في ماهية النقد التاريخي (الجزء الأول)


رافق مسيرة "النقد التاريخي" طفرات نوعية ضمن عملية التفكير التاريخي، وشكل مادة دسمة لعدة باحثين من ذوي تخصصات مختلفة، لبناء أسس علمية التاريخ، كمبحث نظري ينبني على قواعد مضبوطة، تقطع الطريق على الهواة، وتنقله إلى "الصناعة" أو "الحرفة" أو "المهنة"، في محاولة لتحصين المعرفة التاريخية، كما أثار ويثير "موضوع النقد التاريخي" جلبة قوية داخل دائرة اشتغال المؤرخين ونظرائهم من علوم مجاورة، كموضوع على درجة عالية من التعقيد والتشبيك، يستدعي حفرا عميقا من أجل تقريب منهج المؤرخين إلى عموم القراء. 
فداخل بنية العالم الاسلامي، صرفت الصراعات السياسية والمذهبية خلال القرن الثاني الهجري اهتمام المحدثين بممارسة النقد التاريخي للروايات، من خلال تدوين وتوثيق الأحاديث استنادا على قواعد الجرح والتعديل، لتمييز الأخبار الصادرة عن الرسول، الصحيح منها والمردود... فارتبط منهج النقد التاريخي في الكتابة التاريخية الاسلامية بالعلوم الدينية، وانصهر النقد في جبة علماء الحديث. وحضي إسهام ابن خلدون في موضوع النقد التاريخي بأهمية خاصة من لدن المؤرخين، لكونه حاول ربط منهج الكتابة التاريخية بطبائع العمران البشري وبقواعد السياسة والعلم كمقياس لتمحيص الروايات التاريخية. 
وغير بعيد عن دائرة الكتابة التاريخية الإسلامية، أرست مدرسة القديس سانت مور بأروبا في عصر النهضة علم "نقد الوثائق"، وجعلت من المؤرخ الإنسي متقفيا عن الآثار التي تمكنه من مقارعة خصومه الدينين، في سياق الصراع بين الكاتوليكية والبروتستنانية، الذي فرض العودة الى قراءة التراث الاغريقي والروماني، قراءة إنسية.
ويبقى كتاب مدخل الى الدراسات التاريخية الذي أنجزه كل من فيكتور لانغلوا وشارل سينوبوس خلال القرن التاسع عشر محوريا في تأسيس أسس النقد التاريخي، وضبط مهنة المؤرخ عبر ممارسة النقد الخارجي والداخلي من خلال الاهتمام بالوثيقة المكتوبة، وبالحدث الذي يماثل التجربة عند علماء الطبيعيات، ونقل التاريخ إلى دائرة العلوم من خلال الاهتمام بتدوين الملاحظات والهوامش والبيبليوغرافيا، وأخيرا معاداة لجوء المؤرخ الى الحدس والى نحث المفاهيم ، وتحرره من كل الانتماءات السياسية والثقافية والدينية والقومية.
سيتواصل هذا النقاش الصاخب في عشرينيات القرن الماضي مع بروز مدرسة الحوليات الفرنسية، التي انتفضت على مبادئ التاريخ الوضعاني، فأهملت الحدث لفائدة البنيات، وطردت الافراد لفائدة المجتمع، وعادت بالمهمشين الى دائرة الضوء، وقربت التاريخ من العلوم الانسانية، وتظهر ملامح هذه الثورة المنهجية من خلال دعوة الحوليات إلى كتابة تاريخ اشكالي من دون أن يكون آليا بعبارة جاك لوغوف، وبالاهتمام بشخصية المؤرخ وبالمصادر غير المكتوبة التي تدخل المؤرخ في تناهج مع العلوم الانسانية.( يتبع).