الأديب الراحل جعفر سعدون لفته الجامعي وحديث عن الحياة والموت والغربة في الوطن. القسم الثاني.

كتب الشاعر الراحل جعفر سعدون قصائده بطريقة العمود وبطريقة التفعيلة وأحيانا بطريقة النثر فلا فرق عنده بين المضامين الثلاثة مادام الشاعر يمتلك أدواته ، ويرقى بمضمون القصيدة إلى روح الشعر بعيدا عن الإسفاف والصور الباهتة ، والتزويقات اللفظية العائمة . فالشعر هو فهم للوجود وغوص في  أعماقه لاستخراج اللآلئ والدرر منه. ويتحقق للشاعر نتيجة 
لمعاناة وسهر ناتجين عن ثقافة رصينة تراكمت من خلال مطالعاته المستمرة لفهم حركة التأريخ والمجتمع. وحين يتحقق هذا المبدأ تفرض القصيدة نفسها على الشاعر.
لقد كانت جل قصائده بمثابة وضع الإصبع على الجرح لكشف فساد هذا العالم وماديته القاتلة لكل المشاعر الإنسانية الخلاقة وجنوح الإنسان المعاصر نحو رحلة الخواء المادية التي لاتنتهي إلا بالموت دون أن يقف في إحدى محطات الحياة ليتأمل ويراجع نفسه لتوجيهها الوجهة الصحيحة في الحياة. والقصائد التي كان يكتبها الشاعر هي بالنسبة له صرخة الاحتجاج التي تتأجج بين جوانحه على عوامل الإستلاب والقهر والزيف الذي إستشرى كالنار في الهشيم .لأنها كانت أداته الوحيدة التي يمتلكها والتي يستطيع أن يعبر بها عن كوامن نفسه، وخلجات روحه، وإرهاصاته الوجدانية. وغالبا ما كان يستعمل الرموزالتأريخية ويوظفها بصورة جيدة في قصائده وكأنها تصبح جزءا لايتجزأ من القصيدة. وكان كلما يكتب قصيدة يراجعها مرات ومرات إلى أن تكتمل مبنا ومعنى ليقول عنها: (لقد اكتشفت لؤلؤتي الجديدة  لتطرق باب هذا هذا الصمت الموحش الذي يلف المكان الذي أكتب فيه ويدفعني لأكون أكثر إصرارا وعزما على مواصلة الحياة رغم الألم الذي يطوقني)   وكان يردد دائما :  
(إن القصيدة تمثل إكسير الحياة لقلبي المتعب.أتنفس عن طريقها الأوكسجين الذي ينعشه، وأستمد منها إصراري على البقاء. ولا يمكنني الإستغناء عنها مهما قست علينا الأيام وآدلهمت الخطوب فالفجر آت ليشرق علينا لكي نعانقه عناق الحبيب لحبيبه الذي حجبته عنا غيوم داكنة.)
ففي قصيدة (عناق الفجر )يقول: 
مرت   الأعوام  تعبى  مثلنا
فغدونا   نكرع   الهمً  دِهاقا 
أيها     السائل    عنا   إننا
نعشق الفجر وإن ملً  العناقا 
وهذان البيتان لهما شبه في المعنى بقصيدة الشاعر الجاهلي امرئ القيس التي يقول فيها رغم بعد الزمن والمسافات والغرض 
ألا ايها الليل الطويل ألا  انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ 
فجعفر سعدون يتلهف دوما لعناق الفجر، وينتظره على أحر من الجمر في ليله الطويل بلهفة الشاعر المستهام ليعانقه لكن الفجر  لايطل عليه بيسر لكثافة الظلام الذي يمثله حكام الإستبداد .
وحين كان الملك الضلّيل يخاطب الليل ويطلب منه أن ينجلي بصبح مشمس لكنه رغم تمنياته لايأمل من ذلك الصبح شيئا مبهرا له لأن حياته ستظل جافة قاحلة كجفاف تلك الصحراء القاسية الممتدة لمسافات شاسعة وجعفر سعدون الذي ينتظر الفجر وإن طالت ساعات الإنتظار. لكنه متيقن إن هذا الفجر الطافح بشموس جديدة لايمكن أن يختفي إلى الأبد مهما تكالب عليه عشاق الظلام.
