في ذكرى استشهاد جدي الحسين (ع) لنتخلق بأخلاقه أكثر من البكاء عليه |
· تأملات تسهم في بناء بلد معاصر ذي مستوى حضاري دأب العراقيون على إحياء التعازي الحسينية، تأنيبا للذات التي خذلت سبط الرسول، حد التطبير تكفيرا عن لحظة جبن، تنكروا فيها لعهود قطعوها بينهم وبينه، في مراسلات مستفيضة، تنصلوا منها؛ أمام جيش يزيد، وكان ما كان من واقعة "الطف" الشهيرة، التي لم تبقَ من تفاصيلها معلومة لم تتناولها الدراسات والقراءات المنبرية والاحاديث الشفاهية. لكن ما بقي وجوب الخوض في قيمه ومعانيه، هو السؤال: لماذا نبكي على الحسين؟ وأثناء البكاء، هل تأملنا في أبعاد ثورته، وأسبابها؟ هل طرقنا أبواب الموقف، لمعرفة السر الكامن وراء حماسة قبائل عراقية دعته للحضور كي يتسلم الخلافة، بموجب المواثيق المبرمة سابقا، بين أخيه الحسن بن علي.. عليهم السلام، وبين معاوية، لم يلتزمها!
قبائل الدعوة إذن ثمة منظومة قيمية، تداولتها القبائل التي دعت الحسين.. عليه السلام للحضور، شبه أعزل، إلا من سيوف في أغمادها، ورجال لا يتجاوزون 72 فارسا، ومعه العيال.. القدوم بالعيال، يدل على أنه جاء الى وضع مستتب، لم يتوقع حربا، وإن نشب شيء من قتال، ففي جيوب أموية، بين أركان الكوفة، تتكفل القبائل التي دعته للخلافة بمعالجتها، من دون أن يصله شظى من نارها. التداعيات التي وضعته بمواجهة جيش إنبثق فجأة يتجحفل مجرجرا الآلاف من الجنود، إنضم إليهم بعض ممن دعوا الحسين للمجيء، وفي أهون الأمور وقف البعض على الحياد، أوان لا حياد في الموقف، بعد أن دعوه، وتركوه يواجه قدره وحيدا، يستجير بمن ينصره.
وعي وثاب تلك القضية تضعنا أمام مشكلة كون الوعي الوثاب الذي أملى على العراقيين، ضرورة، الطلب من الامام الواجب الطاعة شرعا، تسلم الخلافة، عجز هذا الوعي عن الدفاع عما يتوجب إلتزامه، فتراجع الفكر أمام السيف، ليظل الحسين وحيدا، يدافع عن موقف فرد، وكان بإمكانه ان يبايع ببساطة، حين وجد دعاته قد خذلوه، ويحسم القضية، عائدا الى المدينة معززا! مع جملة ملاحظات إيمانية، كانت ستنبثق من حوله، سبق ان تحملها الامام الحسن.. عليه السلام، عندما أدرك واقعا شبيها بما آل إليه الموقف، ليلة العاشر من محرم 61 هجرية، بالحسين وأهله وأصحابه. تلك هي تنائية الوعي والشجاعة، بالفهم المعاصر، الذي عمل بموجبه الحسين.. عليه السلام.. حينها، القتال في سبيل المبادئ وإدامة المعنى الحق للإيمان، وتحقق ذلك فعلا بإستشهاده. لكن نعود للتساؤل: لو لم يتنصل دعاة الحسين لمواقفهم، أما كانت ستقوم دولة عدل وحق تعود بنا الى زهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين (رض) بمثالية، لا مظاهر بذخ وسلطان وتكلف وجوار وقيان وطرب وترف، يزيد الفقير جوعا والمرفه شبعا!؟ وكان العالم الاسلامي سيتدفق عظمة تفوق بلوغه الصين أفقا وتطال أقطار السماوات، بأسباب العلم والمعرفة والتقوى، كما وعد الله.. سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، وأختزلت الإنسانية قرونا من العلم، نحو التقدم تسارعا...
تسارع معرفي هذا التسارع المعرفي المفترض، لو أن الخلافة دالت لإمام الحسين.. عليه السلام، إنثلمت أركانه بإنحراف الدولة الاموية بعد ان توطدت لها السلطة، عند إستشهاد الحسين، بإعتباره آخر عقبة تذكرها بتعاليم الله وسيرة الرسول والخلفاء الراشدين، لتجد نفسها في حل من إلتزامات الاسلام، إقترابا من مديات السلطة وبطر الثراء. من هنا تفجر بركان الندم في الكوفة، وتالبت العشائر، مجددا، بعد فوات الأوان.. وكما تقول العرب: "لات مندم" إذ فرطوا بالفرصة الدقيقة، المتزامنة مع توقيت واجب الفعل، متوجهين الى ما سمي في ما بعد "ثورة التوابين" بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي سنة 65 للهجرة، اي بعد اربع سنوات من "الطف". تمكنت الدولة الأموية من وأد "ثورة التوابين" بسهولة، كما أجهزت في ما بعد على ثورة المختار الثقفي، ذات الابعاد السياسية الصرف، التي تعكزت على نتائج "الطف" وكانت أكثر تنظيما؛ فحققت نتائج أبلغ أثرا... وكل هذا، ما كان منه ندما لخذلان العراقيين للحسين، أم تصديا لآل أمية، في السباق نحو "عرش الخلافة" يدعونا للتأمل في مبادئ الحسين، وأخلاقه، عندما يقاتل ويستشهد، في سبيل أناس خذلوه ولم يشأ أن يتخذهم ذريعة في التنصل من مبادئ الاسلام، خذلانا، بل ثبت على الموقف نظير قوم لم يثبتوا، واصلا ما قطعوا، متقدما في ما تراجعوا عنه. لذا علينا ان نتخلق بأخلاق جدي الحسين.. من كان علويا منا ام مسلما أم مؤمنا من ديانات الله كافة، فالمعنى المطلق للإنتماء الحقيقي للذات يبدأ من الإلتزام السلوكي.. الشخصي، ليندغم بالمجموع العام.. للدولة والمجتمع؛ وهذا من شأنه الإسهام في بناء بلد معاصر، ذي مستوى حضاري رصين، فقط لو أحسنا تطبيق المواعظ الحسينية، على الواقع الميداني الحاضر، مكثرين من التأمل ومخففين من لوعة البكاء المفرط! |