مدخل ====== تحتاج كافة الاجهزة الاستخبارية الى التحليل الناتج عن جمع المعلومات , ولكن التحليل يحتاج الى ان يكون الجمع محدداً ومكثفاً بشكل دقيق ومركّز , وحينها سيكون التحليل مجدياً والاستنتاجات ذكية والتقييمات واقعية. فالذكاء يتيح لها ان تحلل الموقف وتستنتج وتنصح نصائح فعالة للقيادة السياسية صاحبة القرار , وهو امر لايتم مالم يكون الجهاز الاستخباري مرشقاً وغير مترهل وغير مرهق بالواجبات التي تخصه وتلك التي لاتخصه . اما اذا ما ترهل الجهاز الاستخباري , وارهق بالواجبات والملاحقات , فحينها سيعمد الى مد اذرعه في كل اتجاه والبحث عن المعلومات الغث منها والسمين , دون مراعاة للدقة , وستجتمع عنده كميات هائلة من المعلومات لايستطيع ان يحللها بشكل دقيق , فيتحول الى جهاز جامع للمعلومات ضعيف في التحليل وغير دقيق وغير ذكي في الاستنتاج, وتكون تقاريره الى السلطة عبارة عن تقارير معلومات , مع افتقاد للنصائح الذكية . ================== مؤشرات الاجهزة الاستخبارية ================== هنالك ثلاث مؤشرات يمكن ان تشكل الصفات العامة في ادوار الاجهزة الاستخبارية هي : 1- التركيز . 2- التشتت . 3- العنف . ======= التركيز ======= عندما تنشأ الاستخبارات تكون فتية وحديثة وصغيرة وقليلة الاذرع والمصادر وقليلة الخبرة , وتعتمد للتعويض عن ذلك على الذكاء في التحليل, فتسعى لتكون مؤسسة ذكية وفاعلة وتفكر بشكل صحيح. وغالبا ما تسعى المؤسسة الاستخبارية الى ان تتستر وتحافظ على السرية في العمل , وكلما كانت صغيرة ومحدودة العناصر امكن ذالك وسهل حفظ السرية فيها. وتسعى الاجهزة الاستخبارية , جاهدة , ان تبقى في اطار ومحور الجهاز الذكي الفطن , لكن المشكلة تكمن في ان الاجهزة الاستخبارية تمر بفتره تطور ونمو وترهل وتمدد وتشتت وانفلات , لذا استوجب دوماً اجراء عملية الاصلاح وتقويم الاداء وتطهير الجهاز من الروتين والانحراف عن الاهداف والمتبنيات فالذكاء يعتمد في هيكلية الاستخبارات على مركز تحليل ودراسات قوي وتجمع عقول استراتيجية في الجهاز, لذا تركز اجهزة الاستخبارات المحترفة على عنصرين اساسيين عند التوظيف او صيد الطاقات الشابة من الجامعات لغرض توظيفهم وهي الذكاء والدقة , وتركز برامج التدريب الاستخباري على تطوير هذين العنصرين في المنتسب بشكل اساس. فمن اهم عوامل الذكاء ان تعرف عن ماذا تبحث وماذا تريد واين تبحث, ففي حرب الاستخبارات الانتصار للاذكى وليس للاقوى , لهذا السبب تحاول الاجهزه الذكية زرع المصادر حسب الاولويات وفي الاماكن المهمة فقط مما يغنيها عن نشر العيون في كل مكان. فمثلا في داعش , اذا كان لدينا عشرة مصادر في مركز القرار ومصدرين في كل ولاية لداعش فهذا يجعل المعلومات الواصلة مكثفة ومهمة وموثرة وموجعة. ولكن في حال ان وضعنا في داعش 200 مصدر ولكن بلا انتشار صحيح , سيصبح هؤلاء عبئاً مادياً كبيراً على الجهاز , وتكون معلوماتهم هامشية برغم كثرتها ,وناهيك عن الجهد والارتباط والاموال , وسوف يكون حجم المعلومات