ورغم أعوامه السبعين التي قضاها في وطنه بكل مافيها من تعب وقهر وشقاء ومرض فإن جعفر سعدون لم يكن يرغب أبدا أن يستريح من رحلته الشعرية الطويلة. ولن يستسلم لليأس الذي يولد الصمت والإحباط القاتلين للنفس البشرية . ورغم قلبه المتعب فإنه كان يشعر أن عوده مازال مورقا ،ونفسه تتطلع إلى عالم تسوده العدالة ومن خلال هذه الرؤيا ظل تدفقه الشعري مستمرا رغم هاجس الموت الذي كان يلاحقه في كل لحظة من لحظات حياته حيث يقول في قصيدة بعنوان (الرحله): 
ففي  النفس مازالت   بقيةُ   خفقة  
تراود هذا القلب أن يقرض  الشعرا  
وتغريه  أن  العود   يختال   مورقا
وأن  حثيثَ  الخطو  لم يقرب القبرا
و في قصيدة أخرى بعنوان (خيال عابث) يستخدم بحر الرمل المتسارع في قصة حب عابرة ربما رآها في المنام أو مرت من أمامه كحلم فأثارت مكامن شوقه، وحركت أحاسيسه ومشاعره الإنسانية التي تتأجج بتلك العاطفة الإنسانية المشبوبة. وهذا هو شأن الشعراء الذين يحلمون بعالم يسوده الحب وتؤطره الأحلام الإنسانية المشروعة وهي التي تبقى ممتزجة مع دمائهم منذ أن خلق الله آدم : 
ماالعمر     إلا   رحلة   قدسيةٌ  
ربانها الحبُ والأحلامُ والشعراءُ. 
وجعفر سعدون رغم (سبعينه) التي يرمز إليها في الكثير من قصائده وهي رمز للموت استخدمه كما اعتقد يعجب كيف التقى العمر بالحب الذي سرعان ماأصبح سرابا ووهما حيث يقول: 
بعد سبعين تحسست الغراما 
عجبا والدهر يقريك الحِماما 
عجبا  والعيش  ولّى  غضُهُ
وبجنبيه    تحولتُ    حُطاما 
عجبا  رفةُُ   ضلعٍ    تغتلي 
فتحيلُ الريًّ مشبوبا   أواما 
عجبا  يانفسُ  من   أيقظَها 
نزوةً أضحت تحاكيك هياما 
كان وهما  من  خيال عابثٍ 
قال   لغوا  وأجبناه  سلاما 
ولاشك أن الشاعر الراحل قد قرأ قصيدة (الأطلال) للشاعر المصري إبراهيم ناجي وتأثر بها وفهم معانيها. ففي القصيدتين العديد من وجه الشبه في المعنى وكلاهما من بحرالرمل.     
حيث يقول الشاعر جعفر سعدون : 
كان وهما من خيال عابث 
قال  لغوا   وأجبناه سلاما 
ويقول إبراهيم ناجي في مطلع قصيدته الأطلال : 
يافؤادي  رحم  الله   الهوى 
كان صرحا من خيال فهوى 
ولو تتبعنا القصيدتين وهما طويلتان لاكتشفنا الكثير من توارد الخواطر والشبه بينهما وهذا أمر جائز في الشعر. فالشاعر المتنبي عندما اتهمه أحدهم بأنه أخذ بعض المعاني من قصيدة للبحتري أجابه : (الشعر جادة وربما وقع الحافر على الحافر). 
