العراق التاريخي هو عراق اليوم والتجربة لم تنجح في التغيير



العراقيون اليوم كأمة وكمجتمع وأخلاقيات تمارس واقعا وتصبغ بانفعالاتها صورة الشخصية الحضارية له في يومنا وعالمنا الحاضر، هي نفس الصورة جديدة المحدثة عن واقع قديم ومتأصل مرت به الأزمان والدهور والتحولات العنيفة والناعمة ولكنه لم يمر به التغيير، ولم يحدث أثرا ملموسا لا في الشكل العام الخارجي للشخصية العراقية ولا في جوهر التركيب السلوكي المتراكم، العراق الأقليم الذي كان سابقا يرمز له بالكوفة كولاية أو منطقة جغرافية في صدر الإسلام، هو ذاته مجتمع عراق اليوم واقعا مرسوما على الواقع الأجتماعي والحضاري ومسلكا حسيا في تعاملاته وأفعاله وإنفعالاته وتاريخا في كل ما يشير له بالوجود، لم يغادر العراق تاريخه بالمرة ولم يتخلى عن عمقه الزمني ومتمسك حد الفناء بالبقاء في دائرة الحدث الماضوي بالرغم من أنه يفهم ويدرك أن الزمن الماضي ولى والدهور صروف تتغير والأيام تتوالى، لكنه قرر أن لا يترك بأعتزاز تلك الشخصية التي حيرت الكثيرين ليس لأنه يرفض التغير، ولكن لأن التغير الطارئ عنه لا يمكن أن يمر بسهولة دون أن يترك جرحا عميقا في شخصيته الخاصة. 
المعروف عن أهل العراق أنهم يحبون الحق بما يؤمنون به حق وعلى أختلاف طرق تفكيرهم وطرق نظرتهم للحق وأرتباطها بالسمو والغيب دون أن يفرقهم في هذا دين أو ثقافة فكرية، وأنهم يفدون وعلى أستعداد دائم بكل غال ونفيس من أجله ومن أجل إيمانهم به، ولكنهم لا يترجمون عادة هذا الحب والولاء بالصورة الحقيقية التي تبعد عنهم الصورة السلبية للولاء المتفاني، فتراهم عرضة للنقد القاسي من الخصوم ومن الذين لا يعرفون سر الشخصية العراقية مما جلب لهم الأنتقاد المزمن والمؤلم أحيانا حد لصق أفكار وأراء لم تقال بحقهم ولكنها أقحمت تأريخيا بحقهم كقول الزبير بن العوام إلى بعض من قاتل مصعبا (وإن فيكم أهل شقاق ونفاق).
فهل حقيقة أن أهل العراق بهذه الروحية من الإيمان بالحق والذي سجله التاريخ أبتدأ من أول سطر كتب فيه إلى يومنا الحاضر، وما بذله العراقيون من كرم بالدم وبذل في الأرواح هم أهل شقاق ونفاق؟، أهل العراق الذين وهبهم الله نعمة لا تجزى في كل أرض العراق التاريخي معروف عنهم وبإقرار أعدائهم قبل أصدقائهم ، أنهم كرماء حد النهاية التي تفلسهم وتجعلهم أقرب للإملاق والفقر المدقع ويبذلون أخر ما لديهم، ولكنهم م جهة أخرى لا يقدرون ولا يؤمنون بحقيقة أن الكرم الفارط والمفرط أحيانا إذا غال فيه صار تبطرا وبذار يجلب اللعنة مع من لا يفهم قيمة الكرم ولا يقدر ثقافة العطاء.
العراقيون اليوم يفتدون الدين أي دين يؤمنون به وعلى كل المستويات تاريخيا وحاضرا وبالشكل الذي يجسد إيمانهم سواء أكان هذا الدين أو الفكرة الدينية صائبة أو حتى لو كانت مخبولة وواهية، يعطون كل شيء أبتدأ بأرواحهم وبلا وجع حاضر لكن وجعهم مؤجل دوما للحصاد ومؤجل دوما للذكريات، ولكنهم أيضا لا يعرفون ولا يميزون أن الفداء حتى يكون مقبولا من الله لا بد أن يكون على تبيان وبيان حقيقي بالوجوب أو الأستحباب أو حتى النهي عنه، لذا حينما يكتشف العراقي خسارته يستحضر كل حزنه المتراكم ويدفع بمستويات التأثير في عمقه العقلي في الذاكرة إلى أعلى درجات الإحساس بالظلم، هنا قصة التاريخ الذي يقولون عنه أنه يعود في كل مرة، أجزم أنه لا يعود ولا أظنها صحيحة بالمعنى الذي يريده البعض ، لكننا نحن من نعود في كل مرة إلى حاضنة التاريخ لنستعيد المشهد الحزين المؤلم المعبأ حد التخمة في الذاكرة.
كل الشعوب التي تتصرف دائما خارج منطق النتيجة التاريخية المستسقاة من تجربتها ولم تبني من هذه التجربة عبرة ودرس عقلية، كي لا يتكرر عليها المشهد المأساوي بما يجلب من ضرر نفسي وسلوكي عليها فتقع في ذات الخطأ في كل مرة ومنها أهل العراق، العراقيون انقسموا تأريخيا بين تأييد ومعارضة لهذه الجهة أو لتلك لهذه الفكرة أو نقيضتها، لهذا الدين أو لذاك المذهب والنتيجة أنهم في كل مرة يخرج الجزء الثاني خاسرا محملا بالألم ومبتعدا بخطوة عن شقيقة الأخر، لذا نرى أن الأخرين الذين لديهم نزاع أو صراع سرعان ما تكون الساحة العراقية قبلتهم ومحلهم المفضل في الصراع، الكوفة بعيدة عن المدينة وبعيدة عن الشام ولم تكن نقطة طريق بينهما كما هي البصرة من قبل، تحولت إلى جحيم مناصر لهذا ومؤيد لذاك وبالتالي أنقسم العراق جغرافيا وتأريخيا بين هذا وذاك دون أن يمنح أمتياز أو تكون له قضية أساسية في صراع القوى، ولكنهم بتعصبهم الشديد للحق كما يفهمه المتخاصمون بالنيابة أعطوا كل ما يملكون لطرفي النزاع وخرجوا حاسرين إلا من ألم ودموع وشروخ تأريخية في ذاكرة مثقبة ومملؤة بالحزن.
تلك هي حكاية الحزن مع العراق وحكاية التاريخ المتخم بالأسى مع الثقافة العراقية، هذه هي الشخصية العراقية بمختلف ألوانها وتشكيلاتها لكنها تخضع جميعا لعامل البيئة والموقع، إنها بصمة الجغرافيا والتاريخ والفطرة وأثر ماء دجلة والفرات فيها، لا يمكننا أبدا الفصل بين العراقي وعمقه في الزمن ولو أراد ذلك بوعيه المباشر لكن وعيه العميق المحرك الأساسي يرفض فكرة المغادرة، ولا يقبل أبدأ أن ينفصل عن واقع لصيق به، هذا ليس مما يسمى دعوة للسكون والخضوع بقدر ما هي محاولة لفهم علة (لماذا لا نتغير)، هذه العلة هي المفتاح الأساسي الذي نحتاجه لكي نعمل على إيجاد الحل لا أن نتيه معه، البحث عن طريقة تفكير أخرى ومنهج أخر ودليل حي هو وسيلتنا للتغيير، أما أستيراد النظريات الأجتماعية والنفسية الغريبة دون فهم علة العلل لا تساعدنا على تحقيق أي نجاح أو خرق أي جدار يفصلنا عن أمل التغيير.