تمهيد ليس الفساد في العراق مجرد ظاهرة ظرفية، أو مشكلة من تلك المشاكل النمطية المرتبطة بالإدارة الانتقالية لشؤون السياسة والاقتصاد. إن هذا الفساد أصبح بعد العام 2003، نسقا قيميا، وتغلغل عميقا في منظومات الأداء الاقتصادي والسياسي، وفي أنماط السلوك المرتبطة بهذا الأداء. وتمكن الفساد نتيجة لذلك، من تشكيل بنيته الخاصة به، و تأسيس شبكة واسعة من المصالح المعقدة والمترابطة، و إفراز مراكز قوى مستحدثة، وقادرة على الدفاع بضراوة عن هذه المصالح، في مواجهة أي، تهديد حالي أو مستقبلي، قد تفصح عنه عملية صنع السياسة في العراق . ولا يمكن مواجهة تحدي تفكيك هذه البنية من خلال إجراءات وسياسات و استراتيجيات نمطية، تأخذ السلطة التنفيذية على عاتقها مهمة تطبيقها. فالسلطة التنفيذية أصبحت ( بفعل الظروف غير الطبيعية، والاشتراطات غير الموضوعية، التي رافقت تكوينها بعد العام 2003 ) جزءا أساسيا وفاعلا في بنية الفساد ومنظوماته القيمية والمؤسسية القائمة حاليا في العراق. إن سلطة تنفيذية على هذا القدر الخطير من إشكالات التأسيس، لا يمكن أن تكون ( في المدى القريب )عنصرا أساسيا وجادا في صنع السياسة اللازمة لإبطاء عملية اختراق وتغلغل التشكيلات البنيوية الفاسدة إلى عمق التشكيلات القيمية والسلوكية (الفردية في الغالب) التي لا تزال تقاوم إغراءات ومكاسب الحصول على الريع الضخم للفساد، وبكلف (اجتماعية وشخصية) زهيدة جدا، ناهيك عن شروع هذه السلطة في تفكيك بنية الفساد ذاتها (على المدى الأبعد). إن تفكيك بنية الفساد القائمة حاليا في العراق، يتطلب بناء إرادة سياسية جادة وحازمة، تأخذ على عاتقها مهمة تفكيك هذه البنية، ومؤسساتها، وشبكة المصالح المرتبطة بها. كما يمكن ( كأجراء آني) الحد من هذا الفساد في إطار استراتيجيات سبقتنا إليها دول أخرى. وتستطيع الحكومة تفعيل او تعديل " الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد " بما يسهم في تحقيق هذا الهدف. مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة استكمال البنية المؤسسية (الإدارية والقانونية والرقابية) اللازمة لوضع مثل هذه الاستراتيجيات موضع التطبيق.
المقدمة لا معنى للبحث في جدوى أي إستراتيجية لمكافحة الفساد في العراق، دون فهم أبعاد هذه الظاهرة وصولا الى تحديد متكامل لبنيتها التكوينية. فالحلول الحقيقية لا تقوم على الافتراضات والمفاهيم والتنظير والأحكام المسبقة، بل على تشريح النواة التي تواصل انشطارها دون أن يتمكن أحدٌ من وقف تداعياتها الكارثية في المجالات كافة. لقد سبق لكثير من الباحثين تناول هذا الموضوع. وقد تبدو التفاصيل متشابهةً. ولكن الباحث سيسعى هنا الى أن تكون مقاربة التحليل مختلفة بعض الشيء عمّا تم طرحهُ سابقاً، بهدف الوصول الى "تشريح" مختلف ( إذا صحّتْ التسمية)، لهذه البُنيّة المؤسسيّة المركبة، الموسومة اختصاراً، بالفساد في العراق. هذا الفساد غير المسبوق، الذي لم يبلغ يوما هذا المدى والشمول، في التاريخ الاقتصادي للعراق الحديث. غير أنّ موضوعا ً حساسا ً وخطيرا ً كموضوع الفساد في العراق لا ينبغي ان يكون خليطا ً من التهريج والهستيريا وفوبيا الموضوعات المحرّمة. ان الاقتصاد السياسي للفساد لا يعني تبنّي تسقيط الخصوم (كدالة هدف) في اي نشاط معرفي (او بحث اكاديمي). ان الباحثين لا يسقطون خصومهم (ولا يفترض ان يكون لديهم خصوم باستثناء الظاهرة التي يتصدون لدراستها وتحليلها - وترويضها واخضاعها لمنطقهم- في نهاية المطاف). و تأتي الحلقة المفرغة لاستدامة "عملية" الفساد في العراق، من سعي الأطراف والقوى، والعناصر والعوامل المؤسِّسة لها والمُستفيدة منها، إلى الإعلان الدائم عن نيّتها في مكافحتها، ومُحاولة تفكيك "ديناميكياتها" الذاتية، التي تستمّد منها (هذه القوى بالذات) أسباب وجودها واستمرارها في الاستحواذ، والسيطرة ،على مصادر الثروة والسلطة. و بسبب ذلك لم تنجح الأطر "الاجرائية" المعنيّة بمراقبة التصرفات المالية والإدارية، في السلطتين التنفيذية والتشريعية في العراق (ديوان الرقابة المالية، هيئة النزاهة، ومكاتب المفتشين العموميين، ووحدات التدقيق الداخلي في دوائر الدولة كافة) في ادارة آليات وسياسات فاعلة، أو تحقيق نتائج ملموسة قادرة على كسر هذه الحلقة المفرغة، التي تسمح باستمرار عملية الفساد (والافساد)، واستدامتها . لهذا تمكنّت "مؤسسة" الفساد (من خلال بنيتها التكوينيّة الشاملة ذاتها) ، من الالتفاف على هذه التشكيلات الإدارية، واحتواءها. بل ونجحت في جعل شُبهات الفساد تحوم حولها، وتُجرّدها من مصداقيتها. وتنزعُ ثقة الناس عنها، الى الحدّ الذي باتتْ فيه التشكيلات الإدارية لمكافحة الفساد جزءاً من المشكلة، وليست جزءاً من الحلّ. وأصبح القسم الأكبر من عملها يدور حول التفاصيل، وليس المحتوى. وحول النتائج، وليس الأسباب. وفي محاولتها لتحقيق انجازٍ ما بهذا الصدد، باتتْ تقوم بعمليات مُلاحقة، وإنزال عقاب (ذات طابع إعلامي) تستهدفُ بها الفساد الصغير، والفاسدين الصغار، في حين تقفُ عاجزةً عن المساس بمنظومة الفساد الكبير، ورؤوسها الكبيرة ،المتعددة الأذرع والأوجه والقدرات .
أهمية البحث : لأن الفساد في العراق يبدو (مثل نمط الحكم القائم فيه بعد العام 2003) غرائبياً في سماته العامة والخاصة وغير قابل للحصر والتبويب في تصنيفات محددة بدقة، فأن وضع الاستراتيجيات الكفيلة بالحد منه ينبغي ان تستمد فاعليتها من فهم وتحليل هذه السمات (بنيوياً)، ومن ثم الشروع في تقديم تصورات محددة حول الخروج من هذه المحنة، انطلاقا من بُنية الفساد العراقي ذاتها، وليس من خلال إطارها الخارجي (الإجرائي ) فقط. إن هذا ما تسعى هذه الورقة للخوض فيه، مع إبقاء النهايات مفتوحة على مداها لمزيد من البحث، والتحليل والتقصي عن حلول مفيدة.
هدف البحث انّ الهدف الرئيس لهذا البحث هو العمل على تأصيل، وتكريس، منهج الدراسات التحليلية لبُنية الفساد في العراق، من خلال مُقاربة مختلفة، تقوم على تحليل هذه البُنية باعتبارها احد مخرجات بُنية العراق "التكوينية" على جميع الصعد : (الاجتماعية والسياسية والاجتماعية - "القيمية" ) وعدم الاكتفاء بوصفها "سردِيّاً" و كميّاً فقط ) من خلال استخدام البيانات "الرقمية" والمعطيات "الادراكية" التي تستخدم عادةً عند تناول هذا الموضوع). وعلى وفق هذا المنهج، واستناداً لمخرجاته، يتم اقتراح الحلول "الإجرائية" اللازمة للتصدي للعوامل المُتحكمّة في هذه البُنية، والعمل على تفكيكها. فرضية البحث انّ الفساد في العراق، هو "بُنية" (أي بناء مؤسّسي – اجتماعي – قيمي). ولا يمكن التصدّي لهُ، أو الحدّ منه، إلاّ بتحليله وفهمه استناداً لهذه المقاربة. الإطار الزمني للبحث تمت الإشارة (بصفة أساسية) في إطار البحث إلى المدة ما بين عام 1974 (وهو العام الذي بدأ العراق فيه بالتحوّل إلى دولة ريعيّة "تامّة" (بفضل القفزة الهائلة في أسعار النفط)، وبين العام 2015 ( الذي شهد تدهور و" انتكاس" جميع مؤشرات الاقتصاد الكلّي بفعل التدهور الكبير في أسعار النفط)، وذلك ليتسنى للباحث دراسة وتحليل عوامل نمو "بُنية" الفساد واستدامتها في العراق، والعوامل والأطر الأساسية المتحكّمة بها، خلال هذه المدة . منهجية البحث سيتم استخدام منهج الاستقراء للسلوك السياسي ونمط الإدارة و التصرف بالموارد الاقتصادية خلال مدة البحث، لاستنباط النتائج التي تسمح بإثبات فرضيته الأساسية، وذلك من خلال ما أسميناه بـ "المقاربة المختلفة"، التي تمت الإشارة إليها في مقدمة البحث .
المبحث الأوّل: الفساد في العراق (1974- 2003): مسارات التحوّل من الظاهرة، إلى البـُنْيَة أولاً : عرض تاريخي للسلوك "السلطوي" في إدارة الاقتصاد منذ ارتفاع أسعار النفط في نهاية عام 1973، لم يعد الاقتصاد العراقي اقتصاد أداء، وكفاية، وتنمية. لقد غادر الاقتصاد هذه المقاربات، وتحول إلى اقتصاد ذو صلة بالسلوك السياسي للسلطة. وعندما كانت العائدات النفطية تزداد، كان السلوك الريعي يميل إلى تحقيق انجازات تبدو كبيرة وجيدة بالمنظور الاقتصادي التقليدي. أمّا عندما تنخفض هذه العائدات فأن نوعاً من "الرشادة الاقتصادية"، وشيئاً من الإصلاح الاقتصادي سيطبع " الأداء السلطوي" بطابعه الخاص، ويجعله اقرب الى العقلانية الاقتصادية مقارنة بحالة انفلات الإنفاق العام في المرحلة السابقة. هل يعني هذا ان الأداء الاقتصادي كان يخلو من خطط للتنمية القومية، من مؤشرات اقتصادية كلية ايجابية، من طفرة في الخدمات العامة ( كماً ونوعاً )، من تطور حقيقي في مجالات عديدة ؟ أن الاجابة ستكون : كلا بالطبع. ولكن هذا كله لم يكن (وكما يحدث الآن ايضا) نتاجاً لرؤية اقتصادية بعيدة الأمد، ولا سلوكاً مؤسسياً يتصف بالاستمرارية والاستدامة؛ بقدر ما هو نتاج لـ"لحظة تاريخية مؤاتية"، أو لمناسبة تتيح لسلوك السلطة السياسية أن يكون بنّاءاً، عندما تكون تحت تصرفه ثروة هائلة ؛ وفائض اقتصادي فعلي، يتصرف به على هواه .. ولوحده في نهاية المطاف . لهذا، ومع اول انحسار في عوائد النفط، تتبخر الانجازات كلها، وتصبح الاولويات "سلطوية" و ليست "دولتية"، ويتم الامساك بحزم بما تبقى من الريع، وتنخفض مناسيب تمريره الى الاخرين (وبالذات الى الانشطة الفردية والخاصة)، لتبدأ عملية انتكاسية خطيرة على كافة المستويات، ومن ثم تتدهور مؤشرات الاقتصاد الكلي كلها. واستناداً لمعطيات التاريخ الاقتصادي للعراق(1)، فانّ الاقتصاد العراقي (ومنذ تموز عام 1958) كان قد بدأ يتخبط في " بازار " السلطة السياسية، مع كل ما يعنيه ذلك من صخب وفوضى وتآكل للموجودات الوطنية، وانعدام للتراكم الرأسمالي وتبديد للفائض الاقتصادي الفعلي والاحتمالي. وبطبيعة الحال لم تكن هذه السلوكيات السلطوية ازاء الاقتصاد خصيصة ملازمة لـ "سلطة البعث" وحدها، بل هي طبعت الأداء الاقتصادي في العراق بطابعها المرتبك والملتبس والتبديدي، والمتسم بانعدام الافق منذ عام 1958، وإلى هذه اللحظة، مع اختلاف في الدرجة وفي طبيعة الظروف والفرص والتحديات والاشتراطات الداخلية والخارجية التي تجد السلطة السياسية انها تقف بمواجهتها، في المراحل التاريخية المختلفة .
