عملية تحرير الموصل بين الوطنية والمصالح

في فجر يوم الاثنين المصادف 17/10/2016 بدأت عملية تحرير الموصل من تحت سيطرة التنظيم الارهابي المسمى داعش، وتشارك في العمليات الكثير من الجهات تحت غطاء يسمى اعلامياً التحالف الدولي الذي يقوده امريكا والذي يضم الكثير من الدول الكبرى امثال بريطانيا وفرنسا ودول اوربية اخرى ، كما يضم التحالف كل من ايران وتركيا الجارتين اللدودتين، اللتان بلاشك يهمهما كثيراً مصير هذه المعركة وما ستؤول اليه الامور بعدها، وما بعدها هذه قضية اخرى تناولتها الدراسات والمقابلات والمناظرات والكثير من الكتابات الاخرى، لان مابعد تحرير الموصل امر لايتوقف ابداً على رأي جهة معينة دون اخرى فالكل مشارك في الرأي وكلٌ حسب المصلحة الخاصة وبالطبع ليس هناك اي اعتبار لاصحاب الشأن سواء أكان الامر يتعلق بالدولة الاتحادية المركزية او باهالي الموصل او حتى العشائر التي تتناحر وتتزاحم على ابداء الولاء لكل من يطبل لهم كما فعلوا مع داعش حين دخلوا والان يفعلون مع تركيا وامريكا و مع جهات اخرى كثيرة.
ولايمكن ان نغفل عن الدور البارز الذي يقع على عاتق البيشمركة ابناء كوردستان في هذه العمليات العسكرية باعتبار انهم الاكثر دراية بحرب داعش فقد استطاعوا ان يحرروا غالبية المناطق التي سيطرت عليها داعش في البداية بالاخص المناطق الكوردستانية او التي تسمى في الدستور العراقي المتنازع عليها، والتي لها خصوصية مقننة ضمن صياغات المادة( 104 )الدستورية.. ومع البيشمركة توجد قوات كوردية اخرى تحاول ان تساهم وبشكل فعال في معركة تحرير الموصل وهي قوات تابعة لحزب العمال الكوردستاني، وكما توجد قوات اخرى غير كوردية تابعة بشكل واخر للمركز – بغداد – والمتمثلة بالحشد الشعبي الشيعي، وضمن الاطارات العامة سنجد بلاشك هناك ايدي خفية اخرى تحرك بعض الدمى في المنطقة من اجل كسب بعض المكاسب المادية والمعنوية على ارض الواقع دون ان تظهر نفسها وكأنها طرف مساند لجهة او مؤيد لطائفة او مذهب او قومية او حزب ، وبهذه التشكيلات المنوعة بدأت عمليات تحرير الموصل، والتي لحد هذه اللحظات التي اكتب فيها المقال لااسمع سوى عن التحركات التي قامت بها البيشمركة والتي اقتربت الى مناطق حساسة واستراتيجية في الموصل.. بعد ان قامت كل من طائرات التحالف والمدفعية بقصف المواقع الامامية لداعش.
لاشك ان الرؤية لن تتضح حول العمليات العسكرية الا بعد انتهائها، ومعرفة اية الجهات هي التي ستقوم بسد الفراغ الامني والسياسي والعسكري الذي سيخلفه هروب وخروج داعش من الموصل ( بالطبع نؤمن بنظرية زوال داعش في الموصل عسكريا، ولكن لااعتقد ان الفكر الداعشي يمكن استئصاله من الموصل لانها اكثر البيئات العراقية ملائمة لنمو مثل هذه الافكار التطرفية القومية والدينية العنصرية) ، حيث يمكن بعد زوالهم الوقوف على اهم النقاط التي ستتشكل ملامح المدينة منها وبها، فالعملة الوطنية – الصبغة – ستكون هي المحفل الاساس كما تم الاعلان عنه مسبقاً، ولكن السؤال هو ما هو مفهوم الوطنية في العراق..؟ ، هذا السؤال بلاشك يشمل كل الاطياف والمذاهب والاديان والمعتقدات والقوميات داخل التشكيل العراقي الحالي، وهذا ما يستدعي التوقف والتأمل والتأني لندرك المسألة دون الغوص في المعيات والتلازميات والفرضيات والمفروضات القسرية الخارجية.
