون'' برئيس الحكومة الصهيونية ''بنيامين نتنياهو''، وبرز ذلك على سبيل المثال في تغطيتها المنحازة للاحتجاجات الاجتماعية ولإحراق متظاهر لنفسه في سياق هذه الاحتجاجات، كما تبرز أشكال التدخل في الأداء الإعلامي في تهديد الوسائل الإعلامية بالإغلاق والابتزاز عند تطرقها لموضوعات لا تروق للحكومة اليمينية، فقد تم تهديد القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي بالإغلاق ما لم تقم بإعفاء صحفيين انتقدوا الحكومة وكشفوا بعض فضائح الفساد فيها، وأشار التقرير إلى ما تعرض له المراسل السياسي ''رافيف دروكر''، الذي قدم تحقيقاً حول سفريات ''نتنياهو'' وتمويلها من قبل جهات خاصة خلافاً للقانون. كما تبدى هذا الابتزاز، المختبىء وراء بعض الإجراءات البيروقراطية، في فرض طريقة عرض الاحتجاجات في القنوات التلفزيونية وفي المحطات الإذاعية وهو ما تحدث عنه ''فيرد بيرمان'' العضو فيما يسمى رابطة الصحفيين في القدس. هذا بخلاف تدخل المتحدث العسكري الذي لا سبيل لمواجهته في عمل أقسام الأخبار في الوسائل الإعلامية المختلفة، وبشكل يعيق عمل الصحفيين في تناولهم للموضوعات المتعلقة بالجيش بشكل ملائم، على حد تعبير التقرير. ومن أشكال التضييق على الصحافة والصحفيين، محاولة تعديل بعض القوانين، وتمرير قوانين أخرى، وتزداد وطأة هذا القيد مع إحكام اليمين سيطرته على الحياة السياسية في إسرائيل، وعلى سبيل المثال، يظهر استطلاع أجراه ''مركز كيشف'' أن 80 في المائة من الصحفيين يرون أن تعديل القانون المسمى ''قانون القذف والتشهير'' والذي أقرّ بقراءته الأولى في الكنيست والذي يتوقع أن يقر دون كبير صعوبة، ليشكل تهديداً خطيراً لحرية الصحافة، وأنه سيضعف التحقيقات الصحفية والمقالات الانتقادية في وسائل الإعلام. ولا ينسى التقرير الإشارة إلى ما يتعرض له الصحافيون الأجانب والفلسطينيون من قيود واعتداءات وإهانات، متضمناً ما قدمته السكرتيرة العامة لاتحاد الصحفيين الدولي ''غالينس شوغرمان''، من شهادة في هذا السياق. في التقرير وأمثلته التي لم يتسع المجال إلا للإشارة لبعضها، ما يؤكد أن حرية الصحافة في إسرائيل ما تزال، رغم كل مقولات حرية التعبير المدعاة، وكما يقول التقرير، غير مكرسة في تشريع رئيسي، ولا حتى في تشريع أو قانون ثانوي، وهي تعتمد أساساً على قرارات المحكمة الإسرائيلية العليا، ما يجعلها عرضة للتهديد والانتهاك بصورة دائمة، لاسيما أن هذه المحكمة باتت هدفاً معلناً لليمين المتطرف، وربما لا تستطيع أن تحمي نفسها. إنها شهادة أخرى يضيفها تقرير ''مركز كيشف''، تثبت أن ''حرية الإعلام والتعبير'' التي طالما تاجر بها الخطاب الصهيوني، زاعماً تفوق الإعلام الصهيوني حتى على الإعلام الغربي الذي استلهم نموذجه بداية، ليست إلا وهماً آخر استخدم للتضليل، فالإعلام الصهيوني ما هو إلا وسيلة لخدمة النخبة الاشكنازية التي تدير المشروع الصهيوني، لا يغيّر من ذلك أقنعة ''الحرية'' التي تسقطها شهادات الإسرائيليين، قبل غيرهم. وهكذا يقوم الإعلام الصهيوني بتلبيس