الحسين ثورة مبدئية

 

ينطلق الإنسان المؤمن في مواقفه وممارساته من التطلع لرضا الله سبحانه وتعالى، ويسعى لكي تكون كلّ أعماله وكل ممارساته متطابقة مع أوامر الله، وحينها يستحق الأجر والثواب، ويسبغ الله على عمله البركة والتوفيق. وهذا ما كان لثورة أبي عبدالله الحسين (ع) الذي نعيش هذه الأيام ذكرى عاشورائه المجيدة.

إنّ من أهم الأسباب لبقاء هذه الثورة المباركة أنها كانت مبدئية وإلهية في كل منطلقاتها وممارساتها. إنها لم تنطلق من أجل مصالح شخصية أو فئوية، ولا انبثق أيّ تصرف أو ممارسة ضمن الثورة من منطلق التشفي أو الانتقام أو الانفعال الذاتي، وإنما كانت تصرفات الإمام الحسين (ع) ومن معه من الأصحاب تنطلق من حيث يرضى الله سبحانه، لذلك استحقت الخلود وأصبح الإمام وأصحابه الثائرون خالدين مخلدين في ضمير الأمة والتاريخ.

قد تستفيد الأمة والمجتمع من تحرك إنسان أو جهة ثائرة معادية للظلم والطغيان، أيًّا كان هذا الشخص، كما ورد عن رسول الله A: «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ» ]البخاري، ج3 ص 73 ح 4203[، وعنه أيضًا: «ينصر الله هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة»] بحار الأنوار،  ج ٩٧ ص ٤٨[. قد يواجه إنسان الظلم فيثأر لنفسه ولمجتمعه، فتكون حركته مفيدة لمجمل واقع الأمة، للحدّ من سيطرة الظلم وردع الظالمين. لكن الثائر والمعارض لا يستحق التقديس إلا إذا كان مبدئيًا ملتزمًا قيم الدين، وهذا ما تحقق في ثورة أبي عبدالله الحسين (ع). وأول أمر صرّح به أنه خارج لله تعالى طلبًا للإصلاح: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"] بحار الأنوار، ج ٤٤ ص ٣٢٩[، وقال في موقع آخر: "رضا الله رضانا أهل البيت"] الأنوار، ج ٤٤ ص٣٦٧[، انطلاقته من أجل الله تعالى، لذلك كان الحضور الإلهي ملازمًا له في كلّ تحركاته أثناء نهضته المباركة.

الاتصال الدائم بالله تعالى:

ونحن كأتباع له، حينما نقرأ أو نسمع سيرة الحسين (ع) يجب أن نتأمّل في مدى حضور الله تعالى عند الإمام الحسين في كل لحظة وكل حركة.

في وسط المعركة يحين وقت الصلاة، وبالرغم من قساوة تلك اللحظات وأخطارها، يطلب إيقاف الحرب حتى يؤدي الصلاة في وقتها. ولم يكن اهتمام الإمام بالصلاة المفروضة وحسب، بل كان (ع) يهتم حتى بأداء النوافل، فحينما زحف الجيش الأموي عصر اليوم التاسع من المحرم نحو مخيمه، طلب من أخيه العباس وأصحابه أن يذهبوا لمخاطبة ابن سعد لتأجيل المعركة، إلى صباح غد، لا لكي يكسب ساعات إضافية في الحياة، وإنما لكي يتودع من العبادة والمناجاة: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غداة، حتى نصلي لربنا الليلة، وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له والدعاء وتلاوة القرآن". وبالفعل حينما أعطوا تلك الفرصة بات الحسين (ع) وأصحابه تلك الليلة منشغلين بالعبادات، باتوا ولهم دويٌّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وتالٍ للقرآن وداعٍ لله سبحانه وتعالى.

وحتى في اللحظات الصعبة والحرجة كان لسان الحسين (ع) يلهج بذكر الله، وقلبه متصلٌّ بالله تعالى. في صبيحة اليوم العاشر من المحرم دعا (ع) بهذا الدعاء الذي تنقله كتب السيرة: "اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت [فيه] العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمّن سواك ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة "] بحار الأنوار، ج ٤٥ ص ٤[.

وحينما يقع (ع) صريعًا على الأرض، ويستقبل الموت بعد أن أصابته سهام القوم وسيوفهم، ونالت من جسده الشريف ما نالت، فإنه لا ينشغل بنفسه، ولا تسيطر عليه آلام جسمه، وإنما يتجه إلى الله تعالى: «صبرًا على قضائك يا ربّ! لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي ربٌّ سواك، ولا معبود غيرك، صبرًا على حكمك يا غياث من لا غياث له، يا دائمًا لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائمًا على كل نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين»] موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)،  ص ٦١٥[.

علينا أن نأخذ هذه الدروس من أبي عبدالله الحسين (ع) ومن حركته، بأن نتمسك بالقيم والمبادئ، وأن نحرص على اتصالنا بالله سبحانه وتعالى، في كل خطوة نخطوها، وفي كل حركة نتحركها. إن بإمكان المؤمن أن يجعل نومه عبادة، وأكله وشربه كذلك، إذا توجه لله سبحانه وتعالى، فضلًا عن سائر أعماله وأنشطته كما يقول تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين).