يشهد الضمير العربي الإنساني نهوضا جديرا بالاهتمام والمتابعة والصراحة. نقول هذا لا للتجريح أو المديح وانما مشاهدة من الواقع الثقافي والسياسي العربي. وكما قال الكاتب العربي حسن العلوي بحق "المثقفون هم ضمير الأمة"، يبرهن قلة من المفكرين أصحاب الرأي الحر وبجرأة ان الثورة هي ثورة الضمير أولا ولا بد من البدء بالنفس لكي يطابق مواقفنا السياسية مع أفكارنا ونتجنب الوقوع في الازدواجية والخطل السياسي والثقافي التي طالما ننتقد الآخرين عليها.
قبل عدة سنوات، تابعنا بشغف مقالات الأستاذ ادوارد سعيد عن مراجعة العرب لنظرتهم عن محرقة اليهود، والتزام العرب موقفا إنسانيا تجاه مأساتهم وما ولدتها من عقدة في نفسية اليهود الجماعية، وبالتالي فرض موقف أخلاقي ليس على اليهود فحسب ولكن على النطاق العالمي، وهذا ما سيتيح للعرب عامة والفلسطينيين خاصة الأخذ بزمام المبادرة الأخلاقية وعرض مأساتهم على مدى 50 عاما والتي ربما لا تقل عن مأساة اليهود رغم الفوارق التاريخية والاجتماعية ونوعية المأساة.
ربما نختلف مع د. سعيد في التفاصيل والجزئيات، ولكن لابد من تثمين جرأته في الطرح بموقف جديد وجدير باهتمام الرأي العام العربي. تزداد المواقف أهمية عندما تُتخَذ عند مفترق الطرق، فكما كانت كتابات د. صادق جلال العظم قبل اكثر من اربعة عقود من الزمن (نقد الفكر الديني والنقد الذاتي بعد الهزيمة) مساهمات جادة وجريئة في وخز الضمير العربي ودفعه للتغيير، نجد ان كتابات د. سعيد تؤدي مهمة مماثلة لدفع عملية النهوض العربي خطوات إلى الأمام سواء اتفقنا أو اختلفنا معه في الرأي.
ربما تبالغ أية مجموعة إنسانية في طرح مأساتها والظهور بمظهر الضَحية الأكبر طمعا في كسب الرأي العام، وتحاول تحجيم مأساة أعدائها دفعا للتهم وللظهور بمظهر الاعتدال، ولكن في كلتا الحالتين لا يمكن نفي وقوع الأحداث المأساوية رغم الاختلاف في أحجامها. كما لم يكن اليهود ضحية فقط، بل أوقعوا وما زالوا الكثير من المأساة بالفلسطينيين، وكذلك لا يخلو تاريخ العرب وحاضِرهم من إنزال المآسي بالآخرين. ألا يزال استشهاد الحسين (ع) واتباعه في كربلاء يطبع فكر الشيعة ويميزهم من السنة ويقومون بأحياء ذكراه كل عام في عاشوراء إلى يومنا هذا؟ نورد هذا المثال على سبيل المقارنة مع قتل الكاثوليك عددا من البروتستانت قبل اكثر من 400 سنة. نتساءل عن إمكانية الاعتراف بما أحدثت الشعوب وبضمنهم العرب في تاريخهم بحق الآخرين؟
أجل …أنه من المهم جدا ويحتاج إلى قدر كبير من الجرأة والنضج لتستطيع أمة ما مراجعة تاريخها ومقارنته بتواريخ الآخرين لتستطيع ان تعلو بمواقفها الأخلاقية لتحتل موقعها في الحاضر والمستقبل بين الشعوب. أجل.. يصبح المهم ضروريا لضمير الأمة ومثقفيها ان يكونوا على قدر من الجرأة والنضج ليواجهوا حاضرها عندما يقفون شهودا ليروا ما تفعل الأمة بالآخرين. وهل في خير من ان نقوم بمراجعة التاريخ في الوقت الذي نصنع في حاضرنا تاريخا ليس خيرا مما سبق!!
هل يستطيع الضمير العالمي بشكل عام والعربي بشكل خاص ان يعترف بما حدث لليهود في اوروبا وللكرد و الشيعة في العراق من مذابح ايام صدام حسين؟ ربما لم تكن مآسي الفلسطينيين ومحرقة الكرد الكيمائية ومذابح الشيعة بحجم محرقة اليهود (6 مليون) ولكنها بالتأكيد لا تقل مأساوية او دموية؟ فعلى سبيل المثال لا يقل عدد ضحايا عمليات الأنفال في عامي 1987 و 1988 عن مائة و ثمانين ألفا من المدنيين الكرد رجالا ونساءاً وأطفالا، ومذابح الفلسطينيين في صبرا وشتيلا وجنين او تحميل ثمانية آلاف كردي بارزاني من المعسكرات القسرية قرب أربيل عام 1983 في سيارات عسكرية وإرسالهم إلى صحارى جنوب العراق لدفنهم في مقابر جماعية فكلها بشعة ولطخات عار في جبين الانسانية. باستثناء قلة من الكتاب و المثقفين العرب، لم يتحرك الضمير العربي لاستنكار مآسي الكرد والشيعة بشكل مؤثر إلا بعد غزو الكويت ويقفون اليوم حائرين امام ما يحدث في فلسطين. أمام عدم فاعلية العرب والغرب في وقف المآسي، نقول هل حان الوقت لنسأل الضمير العربي الناهض باتخاذ موقف واضح وصريح من محرقة حلبجة ومحرقة اليهود ومآسي الشعب الفلسطيني؟ أين موقف المفكرين العرب من عمليات الأنفال؟ ورغم مرور اكثر من 30 سنة، وزوال صدام من الحكم،لا يزال الضمير العربي في صراع وربما لا يستطيع بعد مواجهة "التاريخ المعاصر"!
مما لا شك فيه ان الربيع العربي نهضة نوعية للشعوب العربية خلقت عالما عربيا يختلف عما سبق وذات امتدادات اقليمية وعالمية، ورغم العقبات التي اعترته، واضح ان الجماهير قالت قولتها في حكامها القدامى، ونوع الانظمة التي تناضل من اجلها، لذلك نعتقد ان الكرة الان في ملعب المفكرين والمثقفين العرب لتعميق الفكر الديموقراطي وتحديد ملامحها للضمير العربي لتعطيه نقلة نوعية تستمر بالتعمق والنمو والتطور في الضمير الجمعي للامة العربية. ان غياب دور المفكر والمثقف في نهضة الربيع العربي لابد ان يأتي عاجلا ام آجلا اذا كانت لهذه النهضة ان تستمر وتؤتي ثمارها. أنه لمن المفارقات ان تستصرخ أمة ما يحدث لها وان تتغاضى عن ما تفعلها بالآخرين! يستصرخ العرب ما حدث ويحدث في فلسطين والان في سوريا و تأبى ان تعيد النظر في تاريخها، في محرقة اليهود وتتغافل جملة وتفصيلا عن مأساة الكرد حتى ولو بكلمة اعتراف او اعتذار!
|