وهنا سنقوم بعرض بعض المكونات الداخلية والخارجية ضمن السياق الحدثي والحالي والمشارك في كل الحراكات الداخلية والتي سيظهر من خلال تعاملها مع الواقع والاحداث الرؤية التي تنم عن اجابة للتساؤلات السابقة، فمن خلال سير العلميات السبقية في العراق اتضح وبشكل كبير ان الكورد احد المكونات الاساسية في الدولة الاتحادية يحملون علم كوردستان باعتباره يمثلهم في الدولة الاتحادية وهو علم معترف به قانونياً ضمن النطاق العراقي الاتحادي وضمن النطاق الخارجي الاممي وهذا واضح من خلال رفع العلم جنباً بجنب مع العلم العراقي في استقبال اي وفد رسمي كوردي، وفي جانب اخر توجد القوات الموالية لحزب العمال الكوردستاني التي لاترضى الا برفع اعلام وحداتها الخاصة.. وهنا تبدأ معضلة لها خصوصية فتركيا – اعلنت عدم مشاركتها بقوات برية - التي توافق على رفع علم كوردستان الرسمي باعتباره اقليما داخل دولة اتحادية ترفض تماما اي علم اخر يمثل الوحدات الكوردية بالاخص الموالية لحزب العمال الكوردستاني باعتبار ان هذا الحزب معارض لتركيا.. مما يعني بالتالي امكانية حدوث خروقات جانبية حيث قد توجه تركيا نيران طائراتها صوب هذه القوات اثناء عمليات التحرير لاسيما ان تركيا متمركزة بالقرب من الموصل.. وهذا سيخلف فوضى عسكرية بلاشك سيكون الضحية الكورد.. وضمن السياقات الاخرى لمفهوم الوطنية فان الحكومة المركزية المدعومة من ايران تؤيد وجود تلك القوات الكوردية الاخرى لكونها في الاول تعادي تركيا من جهة، ومن ثم هي ورقة ضغط على البيشمركة من جهة اخرى، اي انها تهدف الى حرب الاخوة لكي تضرب عصفورين بحجر واحد، وهو محاولة تجزئة الصف الكوردي كما فعلت في اتفاقية الجزائر ومن ثم اثارة الفتن والمشاكل لتركيا ضمن سياقات الصراعي الصفوي العثماني القديم الجديد الابدي.
ومن المفارقات الاخرى التي تظهر ملامح الوطنية في العراق هو ان جماعات متنوعة ومتعددة الاطياف والولاء من الحشد الشعبي الشيعي ترفع اعلام خاصة بها لاعلاقة لها بالعراق الوطني ولا حتى بالمصوغات القانونية الدستورية العراقية، انما هي اعلام مذهبية طائفية تمثل بعض المرجعيات الدينية الشيعية في العراق وبتأييد من المالكي الرئيس السابق للعراق وبتأييد اخر من المرجعيات الكثيرة والمختلفة فيما بينها، وهي في كل تحركاتها تؤكد وتظهر على ان ولائها ليس للعراق الا بالاسم، اي كونها تعمل ضمن النطاق الجغرافي المسمى ضمن الهياكل الدولية والتقسيمات الدولية بالجمهورية العراقية، ولكنها في الاصل تؤيد المرجعيات في قم وطهران بل ان من تحركها هي النزعة الايرانية ولايمكن التغافل عن الدور الايراني خصوصا ان قوات بدر وسليماني يتواجدون دائما في الاماكن التي يتجه اليه الجيش العراقي والحشد الشعبي الشيعي.. وهذه الاعلام لاتثير الفتنة الداخلية فحسب بل انها تتعدى الى خلق نزاع اقليمي.
