وما ذا بعد؟


سؤال نتناوله دائما بعد الأحداث المثيرة، ها وقد عشنا يوم العاشر من محرم بكل دلالاته وذكرياته وما عبرنا فيه كلا حسب ما يعكسه وعيه عن الحدث وعن صناع الحدث، وأختلفنا وأتفقنا وأدلى كل منا بدلوه في الموضوع، السؤال الآن والأهم هو "وماذا بعد؟" ، أظن الأجابة ليست سهلة كما أنها ليست صعبة بمعيار مواجهة الحقيقة ومواجهة الذات حينما تخضع لعقلنة الوعي وإدارة التفكير، الأجدر في الأمر أن نكون مهيئين أن نجيب وبكل موضوعية وبكل تجرد عن تلك التجربة وعن خبرتنا فيها وعنها، لا يمكن أن تمر هكذا عملية عقلية على الإنسان وهو يمتلك الوعي دون أن يدرك هدف أو يتحصل على نتيجة، وإلا سيكون واقعنا واقف مزيف ونكون مجرد بهلوانات في سيرك للفرجة.
السؤال موجه إلى طبقتين من الناس الأولى من أنخرطت في الحدث والقضية والتأريخ تفاعلت معها وبها سلبا أو إيجابا وهو حق مكفول لكل إنسان، ولكن حتى يكون للموقفين من معنى علينا أن نسأل لماذا بعد وماذا؟ قد يكون العقل الفردي له قراءة ما بأتجاه زاوية ما يركز عليها وكأنها الحقيقة الكاملة، وهذا عيب فكري قبل أن يكون موقف كامل من الحقيقة الموضوعية التي نتناولها بالتأكيد أو الأستنكار، وقد تكون القراءة موضوعية شاملة ومبررة ومفسرة وواعية لما هو تحت أيدينا من موضوع، في كلا الحالتين نحتاج لجواب حاسم، جواب يمكن أن يبني لنا رؤية مؤسسة أو متممة لرؤية أخرة أو مثرية لها لأننا في عملية تواصل وبناء لا نهائية طالما الزمن يتحرك والأراء تنضج مع الزمن.
الطبقة الأخرى التي يوجه لها السؤال هي الفئة الني عايشت وقرأت الحدث وفهمته بأي مستوى من خارج التفاعل المادي والحسي مع الحدث، هذه الفئة بما تملك من تجرد وحيادية ترى من الخارج ما يراع العقل من دلالات نظرية، قد لا تتوصل هذه الفئة أو المجموعة لكامل الحقيقة الموضوعية لأنها لم تلامس التفاعل الروحي لها، ولكن بالتأكيد مجرد كونها حيادية ومجرده يمكنها أن تعط رأيا وتصورا خاليا من العاطفة الموجهة وبالتالي تكون قراءتها أقرب للواقع العقلي بمعنى القراءة خارج الأنفعال، ويبقى ما تجيب به محل تقدير وأحترام لأنه يبحث في المعقول المنطقي ولا يتأثر بالمنقول الحسي الذي يحرك الطبقة أو الفئة الأولى.
بدمج القراءتين بقراءة نقدية واعية نكون قد نجحنا في الدخول في عالم الحدث وأشخاصه من خلال الدلالات ومن خلال ما هو فاعل في تكوين القيمة الموضوعية والذاتية، لذا فالتعامل مع الإجابات على أنها جزء من الحقيقة الموضوعية يجب أن يكون أيضا تعاملا حياديا وعلميا دون أن ننحاز لأي منها، هذه هي قيمة القراءة النقدية للتجربة وهي الأساس الأهم الذي يشكل لنا مرحليا محاولة فهم الصورة بعين فاحصة تعتمد ما هو أكبر من الجزء نحو الكلية المحيطة، قد يصادف الكثير منا في قراءاته ما يثير الذات القارئة ويجرها نحو التقرير الأعتباطي بفعل شحنة العواطف أو بفعل تأثير الأنا، لكن تبقى القراءة الصحية هي القراءة المتعالية عن الذات نحو الموضوع، أي قراءة الوعي العقلاني وليس وعي الذات فقط.
هنا لا بد لنا من عودة لمعنى السؤال الأول، وماذا بعد؟ هل يكفينا من الإجابة أننا فهمنا من هذه الذكرى وشخوصها والحدث ومن خلال قضية صراع الخير والشر هو صراع الإنسانية الأول مع نفسها دون أن نبحث عن النتائج، بمعنى أن الحدث التاريخي الذي عشناه في هذه الأيام هو سلسلة من أحداث طبيعية لا مستغرب فيها ولا هي خارجة عن الأطار العام لقضية الوجود، وبالتالي فالنتائج الكلية التي ننتظرها لا تتعلق بهذه القضية وحدها بل بقضية الحق والباطل ، الخير والشر الموت والحياة بأعتبار أن الرؤية الكلية هي رؤية عناوين وليست رؤية تفاصيل، هذا ما يذهب له الكثير من الحياديين حينما يقرأ احداث الطف قراءة من داخل أطار موضوعي دون أن يلامس ذاتيات وجوهر القضية.
أما الجانب الأخر بشقيه المؤيد للحدث والمنغمس في القضية والمتفاعل معها أو المعارض لها، فهو يرى أن ما حدث وما جرى خلاصة واقع خضع لنزاع إرادات بعناوين محددة بعيدا عما يعتقد أنه قضية كلية، فالمؤيد يرى أن الذي جرى هو أمتداد لفكرة الباطل في الأنا المتزاحمة عند من يؤمن بالدين الذي يحكم الطرفين، وبالتالي فهي صراع إيمان مع كفر صراع ذات منحرفة مع ذات مستوية على شغل حيز في القيادة الروحية، قد يتفق معه المخالف المنفعل ولكنه يرفض المعالجة ويرفض طريقة تجسيد هذه الحالة، ولكنهما يريدان من الحدث أن يتجه لقضية أختلفا في شأنها ولكنهما يسعيان بجد للحصول على أكبر تأييد لهدف كل منهما من القضية.
إذن الداخل الذاتي ليس مختلفا بالقراءة ولكن مختلفا بالتوظيف الغائي للحدث وأشخاصه، اما الذي ينظر خارجا فهو يحلل ويفرز الأحداث ويسوق الحدث نحو رؤية أوسع، القراءتان مختلفتان بالمظهر ومختلفتان بالجوهر، ويبقى الحدث والذكرة لا تنتظر منهما أي تعديل أو تغيير في المسار لأنها محكومة بمؤثرات أخرى أقوى وأشد في تفاعلاتها، لكن الجواب النقدي هو من يسجل للعقل أنتصاره ربما في وقت أخر تكون الإجابات جزء من حركة الحدث ذاته، وربما تكون هي الحدث القادم حينما يتفق الوعي الجمعي على مشتركات أكبر من أتفاق العقل الجمعي على ما هو كائن الآن، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه الجواب مجردا ومنطقيا وبعيدا عن حسابات الذات نحو موضعة الرؤية وليس شخصنتها بعنوان عاطفي أو منحاز.