سياسات اليمين الحاكم الاجتماعية السبب في نجاحات اليمين المتطرف بألمانيا |
حين تنمو وتتسع ظاهرة سياسية-اجتماعية سلبية ويزداد تأثيرها في مجتمع متحضر مثل ألمانيا، تجد الكثير من الناس غير المتتبعين للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يستغربون من بروزها، وكأنها نشأت فجأة. في حين إن الظواهر الاجتماعية والسياسية لا تنشأ من فراغ وليس بين ليلة وضحاها، بل لها عواملها أو مسبباتها وتراكماتها. وحين لا تجد تلك الظواهر السلبية حلولاً عملية لها، يمكن أن تتحول إلى صراع ثم تنفجر كنزاع متباين الحدة حين يطرأ أي عامل إضافي. حينها لا يشكل العامل الجديد سوى القشة التي تقصم ظهر البعير. أي إن هذه الظاهرة أو تلك كانت تعمل طوال سنوات لأسباب أعمق بكثير من الحدث الأخير الذي تسبب باحتدامها وبروزها على سطح الأحداث. وهذا ما حصل بألمانيا في الانتخابات التي جرت في كل من محافظتي مكلينبورع-فوربومرن وبرلين العاصمة، حين فاز اليمين المتشدد (حزب البديل لألمانيا AfD) المتشابك مع قوى في اليمين المتطرف والمجموعة اليمينية المناهضة لوجود الأجانب والمهاجرين بألمانيا پيگيدا (PEGIDA)، بحصوله على نسبة (%20،8) من أصوات المشاركين في الانتخابات المحلية في مكلينبورغ فوربومرن، والتي فاقت النسبة التي حققها الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو حزب سياسي محافظ (%19،0)، وحقق "حزب البديل لألمانيا" ببرلين (%14,2)، وهو أقل مما حققه الحزبان الديمقراطي الاشتراكي (%30،6) والحزب الديمقراطي المسيحي (17,6%)، ولكن خسر هذان الحزبان الكبيران نسبة عالية من أصواتهما لصالح الحزب اليميني الجديد. علماً بأن حزب البديل لألمانيا يخوض الانتخابات لأول مرة ومضى على تأسيسه ما يقرب من عامين، في حين يطلق على كل من الحزبين الآخرين تعبير "حزب الشعب"، لأنهما يفوزان ويشكلان دوماً الحكومة الاتحادية إما بتحالفهما معاً، أو بتحالف كل منهما مع حزب صغير آخر. واعتبر الكثير من الصحفيين والمحللين السياسيين إن السبب الرئيس في هاتين النتيجتين في انتخابات العاصمة ومكلينبورغ فوربوميرن يعود لسياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وموقفها الترحيبي باللاجئين القادمين من دول الشرق الأوسط وأفريقيا. لم يكن في مقدور المستشارة الألمانية اتخاذ موقف غير الموقف السليم الذي اتخذته وقولها المشهور "نحن قادرون"، أو "سننجز هذه المهمة بنجاح"، "Wir schaffen das"، نتيجة تكدس مئات الألوف من اللاجئين على الحدود الألمانية المجرية وبدء احتمال وقوع كارثة إنسانية، والموقف المخزي لنهج رئيس الحكومة المجرية اليميني المتشدد فيكتور أوربان إزاء هؤلاء المهاجرين. والسؤال العادل الذي لا بد من طرحه هو: إن لم يكن هذا العدد الهائل من اللاجئين هو السبب في زعزعة مواقع المستشارة ميركل وحزبها الديمقراطي المسيحي والأحزاب التقليدية الأخرى، فما هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا التغير النسبي في الفكر والسياسة الملموسين في الواقع الألماني؟ علماً بأن ألمانيا هي الدولة الأكثر غنى، والأكثر استفادة من نشوء الاتحاد الأوروبي وتوسعه، ومن سن قانون اليورو كعملة نقدية لكل دول الاتحاد الأوروبي تقريباً، وعلى حساب دول أوروبية أخرى، مثل اليونان والبرتغال واسبانيا وإيطاليا أو حتى فرنسا...الخ؟ وهنا علينا أن نشير أيضاً إلى أن هذا التوجه اليميني الراهن في المزاج العام لا يقتصر على ألمانيا، بل يشمل أغلب دول الاتحاد الأوروبي، ومنها المجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا، وكذلك فرنسا كما برز في الانتخابات المحلية 2016. لقد حققت ألمانيا ما أطلق عليه بالمعجزة الاقتصادية في سنوات العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، حين عشرات الألوف من المهاجرين من تركيا وإيطاليا واسبانيا والمغرب إلى المانيا وشاركوا في الازدهار الاقتصادي الألماني، وحين مارس الدكتور لودفيج ايرهاد مستشاراً ألمانيا، ما أطلق عليه بـ"السوق الاجتماعي" في إطار النظام الرأسمال المتطور، الذي تضمن مساومة تاريخية بين رأس المال والعمل، أو بين الرأسماليين والعمال والمنتجين الآخرين عبر نقاباتهم، حققت مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية للطبقة العاملة والفلاحين ومنتجي الثقافة، نتيجة النجاحات الكبيرة التي تحققت بألمانيا من جهة، وبسبب المنافسة المحتدمة حينذاك بين