لحزن دراسة في فهم المعنى وكشف الدلالة _ ح2


من جانب أخر حين ندرس الحزن مظاهراتيا نكتشف أيضا أن التفاعل مع الظاهرة يختلف ويتنوع ويتدرج من أهتمام بسيط سرعان ما ينتهي عند البعض، وإلى أستغراق تام وأحيانا كليا حتى في الوعي العميق واللا مباشر للبعض، والسبب يعود إلى نموذج التربية العقلية للفرد أولا، وقدرة النفس كقوى متعددة على مقاومة أو التسليم للحزن كفعل عقلي، هذا التفاوت ليس فقط هو ما نجده في السطح الخارجي للشخصية ولكن أحيانا يتغلغل عميقا في الذاكرة البعيدة والوعي الباطني، فنجد سلوكيات الفرد الحزين حتى في الجوانب التي من الممكن أن لا تحتسب على الحزن، نراها قد تأثرت بدرجة ما من مظاهر الحزن وإن لم يتقصدها بوعيه الظاهر، هذا الشعور ليس فطريا كما يرشد الكثير من كتاب علم الأجتماع ودارسيه بلا هو شعور نفسي عقلي طبيعي بعدم القدرة على التغيير ومكافحة العالم الأساسي الذي يولد الحزن وهو الظلم.
الشعور بالقلق والخوف والأستشعار الدائم والطبيعي بهما ومنهما يتولد أستعداد مسبق وأفتراضي بحصول الظلم، نتيجة من تعدد التجربة المتكررة بنتائجها الحزينة ومن تحول هذا القلق والخوف إلى قانون في حياة الفرد تحول الحزن من معالجة ذهنية عقلية صرفة إلى ملمح وبصمة خاصة للشخصية الحزينة، التي هي تعبير خاطئ عن حالة ركون سريع وهروب دائم للحلول الجاهزة وهي الحزن، لذا نهى الله عن الحزن من هذا الباب ليؤكد أن الحزن المستدام أو المتفاعل يقود للهزيمة {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}سورة مريم: 24-26، هذا العرض الرباني يكشف المعالجة الصحيحة والتي أشرنا إليها من تحويل الحزن إلى طاقة إيجابية للتغيير وليس للإستسلام. 
ومن دراسة الحزن موضوعيا نكتشف أنه يمارس دورا مهما في تحريك التفاعل الإيجابي بين الأفراد وداخل منظومة المجتمع الإنساني، هذا التفاعل قد ينجح في نقل التجربة الذاتية للأفراد ومشاركتها مع الأخرين لتوليد نوع من الترابط الذهني الباحث عن حلول وأحيانا يتبنى فعل عقلي حسي مشترك ينجح في تجاوز الحدث أو الفعل المؤثر وأرتداداته، الحزن كما الفرح عامل أجتماعي مهم في ربط الإنسان مع الأخر والعمل على أن تسود نوع من التشاركية التي تعمق الصلة وتنجح في تعميق بالشعور الإنساني، فالحزن الذي لا يطهر الروح من أنانيتها ويزرع فيها روح المحية للأخر لا يمكن أن يكون حزنا نبيلا ، بل هو نوح الخيبة على الأنا الفاشلة في تحقيق وجودها على حساب الأخر دون مراعات لمشاعر أو أي أحاسيس إنسانية.
السؤال الآن كيف لنا أن نفهم فلسفة الحزن أو التفسير الفلسفي للحزن من خلال ما يتيسر لنا من فهم المعنى والدلالة، ليس للفلسفة مفهوم خاص للحزن بمعنى أنها تنفرد بتحديد معنى أخر ولكنها كعلم يستخدم الدرجات العليا من فهم وإدراك الموضوع ودراسته على أنه واحدة من طبيعيات الإنسان الكلية، نجد أن لها رؤية خاصة تعبر عن الحزن على أنه أمتداد كاشف للإنسانية الإنسان، الكائن البشري (الإنسان) عندما يتجرد من الإحساس بالحزن والألم والخوف بالتأكيد يتجرد عن إنسانيته الطبيعية، كذلك مع سائر الإنفعالات الشخصية، حتى في النصوص الدينية نجد هذه الرؤية العميقة تشير إلى كونية الإنسان السوي، النبي يعقوب عليه السلام مع ما يتمتع به من خاصية متعالية كونه رسول ونبي مارس الحزن وقد يكون غير معني به لأن إيمانه بالله يجبره أن لا يكون حزينا للدرجة التي أبيضت فيه عيناه من الحزن، مارس الحزن وأحسه وتفاعل معه لأنه وقبل أن يكون نبيا كان إنسانا بمشاعر.
إذن الحزن فلسفيا هو رد لطبيعية الإنسان التكيفية وكشف واقعي لقيمة الإحساس به من أنه تصحيح لقيم إنسانية أختلت أو ضعفت نتيجة الأنخراط المادي والعملي للإنسان بواقعه، وهو أيضا أمتحان للعقل في قدرته على تنسيق الذاكرة والوعي المرتبط بها مع أساليب تكييف الواقع والتكيف معه دون أن يصيب الإنسان ضرر معنوي، لذا نرى العقل ومن خلال أليات محددة يحاول أن يمتص الحزن ويشتته ويبعده عن البقاء مخيما على الذات بطريقة النسيان أو التناسي، النسيان هو الفعل الطبيعي والذي يفرغ الشحنات السلبية المنتشرة في الداخل البشري أما التناسي فهو فعل فوق الطبيعي للمسارعة في عملية التحول والأنتقال إلى الطبيعية المعتادة.
إن أرتباط المفهوم الفلسفي للحزن مع أعراض سيكولوجيه الحزن يعيدن إلى واقع أن علم النفس هو الوليد الشرعي من أجيال الفلسفة المعرفية، لأنهما بالذات في موضوع الحزن يناقشان قضية واحدة وبطريقة مركبة توحي إلى أن جذر الفهم مشترك مع أختلاف المنهج، فعلم النفس يرى في الحزن هو إرتداد في النمط الثاني من أنماط القوى الحسية حين تفشل في تعاليها للنمط الثالث من القوى الحسية الناطقة، بمعنى أن قيم الحس المتمثلة بالسبعية والعصبية لا بد لها أن تتأثر بما في النمط الثالث المتمثلة بالأنتقال الطبيعي من حيوانية الإنسان إلى الحيوان الإنسان الذي يملك القدرة على التعبير الواضح والمتعدد والمتطور والمتشارك مع الأخرين، أي أن الحزن هو أنسنة للحيوان القابع في ذات البشر والذي يرتدع بالمؤثرات الحسية العميقة فيتجوهر إنسانا سويا.