وفي قصيدة أخرى بعنوان (هذا ماكنت عنه أحيد )وهي قصيدة فلسفية طويلة يعاتب بها الشاعر الزمن الذي لم ينصفه، ويخاطب الليل والفجر والبرق والشرر والسًحَر وكأنه يرثي نفسه كما رثى الكثير من الشعراء أنفسهم على مر التأريخ وأبرزهم الشاعر مالك بن الريب المازني التميمي حين أحس بالموت فرثى نفسه. فقال قبل موته :
ألا   ليتَ   شِعري   هل   أبيتنَّ   ليلةً 
بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فَليتَ  الغضى  لم يقطع الركبُ عرْضَه 
وليت  الغضى   ماشى  الرِّكاب  لياليا
ويقول الشاعر جعفر سعدون في هذه القصيدة الفلسفية التي أعتبرها مناجاة لرحلة نفسه الهائمة والباحثة عن عالم نقي بعيد عن الزيف والقهر والأوجاع الإنسانية من خلال بصيص الأمل الذي يراوده وقد امتزج الرثاء مع هذا الأمل البعيد المنال وكأن لسان حاله يردد بيت المتنبي:
تراني   والفلاة  بلا دليل
ووجهي والهجير بلا لثام 
ويقول في هذه  قصيدة ( مكابدات):
أنزلت روحي بين الأين والعثر
لما عشقت زماني خشية الخطرِ 
فصحوة العمر أرواح  تهونها
تعاسة الجد لولا كان من وطري 
لقد رأيت  الفتى صفرا عزيمته 
وصاحب العزم منسوبان للشررِ 
هذا  يجرجر  مأخوذا  بلوعته 
وذاك  تفرحه  إغفاءة  السحرِ 
فساري البرق لم يوقظ جوارحه 
وليس في القلب من شوق إلى سمر 
فكم  خشيت  أصيلا   جاء يقتلني 
كذاك قد كنت والإصباح في سقر 
يطوي  أمانيً   ملتذا بمصرعها 
ويحشد الهم في ساحي ومصطبري 
وموعدي الصبح قد بانت طلائعه 
وأوشك الليل أن يظما من السهر 
لكنني  رحت  من  يأس إلى أمل 
أنقٍلُ  العمر  بين  الخُسر والظفر 
فما  أرحت   من   الآمال متعبها 
ولا  أقمت  رياح العسر من شرر 
كذا  خلقت   صبورا  يوم   نازلة 
هذا  ردائي  لايشكو  من  الوضر 
فكيف أسعد في الدنيا  وصاحبها 
طوعا تخلى عن العلياء في صغر؟ 
فكان   أطيب   مايرجوه  معذرة 
بها   يرقع   فتق  الذل   والخور 
أخيَ  مهما اقتربنا نحن في شركٍ 
يحوكُ  لحمته  حتمٌ   من  القدرِ 
فما يبالي  بأيٍ   حبله   علقتْ 
ولا متى زار من أمسى على سفر! 
والسفر هو الموت الذي يلاحقه دائما في تلك الغربة التي كان يعانيها في الوطن الذي تناهبه الأميون من عشاق المناصب وأصحاب الغايات المشبوهة وصغار النفوس . 
كتب جعفر سعدون قصائد كثيرة من خلال دواوينه وأكثرها قصائد من العمود الشعري وشعر التفعيلة وأحيانا قصائد نثرية تضمنها ديوانه المنشور ( من خوابي العمر ) وأستطيع القول إن قصائده يجمعها قاسم مشترك هو الحياة والموت والغربة في الوطن الذي أحبه وتألم كثيرا من أجله ومزج دمه بترابه. الوطن الذي عبث   به السياسيون وقامروا بمصيره وتنازعوا على  الحصص والمغانم ، ولم يبالوا يوما بدماء أبنائه التي تسفك منذ أعوام على مذابح أهوائهم وغاياتهم الفردية الأنانية.