الكبير احد اسباب فقدان قدرة جهاز الاستخبارات على التفكير . والاستخبارات الذكية المركزة غالباً ما تكون رشيقة وضمن دول ديمقراطية , فتكون خاضعة للنقد والمراقبة وتغيير القادة وتعتمد العلمية ومنهج الكفاءة والاختصاص وغالبا ما تكون اكثر سرية . ======== التشتت ======== تنتهج بعض الاجهزة مسار التوسع المفرط بسبب كثرة الواجبات , وهذا المسار يتطلب كم هائل من الاذرع ومعرفة كل شيء والتجسس على كل شيء , وهكذا اجهزة تكون كبيرة في العدد والعدة , وتنتشر في كل مكان وزمان وتبحث عن كل شيء , ومرهقة دوماً , وغالباً ماتكون في الانظمة ذات الدكتاتورية الناعمة. فبسبب كثره المعلومات في كل اتجاه وتنوع الاهداف , تفقد خاصية الذكاء والقدرة على التحليل وتقديم المشوره ,فعندما تفقد الاجهزة الذكية قدرتها على التفكير السليم تتحول الى اجهزة مشتتة اخطبوطية , والاسباب متعددة لهذا التحول منها , سوء الادارة وكثره وتعدد الواجبات وتدخل السلطة وفقدان التطوير والتحديث وخلو الجهاز من العقول المفكرة والترهل وفقدان عامل الثقة بين القيادة والاستخبارات . ======== العنف ======== تمتهن بعض الاجهزة الاستخبارية المسار العنيف في الاداء , وتتوسل باساليب القهر والخشونة بما يتناسب والانظمة الدكتاتورية العنيفة الراعية لها , فمثل هكذا اجهزة تستخدم العنف في اتجاهين , ففي تجنيد المصادر تستخدم التهديد والوعيد و تكسب المعلومة بالخوف والقهر , وفي معالجة الاهداف (وهو ليس من اختصاصها وانما من اختصاص الجهاز المكافح ) تراها تنتهج العنف ايضا في معالجة الاهداف , اي تذهب للقتل اولا واخيراً. والاستخبارات العنيفة ,غالبا ماتكون ضمن حكومات عنيفة كنظام صدام مثلا , وتضع اسلوب المعالجة ضمن الاولويات , حيث تعالج جميع الاهداف بطريقة خشنة , وتطبق رغبة الحاكم . في بعض الاحيان تتحول الاجهزة المشتتة الى عنيفة بحكم كثرة الواجبات والمعلومات المطلوبة وعدم القدرة على المراقبة الطويلة والتحليل او انتهاج الاسلوب الناعم , فتعمد الى العنف لتقليص الاخطار واختصار الوقت. ================== الاستخبارات والقرار السياسي ================== ان احد اهم مخرجات الاجهزة الاستخبارية هو ماتقدمه من انذار مبكر للسلطة حول المخاطر , وماتشير به من رؤية للحلول , فالقيادة السياسية غير معنية بالمعلومات والمصادر قدر عنايتها بماتعنيه تلك المعلومات , ومايترتب عليها . فالجهاز الاستخباري يمثل في جوهره جهازاً محللاً للمعلومة التي يستقيها من مصادره الموثوقة , فاذاما فشل في مهمته الجوهرية تلك فانه يعرض البلاد للخطر بدلاً عن ان يكون حامياً ودرعاً لها . ولايكفي لاي جهاز ان يعلم بدبيب النملة في ارض العدو او ارضه , بل ان عليه ان يحلل ويستنتج ويقدم الفرضيات ويرجح بينها وان يمتلك الذكاء الفائق في التحليل . وبالطبع , فان مثل هذه المهمة الجسيمة تتطلب توافر الشروط المناسبة للجهاز ليعمل بمنتهى الفاعلية , اذ يجب ان يتوافر على افضل الكفاءآت في مختلف الاختصاصات , وان تكون