الحق بالباطل وتصوير الضحية جلاداً والقتيل قاتلاً لتضليل الرأي العام وقلب الحقائق وطمسها وفي هذا الإطار يصور هذا الإعلام ''إسرائيل'' قانون ''جيسو'' الفرنسي الصادر عام 1990 والذي يسمح بمقاضاة المتهمين بمعاداة اليهود أو ما يعرف باسم معاداة السامية في خنق حرية الرأي لكل من يتجرأ على انتقاد السلوك الإسرائيلي، فقد مثل أمام القضاء الفرنسي عدد من المفكرين والكتاب والأدباء العرب والغربيين بتهمة التحريض على معاداة اليهود ومنهم الصحفي ''إبراهيم نافع'' والمفكر الفرنسي ''روجيه غارودي'' وغيرهما. يقول الباحث الفرنسي ''دونيس سيفير'' في كتابه الحرب الإعلامية الإسرائيلية الجديدة في الحرب، ''يجب أن يكون ثمة إعلام كامل يؤدي ذات الدور الذي تؤديه البندقية والطائرة النفاثة والقنابل التي تسقط آلياً على الضحايا، لأن الحرب سوف تكون مخططاً مدروساً يجب التحكم من خلاله والذي يرتبط فيما بعد بالعامل النفسي للصهاينة ومن ثم المجتمع الدولي الذي لا يجب أن يرى الحرب كما هي حقيقة بل كما يبثها له الإعلام الصهيوني فقط أي حرباً ''نظيفة'' لا يموت فيها سوى الإرهابيين''. ويوضح ''سيفير'' الدور الخبيث لهذا الإعلام وكيف أنه يعتمد على مبدأ أكذب حتى يصدقوك والذي بكل أسف ـ كما يقول الكاتب ـ انحازت إليه دوائر إعلامية غربية كثيرة صدقت الخبث الصهيوني القائل إنه يدافع عن نفسه من الإرهاب والذي أيدته في حربه هذه كل الوسائل الإعلامية وغير الإعلامية الأميركية التي بدورها تخوض نفس اللعبة القذرة في كل من العراق وأفغانستان وأصبح الإعلام الجديد يدافع عن المجرمين على حساب الضحايا متناسياً أن صورة الضحايا أخطر وأكبر. يقول البرفسور الأميركي ''هودين'': في كتابه ''سياسة التحكم'' أن التحكم بعقول الناس هو خداعهم بشكل منظم جيداً'' ويقول: ''كلما زاد اطلاع الناس، كلما صعب التحكم في وعيهم، لذلك يبثون ما هو بديل للأخبار الفعلية كالأخبار الناقصة غير الموثقة والمحرفة عبر مثلاً شهود العيان والمراسلين الخاصين، والمدونين وغيرهم، وبقدر غياب الحقيقة يمكن التحايل على الوعي. ويلجؤون إلى الغش ـ وفبركة الوثائق لتصبح مزورة ويتم استخدام المونتاج في الصورة يدخل عليها عنصر التزوير، وكذلك التركيز على أحداث هامشية مثيرة لتحويل الاهتمام عما هو رئيسي في الحدث، وأحياناً يتم افتعال أحداث ليست ذات قيمة وتصويرها وكأنها فائقة الأهمية''. فالإعلام الصهيوني يحوّل الضحية إلى جلاد والعكس صحيح، وثمة أسلوب خطير وهو تضخيم الحدث والأرقام أكثر بكثير مما هو واقع، المهم البحث عن صياغة للخبر ليصبح جذاباً ومثيراً، ولو كان ملفقاً حتى يتفق مع واضعي السياسة الإعلامية مسبقاً. يقول أحد المفكرين:'' في مجال الظواهر الاجتماعية والأحداث الكبرى، لا يوجد مثال أكثر انتشاراً وأكثر نفاقاً من أبراز بعض جوانب الواقع وإخفاء الجوانب الأخرى، هذا لعب في الأمثلة من الضروري ليس انتقاء بعض الحقائق بل جميع جوانب الظاهرة وربطها مع بعضها البعض، ودون ذلك سيظهر حتماً الشك في المصداقية، والانتقاء