التنظيم القانوني لحرية العمل الحزبي في العراق دراسة لبعض الإشكاليات التي يثيرها قانون الأحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015

 

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 

 لا تقوم الديمقراطية في أية دولة إلا باشتراك الشعب في شؤون الحكم والإدارة، ولعل من أهم الآليات التي يشترك من خلالها الشعب في الحكم والإدارة تتمثل بالأحزاب السياسية التي تدير دفة الحكم في الدولة، على انه ينبغي أن يكون انضمام أفراد الشعب إلى الأحزاب السياسية نابعاً من مبدأ الإرادة الحرة المختارة أي بدون إجبار أي فرد في الانضمام إلى أي حزب في الدولة، ولعل هذا ما أشار إليه دستور العراق النافذ لعام 2005 في المادة (39/ثانياً) بالنص على أن (لا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية أو إجباره على الاستمرار في العضوية فيها.).

 وبما إن نظام الحكم في الدولة الديمقراطية يقوم على مبدأ مهم جداً إلا وهو مبدأ التداول السلمي للسلطة الذي أشار إليه الدستور العراقي في المادة السادسة منه بالقول (يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور). ومن الوسائل الديمقراطية الدستورية نجد الانتخابات التي تحتاج إلى ضمان حرية تأسيس الأحزاب السياسية وممارسة عملها، ذلك إن الأحزاب السياسية يكون هدفها الوصول إلى السلطة مع تقديم الخدمات الأساسية لجمهورها أملاً منها في الحصول على تأييده ورضاه، وبذلك يجب أن يكون عمل الأحزاب ضمن الإطار الدستوري والقانوني داخل الدولة، وبهذا المعنى جاء نص المادة (39/أولاً) من الدستور النافذ بالقول (حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية. أو الانضمام إليها مكفولة. وينظم ذلك بقانون).

 وبالفعل صدر قانون تنظيم الأحزاب السياسية في العراق وجاء حاملاً للرقم 36 في سنة 2015 أي بعد ما يقارب العشر سنوات من تاريخ صدور الدستور. ولقد تضمن هذا القانون جملة من الإجراءات والشروط الخاصة بكيفية تأسيس الأحزاب وتنظيم ممارسة عملها وفق الدستور والقانون وانتهاءً بكيفية إنهاء وجود الحزب قانوناً في العراق.

 غير إن هذا القانون ترد عليه جملة من الملاحظات والتي سوف نستعرض بعضها في المحورين الآتيين:

أولاً/ الملاحظات ذات العلاقة بشروط التأسيس:

أورد المشرع جملة من الشروط القانونية لإمكانية تأسيس الحزب نلاحظ عليها المآخذ الآتية:

1. اشترطت المادة (9) من القانون في من يؤسس حزب أن يكون (عراقي الجنسية)، وبذلك فان من يحمل الجنسية العراقية أصالة سيتساوى مع من يحمل الجنسية العراقية المكتسبة –وهو الشخص الأجنبي الذي اكتسب الجنسية العراقية بناءً على رغبته- وهذا الحكم خطير جدا لاسيما وان هذا الحزب قد يفوز بالانتخابات أو إن مؤسسه يتولى منصبا سياسياً معيناً وهو لم تمر عليه بعد أي مدة كافية يثبت خلالها انتمائه للوطن بصورة ملحوظة، وكان الأجدر بالمشرع أن يمنع المتجنس بالجنسية العراقية من تأسيس الحزب إلا بعد مرور مدة زمنية كافية –كأن تكون خمس سنوات- للاستيثاق من انتمائه للوطن وشعوره باحتياجات الناس وآمالهم وآلامهم كما هو الحال في الدول الأخرى، لاسيما وان كل حزب ملزم –كما هو الحال في الدول الديمقراطية- ان يقدم كل ما هو متيسر وممكن من خدمات على جميع الأصعدة الحياتية للناس وذلك في حال فوزه بالانتخابات، فكيف بهذا المتجنس أن يشعر باحتياجات العراقيين وهو لم يمض على تجنسه سوى أيام قلائل؟؟ وهذا الشرط والكلام ذاته نجده بالنسبة لمن ينتمي للحزب الذي لم يشترط فيه المشرع سوى أن يكون (عراقي الجنسية) وذلك وفقاً للمادة العاشرة من القانون.

2. اشترطت المادة (8/رابعاً) أن لا يكون من بين مؤسسي الحزب أو قياداته أو أعضائه من المحكوم عليهم بحكم بات لقيامه بالدعوة أو المشاركة للترويج بأية طريقة من طرق العلانية لأفكار تتعارض مع الدستور. وما هذا الشرط سوى قيد قانوني يتعارض مع الدستور العراقي وكالاتي:

أ‌. فهو يتعارض والمادة (14) من الدستور التي تنص على (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب..... أو المعتقد أو الرأي..).

ب‌. وكذلك يتعارض والمادة (37/ثانياً) من الدستور التي تقضي بان (تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي..).