ثانياً : التحكّم ببُنية الفساد من خلال بناء النسق الإيديولوجي والاقتصادي للسلطة (1974-1990) اتسمت هذه الفترة بدرجة كبيرة من التفاعل بين المهام البنائية الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الخارجي ارتبطت خصائص ومهام نمط الدولة خلال هذه الفترة بالتأثيرات الناجمة عن مد وانحسار العوائد النفطية من جهة، وعن الضغوط الإقليمية المباشرة (كالحرب العراقية الإيرانية ) من جهة اخرى. امّا على الصعيد الداخلي فقد تم التأكيد في بداية هذه المدة على " تحقيق مقدمات الانتقال الى الاشتراكية، والمباشرة بالانتقال الى الطور الاشتراكي في كل ميدان تنضج فيه الشروط الموضوعية للانتقال، وتسمح به ظروف المرحلة ". كما تم أيضا تعزيز الموقع القيادي للقطاع العام في مختلف النشاطات الاقتصادية، والعمل على إعادة ترتيب أوضاع القطاع الخاص، بقيادة الدولة، بحيث يؤدي دوره الايجابي في عملية التنمية. ومع تحول عوائد البترول إلى " سلاح نوعي وطني عراقي"، تراجعت أهمية تكوين وتراكم رأس المال الخاص، وتمت " برمجة التوسع الأفقي للقطاع الاشتراكي"، لا بهدف توفير التراكم وفق الطريق الرأسمالي وصولا الى استخدام هذا التراكم لأغراض التمويل الاشتراكي، من خلال تأميمه في مرحلة لاحقة "، ولا بهدف " توفير القدرة الاستثمارية للقطاع الخاص في الصناعة والزراعة والخدمات، واستخدام رؤوس الأموال الخاصة المستثمرة المتجمعة لأغراض التطوير والبناء الاشتراكيين في المرحلة اللاحقة"، وإنما بهدف " زيادة قدرة أجهزة التطبيق الاشتراكي على تأدية مهامها الوطنية بشكل جيد ومتطور ومتوازن، ومراعاة الخصوصية الوطنية وتأثيرات السياسية الدولية وطبيعة حركتها الاقتصادية على الصعيد العالمي عند التصدي لتأدية تلك المهام "(2). ووفقا لهذه التوجهات تم بناء نسق اقتصادي قائم على الريع النفطي. ودعت النصوص الإيديولوجية في عام 1974 إلى ضرورة تحقيق التنمية بطريقة “ انفجارية “ تؤمن التطور السريع جدا والشامل لكل ميادين الحياة في المجتمع العراقي ولكن مناطق القطر، والى ان تكون السنوات الخمس اللاحقة مرحلة تحقيق القفزة الكبرى في أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية. ومع استمرار آلية التخطيط المركزي، فان طبيعة هذا التخطيط كانت قد تغيرت باتجاه وضع مناهج استثمارية سنوية لتنفيذ خطط التنمية القومية. ومع نهاية امد خطة التنمية القومية 1970-1974، تم العمل على ثلاث خطط من هذا القبيل في إطار إستراتيجية بعيدة المدى للتنمية القومية تمتد حتى عام 1990. (3) ومع ثبات النسق السياسي، وزيادة قدره الدولة على تمويل الإنفاق العام (وخاصة خلال المدة 1973-1980)، تم تحويل ما تبقى من النشاطات الاقتصادية الخاصة “ ذات الطبيعة الرأسمالية “، إلى أنشطة ملحقة بمجالات عمل القطاع العام. ولم تعد هذه النشاطات قادرة على التحرك خارج خطة وقدره الدولة في التوجيه والتأثير، وثم حصرها تماما في "الإطار الذي لا يؤثر او تقرر فيه، او من خلاله، في السياسة العامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية“، وبالتالي