هيكلية الجهاز مرتبة وفق مهامه , وان يبتعد في اختياراته عن المحسوبية والحزبية والمحاباة سواء كان ذلك في المناصب العليا او الدنيا , كما يجب ان تتوافر للجهاز الامكانات المادية والصلاحيات التي تتيح له القيام بمهامه في التجنيد والتحليل , والاهم من ذلك ان لايرهق الجهاز بواجبات تشتت عمله وتعيقه عن استيعاب المعلومات , ناهيك عن ابعاده عن المهمات الشرطوية وكل ماهو خارج عن اختصاصه . فالجهاز الاستخباري الذي يعرف مهامه ويعتمد الكفاءة فانه يصل باجتهاد وذكاء الى افضل النصائح للجهات العليا , ولكن ماإن يتم تحميله مالايطاق من الواجبات , لاسيما حين تتحول السلطة الى اعلى درجات القمع والوحشية او الفوضى , فانه يبدأ بالتخبط في مخرجاته التي قد تتمثل بنصائح تضرب النظام الحاكم في الصميم , فيؤدي الى سقوطه . فاجهزة الاستخبارات الصدامية كانت خير مثال للاجهزة المرهقة بالواجبات والعنيفة في الاجراءات , مما جعلها تتخبط في نصائحها للنظام , بل وتتملقه في النصائح , فلم تنجح في تبيان المخاطر باحتلال الكويت , ولا في الاسلحة المحرمة ولا في غزو العراق ولا في توصيف المعادلات الدولية والخطط الاستخبارية المضادة , بل انها كانت تقترح احياناً حلولاً تضر بأمن النظام والبيئة معاً, ومثال ذلك نصيحتها لرأس النظام بتجفيف الاهوار من اجل منع المعارضة المسلحة من استخدام الاهوار لمقاتلة النظام , فكان من نتائج تلك النصيحة البلهاء , ان توجه المقاتلون الى منطقة الجزيرة كبديل ممتاز اتاح لهم التقرب في عملياتهم من العاصمة ومن المحافظات الجنوبية الرئيسية بدلاً عن الاهوار التي كانت عملياتهم فيها محصورة نسبياً . وكمثال اخر لتحول الجهاز الاستخباري من جهاز ذكي الى جهاز مشتت , ماحصل مع جهاز الاستخبارات الايراني في نظام الشاه ( السافاك) فحين كان جهازا ذكياً فتياً بمهام محددة قدم نصيحة ذهبية للشاه بان يكون نفي اية الله السيد الخميني خارج ايران لاسكات ثورة الشعب الايراني الى النجف الاشرف تحديداً , وقد ذكرت مذكرة للجهاز اسباب ذلك , منها ان النجف مركز التشيع وفيه الكثير من رجال الدين والعلماء وسوف لن يكون الخميني شخصا مميزا بين كل هؤلاء بل ستكون المرجعية العليا في النجف عامل احراج له في حركته وكابتة لزعامته , وكان لتلك النصيحة الاستخبارية الذكية دوراً كبيراً في اطالة حكم الشاه اربعة عشر عام اخرى. ولكن نفس الجهاز , وبسبب دكتاتوريه الشاه كان قد فقد ذكاءه وانتهج العنف , فتخبط في مقترح لاينم عن الذكاء حين اقترح عام 1978 على الشاه اخراج الخميني من العراق ليكون بعيدا عن ايران وعن التواصل مع محبيه الذين كانوا يلتقونه حين يزورون العراق والعتبات المقدسة , اي انه فكر بغباء هذه المرة, وعمل الشاه بهذه الوصية التي سرّعت في اسقاطه , ليستقر الامام الخميني في فرنسا , الامر الذي سهل عليه التواصل مع الاعلام العالمي والشعب الايراني اكثر بكثير من القبضة الحديدية للنظام البعثي في العراق , وهنا نلاحظ ان جهازاً فتياً بواجبات محددة كان