فداخلياً الجماعات السنية بكل مكوناتها ترفض هذا التواجد الشيعي وترفض ان تحرر مناطقها تحت غطاء هذه الاعلام وتطالب بوجود العلم العراقي وحده.. كما ان الكورد يرفضون وجود اية اعلام غير قانونية داخل حدود الاقليم باعتباره اقليم ذا دستور وقانون خاص.. فضلاً عن ان هذه الاعلام غير القانونية تثير حساسية لدى الترك لان الاخيرة تدرك بانها تمثل التمدد الايراني في المنطقة على حساب مصالح الترك.. بالاضافة الى ما تم ذكره فانه يوجد هناك الان الاعلام التي تمثل الايزيدية المنشقين عن الكورد والموالين لجماعات وحدات الحماية التابعة لحزب العمال الكوردستاني وبالتالي انها توالي حكومة المركز ، والاخرين الموالين للكورد في الاقليم، وكذلك توجد للتنظيمات المسيحية بكل اطيافها اعلامها الخاصة والتي تطالب منذ عقود بسهل الموصل كاقليم خاص بهم،هذه السياقات ليست فرضيات نطرحها، وليست افتراءات حول مواضع عقيمة غير مؤثرة، انها اجمالا المحصلات الواقعية التي تفرضها الانتماءات المتنوعة والمختلفة للتشكيلات الاثنية والدينية والمذهبية العراقية من جهة والمؤثرات الخارجية من جهة اخرى، حيث ان وجود الكثير من الدول الاقليمية ضمن التحالف الهادف الى تحرير الموصل يشكل اضافة غير مسبوقة لتحليل مفهوم الوطنية العراقية، باعتبار ان المكونات الداخلية هي نفسها التي تخلق الانموذج التفرقي التجزئي حسب اولويات الخارج، فالحشديات الشيعية الموالية لايران لها رؤيتها التي تنم عن الرؤية الايرانية.. وفي المقابل يجابها الرؤية السنية اصحاب المدينة والتي بظاهرها وباطنها تؤيد وتؤكد الرؤية التركية، في حين يتقاطع معهما الرؤية الكوردية التي تبحث عن موطن قدم يؤهلها لخلق كيان مستقبلي مستقل وضمن تحالفات اقليمة ودولية، فضلا عن الرؤية المسيحية الطامحة هي الاخرى وبلاشك المساندة من دول كبرى ولو ضمنياً.
على هذا الاساس فان الرؤية الوطنية العراقية هي رؤية مبنية على التجزئة والتفرقة في مهدها، لانها رؤية لايمكن ان تلتم حول قضية موحدة دون سياقات خارجية تؤثر عليها وعلى مساراتها، وهذا الامر حتى وان حاول البعض تغطيته بالشعاراتية الوطنية والصبغة الوطنية الظاهراتية فان جذورها قد تمكنت منذ عقود في المجتمع العراقي ولايمكن ان يتم استئصال هذه الجذور ببعض الاقاويل والوعود والاطروحات الاعلامية، لاسيما ان العامل السايكولوجي حاسم وذا تأثير كبير في هذا المحفل.. لكونه ليس متعلق بالحالة الراهنة او الحدث الاني، انما هو متعلق بسلسلة وجودية تاريخية نمت ولم تزل تتنامي بشكل ديناميكي، لاسيما ان العامل الخارجي ايضا مهيأ وبشكل متناسب مع كل المحركات الداخلية.
وبالتالي فان الوطنية هي في الاساس قيمة ذات دلالات تؤكد على المصلحوية الخارجية، وهذه المصحلوية الخارجية لاتتمثل بتركيا وايران وحدهما، لان كلا الدولتين لها سياقات اخرى تنتمي اليها، ومسارات داخل منظومات اكبر تحرك المتلازمات العالمية وتثير الجدليات على مستوى تصل الى مرحلة التهديد للعالم اجمعه، فتركيا الساعية لتحقيق مصالحها هي في الوقت نفسها تؤكد على المصلحة الامريكية ودول التحالف الامريكي في المنطقة وبالتالي فهي تبني جبهة اخرى ضد الجبهة الايرانية الموالية لروسيا التي تحاول استرجاع سطوتها وعصرها الذهبي بحيث تكون هي الاخرى من المحركات لصيرورة التاريخ البشري الحالي من جديد.. وهذا التصادم الكوني ليس بشيء جديد، انما هو قديم وهو في صورته الحالية ليس الا استمراراً لمنظومته القديمة.. ولذلك فان اي رؤية اعلامية او شعاراتية تتبنى القيم الوطنية هي لا تخرج من دائرة صياغاتها الاعلامية اللفظية البلاغية لكونها في الاساس مبنية على المنطق المصلحوي ضمن المنظومة العالمية الحالية.
وعلى هذا الاساس فان عملية تحرير الموصل التي بدأت اليوم ولم تستمر مستمرة لن تكون الا ممراً لتحقيق الكثير من المكاسب للدول المتحالفة من جهة، وايضا مكاسب لموجودات داخلية ضمن هياكل متعددة ولايمكن التنبؤ الان بها، لكنها بلاشك موجودة وقد تمت صياغتها مسبقاً لكي تتناسب وتتلائم مع مابعد داعش ولو بعد فترة، لكون مرحلة مابعد داعش لاتمثل فقط هذه الصراعات انما هي مرحلة اعادة تأهيل المدينة ايضا لتكون صالحة لاستقبال ابنائها، وبالتالي فان مرحلة البناء سيلازمها مرحلة اخرى وهي مرحلة تحقيق الاجندات الخارجية والداخلية معاً.