مشــــاكسة : جمهوريـــــــة (افلاســـــــيون)

 

 

 

عندما حلم افلاطون بإقامة مدينته الفاضلة على أسس مثالية من الحريات والحقوق والقانون والعدالة حد الثمالة، قبل اكثر من (2300) سنة، لم تكن اليونان في ذلك الزمن الغابر المكتظ بالفلاسفة والمفكرين النوادر، وفي تلك الايام المميزة بالأمان والاستقرار والسلام، من عام (380 قبل الميلاد) قد عرفت الثروة النفطية، ولا الرشى والسياسة (اللفطيـــة)، ولا جولات التراخيص المشبوهة والحصص والعمولات ولا بيع الاوطان بأبخس الاثمان، حيث لم يكن ساحرالاكوان، (الــــدولار)، قد ولد بعد ليمسك بناصية الزمان وليهز نزاهة الانسان ويتحكم بقرارات السياسيين والحكام و يرسم اتجاهات وقناعات وقرارات القضاء والبرلمان في أي دولة من ذلك الزمان، لذلك كان مصير (جمهوريــــة افلاطـــــون) الخيبة والخذلان، وبقيت مدينته الفاضلة منذ قرابة ثلاثة آلاف سنة، مشروعا معلقا على ذاكرة الاكوان يقاوم عواصف النسيان، حتى شاء الزمان وبعد (2396) عاما من وضع افلاطون اُسس جمهوريته العتيدة، أن تنبثق منظومة حكم جديدة، قادرة على تحقيق تلك الاحلام الإنسانية المجيدة بطريقة فريدة، لتولد بدل (جمهوريــة افلاطـــون ، جمهوريـــة افلاســــيون)، معلنة عن أعمق مآسي (الافــــلاس) القاتلة، في بلاد تمسك بين يديها قوة اقتصادية هائلة، ممثلة برابع احتياطي نفطي في العالم.     ففي الوقت الذي بلغ فيه مجموع ميزانياتنا السنوية للاعوام (2003- 2015) قرابة (911) مليار دولار كانت كافية لبناء (دول فاضلـــة) وليس دولة أو مدينة فاضلة واحدة، (بشــــرنا) السيد محافظ البنك المركزي قبل ايام، بأن (ايراداتنـــا النفطيـــة غيــــر قـــادرة علـــى تغطيــة رواتــب موظفـــي الدولــــة) في وقت لم تستطع فيه ميزانياتنا السنوية الضخمة التي ارتفعت من (14) مليار دولار عام (2003) لتمسي في عام (2014)، أضخم ميزانية في تاريخنا الوطني أذهلت بضخامتها الاعداء قبل الاصدقاء حيث بلغت (150) مليار دولار، ان تبني لنا ولو (قريـــة فاضلـــــة)، وهذا ما دعا تلك الميزانية الفلكية ان تتوارى عن الانظار خجلا، نظرا لفشلها الذريع واحباطها المريع، وان تختفي على أيدي (فرســـان) الحكم (المخلصيــــن) في جهة مجهولة دون أن تترك وراءها حتى ايصالات الحسابات الختامية لمصاريفها السنوية، ولتكون بحق أول ظاهرة (فلكيــــة) ربما تدخلنا موسوعة غينيس للأرقام القياسية باختفائها العجيب، وبحالة الصمت المريب، تجاه ذلك (الانجـــاز الوطنـــي) الغريب.