المتعمد لبعض الجوانب هدفه تشويه الحقيقة''. والعائد للتاريخ يستطيع أن يلمس أن الإعلام العربي لم يكلف نفسه عناء التصدي للدعاية الصهيونية في الغرب في الوقت الذي استطاع فيه الإعلام الغربي إقناع الرأي العام هناك بأن ما يفعله العرب أمر فيه تعصب وعنف وعدوانية، و فوق هذا مناهض للسامية... وأن إسرائيل هي الحليف الغربي الوحيد في الشرق الأوسط، ولذلك غنمت ما يسمونها بالدولة العبرية مئات المليارات من جيب دافع الضرائب الغربي، وبالذات الأميركي، الذي أعماه إعلامه عن السؤال البديهي: لماذا أدفع من جيبي قوت دولة أخرى بيني وبينها آلاف الكيلو مترات؟ وأصبح الفلسطينيون يضطهدون من جانب إسرائيل دون أن يرفع صوت واحد في الغرب لنصرتهم، فصورة الفلسطيني الذي استطاع الإعلام الغربي أن يرسمها في ذهنية الرجل الغربي هي عدواني وغريب ومتصلب وإرهابي وهو بلا شك المتسبب في تعطيل عملية السلام. إننا إذاً أمام قضية لا يمكن أن ندير رؤوسنا عنها، الإعلام الغربي التي تتحكم في مفاصله الصهيونية، حقيقة مؤلمة في حياتنا السياسية والثقافية ولن تنفع محاولات التقليل من شأنه وقدرته على الإساءة إلينا... إنه قوة هائلة، عريقة في النشوء، مذهلة في التطور كاسحة في التأثير تغطي القارات الخمس بلا منازع لتزرع في أذهان الشعوب ما تشاء في الصور، وتدفع بهم إلى ما تشاء من المواقف، لا تبالي في ما تتناوله من أحداث العالم بالعرض والتحليل إلا ما تراه خطأ أم صواباً معبراً عن قناعاتها. ما العمل إذاً كي يواجه العرب الإعلام الغربي الموجه من قبل الصهيونية، مواجهة عقلانية تمنح دفوعهم مصداقية القبول بعيداً عن انفعالات الكبرياء. أعتقد أن سبيلنا إلى ذلك أمران: تحصين الجبهة الداخلية من خلال استكمال النقص والإصلاح والحوار المتواصل الهادئ مع الإعلام الغربي على اختلاف مشاربه. وقد رأينا كيف تعمد الدول الكبرى إلى الاستعانة بالإعلام وهي تعد لعمل سياسي ضخم من أجل تهيئة الرأي العام الداخلي والخارجي لقبول ذلك العمل وتأييده كما حصل في أفغانستان والعراق، ولن يفيدنا في شيء أن ندفع بالقول إنها حملات مغرضة بل علينا أن نرصد باهتمام مواقف وسائل الإعلام ونفتح معها حواراً صبوراً طويل النفس، هادئاً، نبدأه، بالخصوم قبل الأصدقاء ونتيح لها مداخل الاطلاع على ما تريد حتى لا يدفع بها انغلاقنا على النفس لتصورات واهمة واجتهادات خاطئة أو شائعات يروج لها المرجفون. إن التحديات التي تواجهها المجتمعات العربية اليوم، تستدعي تفعيل دور الإعلام العربي لينهض بدوره التثقيفي المطلوب، وإن كان هذا الإعلام يمر بمخاض عسير نتيجة ارتباط بعض وسائله في فلك المؤامرة ضد الشعوب العربية التي تقف بوجه المشروع الصهيوني في المنطقة العربية. وبكل الأحوال هنالك جملة عناصر لرسم استراتيجية إعلامية عربية تتمثل في رسم خرائط معرفية للاتجاهات الإيديولوجية في الوطن العربي، ولعل أهمية هذه الخرائط أن تقضي على التعميمات الجارفة عن العرب والمسلمين التي تصوغها الدوائر الغربية السياسية والثقافية والإعلامية. |