ت‌. وهو يتعارض والمادة (38) التي تنص على أن (تكفل الدولة... أولاً – حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. ثانياً- حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثاً- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي...). فكل هذه الحريات المذكورة في النص لهي من وسائل العلانية وهي مقرة ومحمية بالدستور إذا كانت غير مخالفة للنظام العام والآداب العامة.

ث‌. وأخيرا تتعارض المادة المذكورة ونص المادة (42) القاضي بان (لكل فرد حرية الفكر..). فالقيد الوارد في المادة السالفة الذكر سيمنع أي شخص من التعبير عن رأيه الذي قد يخالف فيه بعض المبادئ الواردة في الدستور.

 صحيح إن هناك بعض المبادئ الدستورية تكون واجبة الحماية والاحترام من الجميع ونحن نؤيدها كذلك، ولكن هناك مبادئ أخرى وردت في الدستور لا تزال محل خلاف بين الكتل السياسية المسيطرة على الحكم في العراق بل وحتى بين واضعي الدستور أنفسهم في وقتها، ومنها مثلاً:

 مبدأ كون العراق دولة اتحادية-فيدرالية، ذلك إن هذا المبدأ لا يزال محل نقاش بين رجالات القانون والسياسة، وما يتبعه من كيفية توزيع الصلاحيات داخل الدولة العراقية. فهل إن الحزب الذي يرى بعدم فائدة مبدأ الدولة الاتحادية وضرورة تعديله سيمنع من التأسيس ومزاولة نشاطه السياسي؟؟. وكثيرة هي الأحزاب التي تعتقد بذلك.

كذلك نجد من المبادئ الأخرى كون العراق دولة جمهورية فهناك من الأحزاب السياسية تدعو إلى عودة الملكية إلى العراق، فهل مثل هكذا حزب سيمنع من ممارسة العمل السياسي ويتم حله أو منع تأسيسه؟؟.

ومبدأ كون نظام الحكم في العراق برلماني لهو من المبادئ التي تواجه اليوم رفضاً من جانب بعض الأحزاب والكتل السياسية في داخل مجلس النواب نفسه، والدعوة الى تغيير هذا النظام الى رئاسي تسند بمقتضاه صلاحيات أوسع لرئيس الدولة، لأنه بحسب وجهة نظرهم هو الأفضل للعراق حالياً، فهل مثل هكذا أحزاب تتبنى هذه الفكرة سيتم منعها ورفض تأسيسها ؟؟. ولعل الذي ذكرته من مبادئ مختلف فيها (الاتحادية-الفيدرالية، نظام الحكم الجمهوري والنظام البرلماني) هي برمتها وردت بصياغة المادة الأولى من الدستور وهي محل إشكال في الوقت الحاضر فكيف سيكون الحال مع بقية المبادئ الدستورية الأخرى؟. لذلك نرى إن هذا النص يقيد كثيراً من حرية العمل الحزبي في العراق بل هو يتعارض كلياً مع نصوص الدستور.

3. وأخيرا اشترط القانون في المادة (8/ثالثاً) بان لا يمتلك الحزب جناح عسكري أو شبه عسكري أو أن يمتلك ميلشيات كما لا يجوز للحزب الارتباط بأية قوة عسكرية. وهذا النص جيد في بابه ولكن هل سيطبق هذا النص عملياً لاسيما وان أكثر الأحزاب في العراق تملك تنظيمات مسلحة ؟ وإذا حاولت هذه الأحزاب إنهاء تشكيلاتها العسكرية –وهذا مستبعد في الوقت الحاضر على الأقل- فأين ستذهب الأسلحة التي كانت تملكها؟. اعتقد إن هذا النص سيبقى حبراً على ورق.

ثانياً/ ملاحظات ذات العلاقة بالتمويل المالي للحزب السياسي:

لقد عالج المشرع في نصوص قانون الأحزاب السياسية مسألة مالية الحزب السياسي وهي على قد كبير من الأهمية لضمان عدم تبعية الحزب السياسي لجهة أجنبية وبالتالي عدم تنفيذه لأجندة أجنبية تضر بالمصلحة الوطنية العليا كما هو المفترض، فقد جاء في المادة (33) بيان مصادر تمويل الحزب وإنها تشمل (ثانياً: التبرعات والمنح الداخلية... رابعاً: الإعانات المالية من الموازنة العامة للدولة..)، وقضت المادة (42) بان (تتسلم الأحزاب السياسية إعانة مالية سنوية من ميزانية الدولة.). وبالتالي فان هناك مسألتين أساسيتين أعرض لهما بالآتي:

1. إن مسألة منح إعانات من ميزانية الدولة للأحزاب السياسية لهي محل نظر للأوجه الآتية:

أ‌. لهذه المسألة تأثير كبير على ميزانية الدولة لاسيما في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها العراق وبالإمكان توجيه المليارات من الدنانير التي ستمنح للأحزاب إلى أوجه الإنفاق الأخرى ذات الأهمية لاسيما في بلد كالعراق الذي يعاني من أزمات عديدة تتمثل في البطالة وارتفاع أعداد الأيتام والأرامل والعوائل المعوزة فضلا عن نطاقي الصحة والتعليم اللذان يشهدا انخفاضاً في مؤشراتهما. قد يقال إن هذه المسألة موجودة في بعض الدول الأخرى ولاسيما الأوربية منها، هذا صحيح ولكن يجب النظر إلى اختلاف البنية الاقتصادية لتلك الدول عن العراق فتلك الدول تتنوع مصادر الدخل القومي لديها تنوعاً ملفتاً للنظر فيما يعتمد هذا الدخل في العراق على النفط بنسبة كبيرة جداً.

