إنّ دعوة السيناتور بيرني ساندرس خلال حملته الإنتخابية الأوليّة للرئاسة الأمريكية للبحث عن نهج ٍ جديد لحلّ الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني كانت في محلّها وضروريّة. غير أنّ نداءه، على أية حال، بأن تتبنّى الولايات المتحدة سياسة الحياد في تعاملها مع إسرائيل والفلسطينيين لن يكفي. حتّى وإن غيّرت – في الواقع – الإدارة الأمريكيّة القادمة نهجها بإرغام إسرائيل على القيام بتنازلات هامّة ووقف مشاريعها الإستيطانيّة، فإن هذا لن يوفّر الشروط الضرورية لصنع سلام في هذه المرحلة بالذات من الصّراع.
أضف إلى ذلك، أيّ نهج جديد ينتهجه الإتحاد الأوروبي خلال اجتماعات الدورة الحاليّة للجمعية العامّة للأمم المتحدة لاستئناف المفاوضات بالطريقة التقليديّة، أكان ذلك بطريقة مباشرة أم من خلال وساطة، لن يؤدي إلى اتفاق، بصرف النظر عن الضغوطات أو الحوافز التي قد تُستخدم لإقناع إسرائيل والفلسطينيين باستئناف المفاوضات بشكل ٍ جدّي.
يجب أن تسبق أية مفاوضات رسميّة عملية مصالحة تستمرّ لمدّة سنتين تقريبا ً لأنّ الأوضاع على أرض الواقع قد تغيّرت جذريّا ً للأسوأ منذ اتفاقيات أوسلو. فبالنسبة للفلسطينيين، قد ترسّخ اليأس في النفوس والتشكّك وعدم الثقة المتبادل قد تعمّق أكثر فأكثر والمتطرفون على كلا الجانبين اكتسبوا جاذبيّة كبيرة. ولربّما الأكثر أهميّة هو أنّ المشهد السياسي قد تحوّل إلى اليمين في كلا المخيمين، الأمر الذي يجعل من مهمة استئناف مفاوضات السّلام أمرا ً غير محتمل جدّا ً مع أية إمكانيّة للتوصّل لاتفاقية.
لا شكّ أنّ أعمال العنف من طرف الفلسطينيين ضدّ إسرائيل هي نتيجة مباشرة لخمسين عاما ً من الإحتلال الذي يستمرّ في إحباطهم وتحريضهم. ونتيجة لذلك، يشعر الفلسطينيّون أنّه لم يعد لهم خيار آخر سوى الإلتجاء للعنف في محاولة لإنهاء الإحتلال وتمهيد الطريق لإقامة دولتهم المستقلّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.
وبالمقابل، بإمكان الإسرائيليّون أيضا ً أن يقدّموا الحجّة المقنعة بأنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين. لقد كانت الإنتفاضة الثانية بشكل ٍ خاصّ نقطة تحوّل في ذهن معظم الإسرائيليين، الأمر الذي زاد من تعميق تشككهم وعدم ثقتهم بالفلسطينيين وضاعف مخاوفهم الأمنيّة القوميّة (وإن كان لحدّ المبالغة في كثير من الأحيان).
قامت – لسوء الحظ – الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة التي تقف على يمين الوسط في الطيف السياسي، وبالأخصّ تلك التي قادها ويقودها بنيامين نتنياهو، باستغلال المخاوف الأمنيّة لمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينيّة وبناء مستوطنات جديدة والتوسّع في المستوطنات الحاليّة لخلق ما يسمّونه “حدود آمنة”.
ولتغيير ديناميّة الصّراع، يجب اتخاذ تدابير تصالحيّة من شعب لشعب حيث أنّ هذه التدابير قد أصبحت أمرا ً مركزيّاً لخلق أرض ٍ خصبة لنجاح المفاوضات. وينبغي أن تتضمّن هذه التدابير والإجراءات التصالحيّة – دون الإقتصار – ما يلي: تسهيل الزيارات المتبادلة، نشاطات نسائيّة مشتركة، مناسبات رياضيّة، تواصل طلاّبي، معارض فنّ متنقلة، تشجيع الأحاديث والخطابات الشعبيّة، استضافة ندوات لبحث قضايا موضوع خلاف و مناشدة وسائل الإعلام لتشجيع هذه المبادرات المشتركة.
وقد تتخذ القيادة على كلا الجانبين خطوات إضافية منها مثلا ً: وقف الروايات الشعبية اللاذعة ، تعديل الكتب المدرسيّة، عدم اتخاذ إجراءات استفزازيّة ضد الطرف الآخر (مثلا ً: ايقاف التوسّع الإستيطاني خلال فترة المصالحة) والإبقاء على التعاون الأمني بين الجانبين. هذه التدابير والإجراءات ضرورية ومركزيّة لتغيير الديناميّة السيكولوجيّة (النفسية) للصّراع والبيئة الإجتماعيّة – السياسيّة بين الطرفين بتخفيف مشكلة عدم الثقة المتبادل بينهما ومشكلة الأمن القومي وكذلك الوهم أنّ بإمكان أي منهما السيطرة على كامل فلسطين التاريخيّة. فقط بالتقيّد التام بعمليّة المصالحة هذه يبرهن الطرفان على التزامهما بالسّلام، وهي عمليّة ما زالت غائبة كليّا ً ولكنها ضروريّة للقيام بالتنازلات اللازمة للتوصّل لاتفاقيّة.