وقصائد (رائحة الحلم ) و(بوابة الأمن إلى شهداء جسر الأئمة ) و(مثوى بكف الماء ) وغيرها تتحدث عن همه الكبير بما جرى لوطنه من مآس وويلات أثناء حكم الدكتاتور المقبور وما بعد الاحتلال الأمريكي البغيض. وقد قال لي يوما بالحرف الواحد أثناء زيارتي له قبل وفاته بعام :
(لقد خيب الحكام الجدد آمالنا وسرقوا الحلم الطويل الذي انتظرناه بعد أن أغرقوا العراق في  حمى شهواتهم التي ليس لها حد،  وحولوا الوطن الجريح إلى ساحة يلعب بها اللاعبون الصعار والكبار ليكثروا من جراحات العراق. وإن الأمريكان لم يحتلوا العراق ويقضوا على الدكتاتور إكراما لسواد عيون العراقيين  وهاهو الشعب العراقي يرى كيف إن رؤوس حكومة ما بعد الإحتلال قد خيبوا آماله رغم آلاف الوعود المعسولة التي صدعوا بها رؤوس الملايين التي كانت تنتظر الفرج على أيدي هؤلاء. ولا يمكن لعشاق المناصب أن يقدموا مشروعا وطنيا طموحا ، ويبنوا دولة عصرية بحجم العراق. وإن قيام دولة المواطنة هو هدف بعيد المنال في ظل أحزاب متنفذة ضيقة الأفق. وقد أصبح مثل أعضائها كجوقة تدورحول نفسها في بركة موحلة  لم يستطيعوا الخروج منها ، ونزيف الدم العراقي سيستمر في ظل هذه الأوضاع الكارثية التي إستأسد فيها أعداء العراق، وأخذوا يوجهون طعناتهم إلى خاصرته دون رادع بتأجيجهم الفتن الطائفية، والتدخل السافر في شؤونه الداخلية نتيجة ضعف الحكومة وانعدام الثقة بين القوى السياسية الحاكمة.) وصدقت نبوءة الشاعر. وكنا كزميلين تتطابق أفكارنا دوما في التعبير عن معاناة الشعب.
ففي قصيدته ( بوابة الأمن إلى جسر الأئمة ) تنتفض روحه لهول تلك الفاجعة التي ألمت بالعراق .ويستطرد فيها ليتحدث عن لحمة التآخي بين جميع المذاهب التي ضمها تراب العراق. وكيف لا وهو الذي مزج دمه بترابه إلى لحظات عمره الأخيرة فيقول:
طارق في الضحى بغتة
تحط على القلب أوجاعه
زمنا يحتبي بالأفول
وفيه يفارق عشق التراب السنا 
لقد نقض الوجد ميثاق كتماننا
إنها وحدها سيدي أبصرت 
مجيئ (بن ثابت )
وكان العبيدي (عثمان)
يتلوه شاهد صدق
إلى مأتم تصدره ( كاظم الغيظ ) * 
فجسر الأئمة – مملكة الحب –
لن نضل الطريق إليها 
وبوابة الأمن بين (المعظم ) *
و( باب الحوائج ) *  
شامخة  لاتزول.
لقد كتب جعفر سعدون الكثير من القصائد في مدح الرسول الأعظم ص وأهل بيته ع لايسع المجال لتدوينها في هذا المقال.
في إحدى ليالي شتاء عام 2010 أسلم الروح وهو في فراشه. لقد مات جعفر سعدون لفته الجامعي ولم يشترك في تشييعه مسؤول حكومي أو أحد من أفراد مايسمى (إتحاد أدباء واسط)ولم يشيعه إلا عدد من أقربائه وأصدقائه.  ودفن في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف. 
مات ذلك الإنسان العصامي غريبا في وطنه وهو في قمة عفته وكبريائه وبعده عن التعصب القومي والمذهبي والحزبي . وظلت مؤلفاته وكتاباته خلفه وهي تعاني من تراكم الغبار عليها وربما سيكون مصيرها التلف لفقر عائلته . وكم من مبدع وعالم ومفكر طوى  جسمه الثرى بصمت دون أن يلتفت إليه أحد.
لقد فارقتنا أيها المربي الفاضل  بعد أن وقفت إلى جانب الحق والعدل والفضيلة طول عمرك وتجسد ذلك في كل حرف دونته. فنم قرير العين في مثواك. ولروحك الطاهرة الرحمة والغفران. وتقبل من صديق عمرك هذا البسيط والنزر اليسير الذي تستحق أكثر منه بكثير وفاء لذكرى الصداقة والأخوة التي جمعت بين قلبينا وروحينا في تلك السنين الخوالي.
بسم الله الرحمن الرحيم:
(كُلُ مًنْ عَلَيْها فانْ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبٍكَ ذُو آلجلالٍ وَالإكْرامْ). الرحمن26-27 
إشارات:
*(باب الحوائج وكاظم الغيظ)إشارة إلى ألقاب الإمام  موسى الكاظم عليه السلام.
*( المعظم ) إشارة إلى منطقة الأعظمية المقترنة باسم الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان رض.