ب‌. تعارض هذا الاتجاه التشريعي مع المبدأ الدستوري القاضي بحماية المال العام، حيث نصت المادة (27/أولاً) بان (للأموال العامة حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن) وحيث إن أعضاء مجلس النواب يفترض بهم أن يكونوا من مواطني هذا البلد فالأولى بهم حماية المال العام لا أن يجعلوه نهباً للأحزاب السياسية العاملة في العراق، صحيح إن للمشرع سلطة تقديرية في سن القوانين ومنها قانون الأحزاب ولكن سلطته هذه يرد عليها قيد مهم وهو أن لا تكون هناك إساءة في استخدام هذه السلطة، فكيف يتسنى لأصحاب الأحزاب الحاكمة الآن أن يقرروا لأنفسهم امتيازات مالية سيستفيدون منها الآن وفي المستقبل؟، أليس هذا تعسف في استخدام الحق وانحراف في استخدام السلطة؟.

ت‌. من مصاديق نهب المال العام والذي سيساهم به قانون الأحزاب السياسية، نجد إن كل نائب بعد فوزه بمقعد في مجلس النواب ستعطى له منحة مالية قدرها ما يقارب (250) مليون دينار وهذا ما يقرره مجلس النواب لأعضائه في كل دورة انتخابية، وبذلك فان الأحزاب ولاسيما الكبيرة منها ستأخذ من المال العام بصورة مزدوجة مرة من الإعانات التي تقدم من ميزانية الدولة، ومرة ثانية عن طريق أعضائها الفائزين بالانتخابات النيابية، وبذلك سينهب المال العام بطريقة مشرعنة يساهم بها قانون الأحزاب، وفي ذلك خرق لمبدأ حرمة المال العام.

2. أما ما يتعلق بمسألة التبرعات والمنح الداخلية التي من الممكن أن يحصل عليها الحزب السياسي فنلاحظ بصددها الآتي:

أ‌. منع المشرع وبصورة مطلقة أن تكون ضمن واردات الحزب أي تبرعات من أشخاص أو دول أو تنظيمات أجنبية وفقاً للمادة (37/ثانياً) وكما سبق ذلك نص المادة (25) التي قضت بان على الحزب في ممارسته لأعماله الامتناع عما يأتي (أولا: الارتباط التنظيمي أو المالي بأي جهة غير عراقية...)، غير إن المشرع جاء وأجاز ذلك ولكن بشرط موافقة دائرة الأحزاب وذلك في المادة (41)، فكان مشرعنا بذلك كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً، فهذا التناقض التشريعي ناتج عن عدم وضوح الرؤيا والمعالجة الدقيقة للموضوع الواحد بطريقة قانونية سليمة، وكان حرياً بالمشرع أن يسير في طريق المنع الذي اختطه منذ البداية فلا يحيد عنه، لاسيما وان نطاق التأثير الدولي والإقليمي على العراق واضح جدا وبالتالي فان التدخل في حياته –أي العراق- لا يمكن أن يشرعن له قانونياً، فهكذا تدخل يحدث لان من يملك المال يملك الحكم، وبالتالي تكون الأحزاب السياسية العراقية واجهات لأجندة خارجية.

ب‌. يلاحظ إن المشرع قد ذهب في مسألة التبرع من مؤسسات الدولة إلى الأحزاب السياسية، إلى منعها من تلك المؤسسات الممولة ذاتياً وذلك وفقاً لنص المادة (37) التي تقضي بان (أولاً: لا يجوز للحزب السياسي أن يتسلم التبرعات من المؤسسات والشركات العامة الممولة ذاتياً، ومن الشركات التجارية والمصرفية التي يكون جزء من رأسمالها من الدولة). ومن مفهوم المخالفة للنص فان المؤسسات والشركات العامة التي لا تمول ذاتيا بل مركزياً فان للأحزاب المكنة القانونية والإباحة التشريعية في اخذ التبرعات منها، وهذا سيصب في مصلحة الأحزاب الكبيرة تحديداً حيث سيكون لها نصيب من ميزانية الدولة مع التبرعات الواردة في هذه الفقرة، ولعل هذا ضرب من ضروب هدر المال العام وانتهاك حرمته.

ونحن إذ نضع بين يدي المشرع هذا النزر اليسير من الملاحظات الهامة فنحن نأمل أن يأخذ بها ويقدم على تعديلها في قابل الأيام وما ذلك على المشرع بعزيز.

...................................................