حكاية من مخيم

أعتد رؤية ساحة السنتر في المجمع السكني الذي نزحنا إليه هربا من العمليات العسكرية مكتظة هكذا بالناس ؛ بدأ التساؤل يراودني : ترى من أين جاءت كل هذي الجموع ؟ طرق أذني صوت غير غريب عني ، إتجه الرجل الذي لم أعرف ملامحه نحوي ضمني بقوة ، والكلمات الودودة تنطلق من فمه وأنا أحاول أن أتذكر اسمه - ألم تعرفني ؟ أنا كريم ، كريم الكهربائي - لا هذا غير معقول ، أنت كريم - نعم ،كل من رآني أصابه الذهول ، فقد كنت من ذوي الأوزان الثقيلة كما تعرف ، والآن كما ترى ، أصبحت هيكلا عظميا ، أنت تعرف يا أبا محمد الظروف التي عشناها في المدينة بعد أن ضربت القوات الأمنية طوقا عليها ، لم يكن يدخل إلينا غذاء أو حتى دواء ، أصبحت الحياة شبه مستحيلة ، وتحولنا إلى كبش فداء دون حول أو قوة ونحن نعاني الأمرين بين القوات الأمنية وبين الإرهابيين الذين اتخذونا دروعا بشرية - قلت له ولماذا لم تحاول الخروج أو الهرب - كان القتل مصير كل من يحاول الهرب ، وإن استطاع الإفلات من قبضتهم ، كيف يستطيع النجاة من الألغام المتناثرة في دروب لا يعلم مسالكها الآمنة سواهم !! كل شئ كان ضدنا هناك ، إضطرننا لأكل التمر القديم بعد تنظيفه من الديدان ، وصنع الخبز من خليط الدخن والأذرة والباقلاء القديمة إن وجدت ؛ مات الكثير من الأطفال بسبب النقص الحاد في الدواء وا لغذاء ، وكان ما قد يتواجد منه هنا أو هناك يباع بأسعار باهظة تثقل كاهل الأغنياء فما بالك وكل من تواجد في المدينة قد تآكلت مدخراته بعد أن تقطعت أسباب الرزق ، وارتفعت أسعار كل شئ إلا دم الإنسان الذي لا يملك من أمره شيئا كنا نموت جوعا ، ونموت خوفا من كثرة المعاناة ، حيث كنا في حالة رعب دائم من أن تدخل تصرفاتنا في دائرة الشك فينظر لنا على أننا مرتدون مر صبي أمامنا يحمل كيسا من الصمون الأبيض والبرتقال ، هز كريم رأسه في أسى قائلا : منذ أكثر من عام ونصف ونحن لم نر حتى هذا الصمون أو البرتقال - حسنا كريم ، قلت له وأنا أمسك يده ، هيا معي إلى البيت لنأخذ قسطا من الراحة _ لا ، أشكرك ، قال كريم وهو يهز يدي ، ليس لدي وقت كاف ، فقد حضر أحد المسؤولين لنقلنا إلى مخيم السعادة ، كان معه بعض مراسلي الفضائيات ، قال إنهم قاموا بتوفير كل المستلزمات التي ستضع حدا لمعاناتنا السابقة ، وقد جئت إلى هنا لاستنساخ مستمسكاتي الأربعة وعليّ أن أذهب فعائلتي تنتظر ، ونحن بحاجة إلى الراحة _ أرجو أن لا تعول كثيرا على كلام المسؤولين فأغلبه كالهواء في الشبك ، هومجرد استهلاك إعلامي لا أكثر _ قال كريم بحزن : أعرف هذا جيدا فقد أصبحنا سلعة يتاجر فيها الجميع ، ثم ابتسم قائلا سأذهب الآن فقد يفوتني بعض صدق الكاذبين كما يقول المثل - توكل على الله ، قلت له وأنا ابتسم في أسى . الموبايل يرن ، كان أخي ، طلب مني أن أذهب إلى المخيمات لتقديم العون لأحد أصدقاء والدي المرحوم ؛ أوقفت سيارة أجرة وطلبت من السائق توصيلي للمخيمات ، وحين استفسر عن اسم المخيم ، أمهلته حتى أجري اتصالا - السلام عليكم حجي حسين في أي مخيم أنت ؟ - والله لا أعرف أنا في أي مخيم - صوت ابنه يأتي مجيبا : السعادة ، السعادة قلت للسائق فتمتم في أسى : ومن أين تأتيهم السعادة في هذا القيظ القاتل !! توقفنا عند بوابة المخيم ، طرق صغير زجاج السيارة قائلا : هل أنتم أصدقاء جدي حسين هو هناك في انتظاركم ، الخيمة الخامسة دخلنا إلى الخيمة وسط تهليل وترحيب الحجي حسين ، وبعد السؤال عن الحال والعيال قال لي: - أريدك أن تدبر لي خيمة ، فالحال كما ترى ، وخيمة واحدة لا تكفي عشرين فردا ، ليتك تستطيع تدبير خيمة حتى لو دفعنا ثمنا لها ، فنحن لا نعرف أحدا هنا ؛ وحين لمح الحاج حسين استغرابي من الأمر استطرد مبينا أن هناك من لم يحصل بعد على خيمة ، وهناك خيام تحتوي على عائلتين في كل خيمة ، كان الوضع يبدو بائسا ومأساويا ولا شئ سوى الوعود أنظر إلى هذا الطابور ، إستطرد الحاج : هذه السيارة الحوضية هي مصدرنا للماء !! كان المشهد في مخيم السعادة يبعث على الشقاء ، وها نحن نخرج من مستنقع معاناة وألم إلى آخر ، يبدو أننا لن نذق طعم السعادة إلا في نومتنا الأبدية ، مادمنا قد أصبحنا وسيلة لتكسب السياسيين وكذباتهم التي تتقوت على معاناتنا . حاولت أن أداري ألمي وأنا أعد الحاج حسين بتدبير خيمة وإحضار ما يحتاج إليه من مستلزمات أستطيع إحضارها غدا ، شددت على يده وأنا أودعه قائلا : علينا الصبر والتعاون والعمل ، ويجب أن لا نقيم وزنا لوعود الكاذبين فسفينة الكذاب غارقة . قال وابتسامة حكيمة تعلو وجهه : لا محال وإن طال الزمن ، السعادة يابني يصنعها الصادقون مع أنفسهم ومع الله ، ولا يحيط المكر السئ إلا بأهله .