الدول الاشتراكية، ومعها جمهورية ألمانيا الديمقراطية المجاورة، وبين الدول الرأسمالية، ومعها جمهورية المانيا الاتحادية، من جهة أخرى. وقد ساهم "مشروع مارشال" الأمريكي على تحقيق النهوض السريع لألمانيا الاتحادية ولعدد آخر من دول أوروبا الغربية التي حطمتها الحرب العالمية الثانية 1939-1945. وما تزال ألمانيا حتى الآن تعيش بحبوحة اقتصادية متميزة ومعدلات نمو سنوية عالية نسبياً بالمقارنة مع جميع الدول الأوروبية الأخرى، وإن الأزمة الاقتصادية التي مرّ بها العالم الرأسمالي لم تؤثر كثيراً على اللمان بقدر تأثيرها على شعوب الدول الأخرى. ويشارك المواطنون من أصل غير الماني بدور مهم وملموس لما تحققه المانيا من نمو اقتصادي. من المعروف إن السياسات الألمانية الاتحادية قد اتجهت منذ الثمانينات من القرن الماضي نحو اللبرالية الجديدة، أي نحو الرأسمالية المتوحشة، كما عبر عنها البروفيسور سمير أمين والبروفيسور الطيب الذكر رمزي زكي، متزامنة مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية (رونالد ريگن) وبريطانيا (مارغريت ثاتچر)، التي تجلت في المجالات كافة، وتفاقمت مع انهيار الدول الاشتراكية وغياب دورها المنافس، واشتدت مع السنوات المنصرمة من القرن الحادي والعشرين حتى الوقت الحاضر. وبرز هذا الاتجاه في جميع المجالات التي تمس حياة ومعيشة الشعب الألماني، وخاصة الفئات المنتجة للخيرات المادية والروحية، إضافة إلى رفضها لسنوات طويلة الاعتراف بوجود مجتمع متعدد الثقافات بألمانيا والتشدد في قبول الهجرة واللاجئين إليها، والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
السنة تزايد عدد أصحاب الملايين 2005 720,000 2008 830,000 2011 951,000 2012 1,015,000 2015 1998,700 ومنه يتبين إن نسبة الزيادة خلال 10 سنوات بلغت 177,6%، أي بمعدل زيادة سنوية بسيطة قدرها 17,7%. وهي زيادة كبيرة جداَ، خاصة وأنها تأتي على حساب المجتمع والمنتجين للخيرات المادية. وخلال السنوات الأربع الأخيرة بلغت الزيادة 110%، أي بنسبة زيادة سنوية بسيطة بلغت 27,5%. (أنظر: خطاب الدكتور گريگوري گيزي في البرلمان الاتحادي الألماني في 2011، وجريدة فرانكفورتر ألگماينة، تحت عنوان "هذا العدد الكبير من المليونيرية يعيش في المانيا"، بتاريخ 23.06.2016). ونسبة هؤلاء إلى السكان لا تزيد عن 2,7% فقط. علماً بأن الضريبة على تلك الأرباح قد تراجعت كثيراً خلال العقدين المنصرمين لصالح الرأسماليين.
قلة تأثر المانيا بالبطالة بسبب استمرار إنتاجها الموجه للتصدير على حساب الدول الأوروبية الأكثر ضعفاً والأقل قدرة على المنافسة مع السلع الألمانية مثل اليونان واسبانيا والبرتغال.. الخ أولاً، وبسبب تحويل الكثير من العاطلين على إحصائيات المساعدة الاجتماعية ثانياً. ولهذا نجد إن البطالة بألمانيا قد بلغ معدلها الوسطي في العام 2015 (6،4%)، أو ما يعادل 2.795.000 عاطل عن العمل، وهو العدد والنسبة الأوطأ منذ تحقيق الوحدة الألمانية. في حين تشير البطالة على أساس المحافظات إلى إنها تراوحت بين 3،6% من القوى القادرة على العمل في محافظة فيتمبرغ Wittemberg، و10،9% في محافظة بريمن Bremen. أما برلين العاصمة في نفس العام 10،7%. وكانت المحافظات الشرقية تتراوح البطالة فيها بين المتوسط العام وحالة برلين.
ومما يثير القلق لدى أوساط واسعة ديمقراطية من الشعب الألماني استمرار بيع ألمانيا للأسلحة لدول في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة للمملكة السعودية بذريعة "أن السعودية عامل استقرار في منطقة الشرق الأوسط!"، كما عبرت عن ذلك المستشارة الألمانية في دفاعها عن أسباب بيع الأسلحة للمملكة السعودية، في حين إن غالبية الشعب الألماني يدرك طبيعة هذه المملكة والحروب التي أججتها في سوريا واليمن والعراق، ودورها في خلق القاعدة ومن ثم داعش مع قطر وتركيا. وتعتبر ألمانيا الدولة الثانية أحياناً والثالثة أحيانا أخرى في بيع السلاح على الصعيد العالمي، وهي أسلحة تقود إلى الفوضى والصراع والحروب والموت والخراب لمزيد من شعوب الدول بمنطقة الشرق الأوسط. إن ألمانيا تستقبل المهاجرين ليس بسبب إنساني فحسب، بل ولأسباب ديمغرافية، حيث تصل الحاجة السنوية لمزيد من القوى العاملة إلى حدود 500000 نسمة، لتضمن الأيدي العاملة الشابة، وجزء منها متعلم ومدرب، وإلى ولادات جديدة، خاصة وأن نسب الولادة بين العائلات الألمانية في تراجع ملموس. |