يا سادة يا كرام، في الوقت الذي بلغ فيه مجموع مبالغ ميزانياتنا السنوية خلال السنوات الماضية ارقاما خيالية، بيد ان تلك المبالغ الفلكية كما يبدو قد افقدتنا توازننا وصادرت منا حكمة تصرفنا وأضاعت من أقدامنا خطوط سيرها وأفسدت بوصلة اتجاهاتنا، ودفعتنا كحال الطفل المشاكس، للسير في الاتجاه المعاكس، لذلك، وبفضل (حكمـــة) بعض سياسيينا وحكامنا وبرلمانيينا ومسؤولينا، فقد (نجحنــــا) بشكل مثير ومنقطع النظير في قلب المعادلة (الطرديـــة) التي تحكم منذ قديم الزمان العلاقة الجدلية بين الموارد المالية والاوضاع الانسانية القائمة على اساس (كلمــا زادت المـــوارد ازدادت رفاهيـــة الانســـان), وحولناها باقتدار يعجز عن فهمه الصغار والكبار، الى معادلة (عكســية) مفادها (كلمــا زادت المـــوارد الماليـــة إزدادت معهــا المعانـــاة والاوجــاع والكـــوارث والمآســـي الانســانية)، وهذا ما يفسر فشلنا في توظيف (911) مليار دولار ليس في بناء (مدينـــة فاضلـــة) بل اننا فشلنا في بناء (قريـــة واحـــدة فاضلـــة)، وعلى العكس من ذلك، فقد (نجحنــا) عبر جرائم التهجير والنزوح جراء الاعمال الارهابية الجبانة في مضاعفة أعداد المخيمات البائسة والجموع اليائسة وسكان أكواخ الطين والصفيح بسبب غول الفساد السياسي الذي نجح في مد أذرعه واصابعه الى كل مكان لينتج اجيالا جديدة من الفساد والفاسدين وليلتهم بشراهة حقوق المواطنين، لاسيما الفقراء والمعدمين وما كوكبة الاطفال الشهداء في حريق مستشفى اليرموك الا شهادة العار بوجوه كل الفاسدين من بين السياسيين والبرلمانيين والمسؤولين الى يوم الدين.

 الى ذلك فان من بين (انجــازات حكوماتنــا الثوريـــة) في بناء (الدولـــة النموذجيـــة) عبر(توظيـــف) مواردنا وعائداتنا النفطية و(تنشــيط) حيوية فعالياتنا الاقتصادية و(توســيع) رقعة مساحاتنا الزراعية، ودعم النشاط الخاص والارتقاء بالفعاليات الاستثمارية والسياحية، وتنويع مصادر الدخل الوطني، غياب الخدمات وانقطاعات التيار الكهربائي وتردي الخدمات الصحية والبلدية والتعليمية وفرض الرسوم والضرائب والاستقطاعات المالية من رواتب الموظفين والمتقاعدين والعجز عن استرداد الاموال الوطنية المسروقة من الفاسدين، وتجاوز أعداد النازحين والمهجرين ثلاثة ملايين ونصف المليون انسان، وتجاوز أعداد اليتامى وفقا للمنظمة الدولية الاربعة ملايين، وتجاوز عدد الارامل الثلاثة ملايين وتجاوز البطالة نسبة (11%) و(إصـــرار) ستة ملايين مواطن على العيش (برفاهيـــة مفرطــــة) تحت خط الفقر اللعين، وتواصل العنف وإرهاب الدواعش المجرمين في حصد ارواح الابرياء المدنيين، في وقت ما نزال فيه ضحايا لخلافات السياسيين ولحروب الاتهامات بين المسؤولين والبرلمانيين وما يزال فيه الفاسدون يسرحون ويمرحون يسارا ويمين, دافعين البلاد للغرق في بحر الإفلاس اللعين لنمسي مسخرة للآخرين، فبعد ان كانت بلادنا صاحبة مئات المليارات أمست (بهمـــة) الفاسدين تستجدي الملايين، وبعد ان كانت من الواهبين وهي تمد يدها لمساعدة الآخرين، أمست تمد أيديها متسولة, بمذلة, المساعدات من الآخرين، كأي متسول يتوسل الذاهبين والقادمين (للـــه يامحســنين).

 حسبي الله على المسؤولين الفاسدين، الذين بدل أن يجعلوا من دولتنا بمثاليتها وقيمها وثرواتها أشبه بـ( جمهوريـــة افلاطـــون)، سرقوها ونهبوها وجعلوها (جمهوريــــة افلاســــيون).