وفي الوقت الذي تجري فيه عملية المصالحة ينبغي على الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي أن يقوما بجهد ٍ ضخم لإعادة تنشيط مبادرة السّلام العربيّة والضغط على إسرائيل وحماس لاحتضانها. وتبقى مبادرة السّلام العربيّة الإطار العملي الوحيد للسّلام، حيث أنها تحتوي على قواسم مشتركة ما بين إسرائيل والفلسطينيين (شاملة حماس) ستسهّل إجراء مفاوضات سلام ٍ ناجحة. زد على ذلك، مبادرة السّلام العربيّة هي الإطار الوحيد الذي سيؤدي لاتفاقية سلام إسرائيليّة – فلسطينيّة في سياق سلام ٍ إسرائيلي – عربي شامل الذي تسعى إليه الأغلبيّة العظمى من الإسرائيليين والفلسطينيين لتحقيق استقرار وتقدّم على أمد ٍ طويل.
وأخيرا ً، الثورات والإضطرابات في الشرق الأوسط تقدّم بالفعل فرصة لحلّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وبالأخصّ أنّ العالم العربي الآن مهتمّ أكثر من أيّ وقت ٍ مضى بصنع سلام ٍ مع إسرائيل نظرا ً للتهديد الإيراني المشترك والمنافسة العنيفة بين السنّة والشيعة على الهيمنة الإقليميّة.
على الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي (وهما القوتان الوحيدتان القادرتان على إنهاء الصراع) وبالتأكيد أيضا ً الإسرائيليين المعتدلين أن يستغلّوا هذه الفرصة السانحة ويضعوا نهاية لأطول صراع ٍ عنيف مضن ٍ في العصر الحديث.
لا تعني دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنتنياهو وعبّاس لزيارة موسكو (التي قبلها الطرفان) الشيء الكثير، لا بل أنها لن تجلب شيئا ً. فبالنسبة لبوتين، تعتبر الدعوة فرصة لاستغلال الفراغ الناتج من فكّ الإرتباط الأمريكي. وبالنسبة لنتنياهو، إنها ستظهر (بشكل ٍ زائف) بأنه ملتزم بالسّلام. وبالنسبة لعبّاس، إنّه لا يريد بكلّ بساطة أن يبدو وكأنه عقبة أمام السّلام.
ونظرا ً لأن الولايات المتحدة كانت وستبقى اللاعب السياسي الرئيسي، فلا عبّاس ولا نتنياهو يمكنهما تجاهل هذا الأمر. وعلى الإدارة الأمريكيّة الجديدة أن تدعم المبادرة الفرنسيّة التي تسعى وراء عقد مؤتمر دولي لاستئناف مفاوضات السّلام وتغيير نهجها السابق في البحث عن اتفاقية سلام تعتمد على أساس حلّ الدولتين.
لا شكّ أنّ على الولايات المتحدة أن تلعب دورا ً أكثر حزما ً تجاه إسرائيل، خصوصا ً وأنّ الولايات المتحدة معنيّة حقّا ً بأمن إسرائيل القومي. وتزويد إسرائيل بمساعدات عسكريّة قيمتها 38 مليار دولار على مدى العشرة أعوام القادمة هو أمر ٌ لم يسبق له مثيل ويشهد فقط بالتزام الولايات المتحدة تجاهها.
يجب على الإدارة الأمريكيّة القادمة أن توقف تمكين إسرائيل من اتباع سياسات تضرّ بها وأن تصرّ على ضرورة أن تشترك إسرائيل حقّا ً بعمليّة المصالحة التي من الصعب جدّا ً على نتنياهو وعبّاس رفضها، خصوصا ً وأنهما يصرحان جهارا ً بأنهما يسعيان لحلّ الدولتين.
والإتحاد الأوروبي بهذا الخصوص في وضع ٍ جيّد للدفع بالعمليّة السلميّة إلى الأمام بالتركيز أولا ً على المصالحة وإعطاء الإدارة الأمريكيّة الجديدة الوقت للإنضمام إلى المبادرة الفرنسيّة التي تتوافق إلى حدّ بعيد مع موقف الولايات المتحدة التقليدي.
وعلى الإدارة الأمريكية الجديدة، بالإشتراك مع الإتحاد الأوروبي، أن توضّح تماما ً بما لا يدعو للشكّ بأن حلّ الدولتين يقدّم – أكثر من أية إجراءات أو تدابير أمنيّة أخرى – الضمان النهائي لأمن إسرائيل القومي ويسمح للفلسطينيين في نفس الوقت بالعيش بكرامة في دولة مستقلّة.
فبعد سبعين عاما ً من صراع ٍ دمويّ متواصل حان الوقت لإنهاء الأوضاع الجهنميّة التي خلقها الإسرائيليّون والفلسطينيّون لأنفسهم قبل أن يفنوا نهائيّا ً بفعلها. وكما يُقال عن ثوماس هوبيس يوما ً أن قال:”الجحيم حقيقة نراها
|