يتألق في نصائحه للسلطة , ولكن بعد ان ترهل وتوسعت واجباته فقد القدرة على الرؤية الصحيحة وقدم نصائح مستعجلة وعصبية اودت بنظام الشاه. ======= خلاصة ======= الارهاب دوما هو الاضعف امام الجيوش والدول ولهذا يضطر ان يفكر ويخطط بشكل ذكي وعندها لا تستطيع الجيوش مواجهته لانها تعتمد على القوه وياتي دور جهاز الاستخبارات الذكي ليواجه تخطيط التنظيم الارهابي فالاقوى دوما يكون اقل تفكيراً معتمداً على قوته , او اقل تخطيطا بينما يكون الاضعف اكثر تخطيطا وتفكيرا وهنا يكمن الخطر , لذا لابد من توفير مستلزمات الاستخبارات الذكية , فالذكاء ان يستخدم صائد السمك السناره والطعم المناسب والمكان المناسب على النهر ويصبر فيصيد السمكة التي يحتاجها دون اضرار بالنهر وباقي الاسماك ودون اصوات او ازعاج , اما الصياد المشتت فانه يستخدم الشبكة ويصيد مجموعة كبيرة من الاسماك , وقد تكون او لا تكون من بينها السمكة المطلوبة , اما حين يصبح عنيفاً فيستخدم الرمانة اليدويه ويقذفها في النهر وحينها لايستطيع ان يتكهن بنتائج صيده . ان الاستخبارات الكفوءة تحول وتترجم جهدها الاستخباري غير المرئي الى قوة وفكر وعلاجات ودراسات وبحوث واقتراحات واختيارات سليمة تحت تصرف قياده البلد , وتتيح للقيادة جميع الخيارات والسلبيات والايجابيات والتهديدات والتحديات والمخاطر ومايجري داخلا وخارجا واقصر واطول الطرق واقلها واكثرها مخاطره واين نحتاج الصبر او القرار او الاستعداد من دون مغامرة او مخاطرة. ان مانبغيه في مقالاتنا ان نبين البون الشاسع بين التطور الاستخباري في العالم كعلم وبين التخبط الحاصل في العراق , فمن الغريب ان نسمع في الاخبار مثلا ان المخابرات تعتقل خلية ارهابية ( ففي الواقع ان المخابرات ليست جهاز مكافح فكيف تعتقل )او ان معلومات من استخبارات الداخلية ادت الى تنفيذ طلعة جوية من قبل القوة الجوية دمرت رتلا للعدو ( يجب ان تكون الطلعه بمعلومات من الاستخبارات العسكرية )او ان الاستخبارات العسكرية تعثر على مخزن متفجرات في شارع كذا ببغداد ( يجب ان يكون هذا واجب استخبارات الداخليه ) . ان مثل هكذا تخبط يحيلنا الى المهام الاستخبارية التي لايجب التعامل معها كيفما اتفق , فلا ندري ماهو مسار اجهزتنا الاستخبارية, هل تحاول ان تكون ذكية بخلط الاوراق او دقيقة في الهروب من المسؤولية او عنيفه في ضياع المسؤول عن ايقاف قتل الناس . فعندما تكلف الاجهزه الاستخباريه باهداف وواجبات غير واجباتها يكون قتلا للعمل الاستخباري فالبعض منها ينصب سيطرات واخرى تنشر عناصر بملابس مدنية في الشوارع واخرى تنشغل بتنظيم افواج عسكرية وتدريب عسكري وغير ذلك مما لاتوصيف له في كل عالم الاستخبارات ولاعلم الاستخبارات . ولو كان الامر بهذا التردي والعجز , فليس امامنا سوى خياران , اما ان نبني بناءاً وطنياً علمياً لاجهزتنا الاستخبارية , او ان نعمل كما تعمل الكثير من دول الخليج بأن نؤجر استخبارات عالمية لتحمينا !!!!!ونريح عقولنا من العبث , والله المستعان.
|