ما لم تنتمِ لعصابة تحميك فانك ستكون عرضة للتنمّر. هذا هو المنطق الذي كان سائدا أيام طفولتي. المدرسة تتقاسمها ثلاث عصابات: عصابة نزار زعماك، وعصابة فاضل خيسة، وعصابة محمد دگمة.
كان زعماك بطل فلم مو طبيعي، أسمر طويلا يحمل في جيبه سكين (أم الياي) ولا يكترث لأحد. كان متأثرا جدا بالسينما الهندية وتحديدا أدوار البطل اميتاب الذي يحرص على حفظ حركاته وبوزاته ليطبقها علينا.
عصابة زعماك كانت الأقوى في المدرسة، وفي الشارع أيضا، لأنها تضم أشرس فتيان المنطقة من أمثال سلمان أبو الططو وحيدر كراتيه وصلاح نومي. تقابلها في القوة عصابة فاضل خيسة المدعومة من أستاذ رحيم معاون المدير، لصلة قرابة بينهما. لذلك نادرا ما كان زعماك يعتدي على فاضل خيسة أو أحد أفراد عصابته في المدرسة خوفا من أستاذ رحيم، مما حدا بالمعارك أن تقع خارج أسوار المدرسة وقت (الحَلّة).
الأضعف بين هذه العصابات الثلاث كانت عصابة محمد دگمة الذي لقب بدگمة كناية عن قصر قامته. محمد دگمة كان فتى عاشقا يحب كتابة الشعر الشعبي، ولا علاقة له بشغل العصابات هذا، ولكنه من كثر ما تعرض للتنمر والضرب اضطر لتشكيل عصابة تحمل اسمه. لقد كانوا يطلبون منه نظم الأهازيج بمدحهم فإن أبى ضربوه وبصقوا في وجهه. المگرود شبع اهانات وبسط حتى جاء اليوم الذي انتفض فيه وجمع عددا من زملائه المساكين وأنشأ عصابته. الذي يعجبني بمحمد دگمة أنه كان ذكيا ومراوغا استخدم سياسة شبك اللحى للخلاص مما ينتظره بالحَلّة. فاذا تحرش به أحدهم صار لكتابة أهزوجة نصر ودسّها في حقيبة زعماك (زعماك افعالك مشهودة.. زعماك افعالك..) وأخرى مثلها في جيب فاضل خيسة، لتصعد الغيرة في رأس كليهما ويتقاتلا فيما بينهما فيسلم هو وأتباعه.
غير أن أمرا آخر يدعو العصابتين ليتفقا على النيل من محمد دگمة، وهو حبّه للحمراء زينب، أجمل فتيات المنطقة. كان يكتب فيها أبيات الدارمي ويبعثها مع أخيها مجودي الذي كان أحد أفراد عصابته. ثم إذا أراد رؤيتها مرّ من باب بيتها وأمر أحد أتباعه أن يصيح بصوت عال "ولك سدّ الدگمممممة.. دگمة دگممممة" فتسمعه زنوبة الحمرة وتخرج بحجة رش عتبة الدار بالصوندة.
كانت زنوبة حين تبتسم يبتسم لها جميع أفراد العصابة المتمترسين خلف قائدهم العاشق، ويبدأ المغامز والتأشير وكل يدعي أنها ابتسمت له وأن غمزته قد وصلت.
قصة الحب الدائرة بين محمد دگمة وزنوبة الحمرة جعلت من زعماك وفاضل خيسة في جبهة واحدة للنيل من غريمهما دگمة، فكان شارع بيت أبي زينب ساحة الوغى بالنسبة لهم. مسكين محمد دگمة كان كل يوم يأخذ المقسوم من الضرب أمام أنظار حبيبته زنوبة الحمرة التي تصعد لسطح الدار بحجة سقي الزرعات.
لذلك قرر أن يحل العصابة ويترك المدرسة وينتقل للعيش في بيت جده لأمه ليعمل أجيرا في مقهى خاله الحاج ناصر هناك. فدگمة انسان بسيط شفاف لا طاقة له على مشاكل العصابات.
أما زنوبة فلم تخرج لرش الباب بالصوندة ولم تصعد السطح لسقي الزرعات بعدما سافر دگمة وترك المدينة لنزار زعماك وفاضل خيسة. اليوم عندما كنت منشغلا بكتابة هذه السطور وقف إلى جانبي (ستيان) رئيسي في العمل (هو اسمه هيچ انا معليّه). بعد أن ترجمت له ما كتبت سألني: وأين هي زينب الآن؟ فأجبته: والله يا خوية يا ستيان ما أدري.. لا أدري أين صفى بها الدهر لكني أعلم جيدا أنها حزينة على فراق حبيبها.. حبيبها الذي هاجر خوفا من بطش نزار زعماك وفاضل خيسة.. زنوبة تريد دگمة، و دگمة يريد الأمان يا ستيان.