إبقاؤها ضمن قدرة الدولة الاشتراكية ومؤسساتها المركزية بهدف تحديدها وتكييفها وتقرير مصيرها. ومع نشوب الحرب العراقية الإيرانية وتراجع العائدات النفطية، والنضوب التدريجي للاحتياطيات من العملات الأجنبية، وتزايد الاعتماد على قروض المجهزين الأجانب، ثم على الديون الخارجية طويلة الأجل، طورت الدولة العراقية (خاصة خلال المدة 1981-1990) صيغا للاستجابة لهذا المتغيرات بحيث تتسق مع منطق المرحلة التاريخية وظروفها الخاصة والمستجدة. وهكذا تمت إدانة ما تم تسميته في حينه، بـ "غياب الحدود الفاصلة بين النشاط العام والخاص وسيطرة الدولة على كافية ميادين الإنتاج الزراعي والصناعي. كما تم التحذير من احتمالات تحول الدولة إلى "دولة دكاكين"، من خلال هيمنتها المطلقة على النشاط التجاري. كما تم الكشف عن عجز الأجهزة المختصة عن "التمييز بين الفروع الرئيسية والثانوية في الاقتصاد، والتمييز بين الحاجات الرئيسية والثانوية لأغراض الاستهلاك او لأغراض التنمية، والنزوع غير العلمي لتوسيع رقعة القطاع الاشتراكي". وأخيراً تم الاعتراف بأن ذلك كله لم يكن سوى "خطأ عبر عن ارتباك الصيغ التطبيقية لعملية التوسع الأفقي للقطاع الاشتراكي، والحق أضرارا بعملية التطور في البلاد". ومع أنّ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي كانت قد أشرت بدايات التحول باتجاه دعم القطاع الخاص وإعادة بناءه من جديد، فأن النصوص الايديولوجية الصادرة خلال هذه المدة كانت هذا تحمل القطاع المسؤولية الأساسية لتخلفة، واستمرت في نعته بالأنانية وقصر النظر والسعي الى تحقيق الارباح السريعة والمضمونة، وافتقاره الى الاستعداد لبذل الجهود الاستثنائية من اجل تطوير البلاد والحصول على المنافع في الأمد البعيد. ورغم الاعتراف بالفوائد الايجابية لضعف القطاع الخاص ومؤسساته السياسية والمهنية، وخاصة على صعيد حرمان " البرجوازية من امتلاك مراكز استقطاب يمكن ان تلعب دورا أساسيا معاديا للثورة، ونهجها الاشتراكي"، فقد كان هناك تأكيد مقابل بان هذا الضعف كان قد ترك العلاقة بين أجهزة الدولة والقطاع الخاص "عرضة لأهواء الأشخاص، وتقديراتهم الفردية ومعلوماتهم المجزأة، وللمصادفات ". وهكذا حددت الدولة، موقفها من القطاع الخاص في أوائل الثمانينيات على النحو الآتي (4): 2-العمل بشكل خاص على "لجم" الملكية الخاصة والنشاط الخاص، وإلغاء أي نوع من التعارض بين النشاط الخاص والملكية الخاصة المسموح بها، وبين القطاع الاشتراكي والمسيرة الاشتراكية بوجه عام. 3- ان حجم النشاط الخاص واتجاهاته تحددها ظروف التغيير. وان التملك والنشاط الخاص إنما يقوم بدور محدد ومرسوم مركزيا. "لذلك فان المطلوب ليس أحكام النشاط الخاص غير الاستغلالي بالقوانين والاتجاهات العامة للاشتراكية فحسب، وإنما إخضاعه للسياسات المرحلية، ونظرتها الى ما يجب ان يقوم به من بدور، وحجم وطبيعة ذلك ايضا ". 4- "اعادة النظر بالملكية الخاصة والنشاط الخاص من حيث النوع والحجم والاتجاه من حين لآخر، ومن ميدان لآخر، عبر صيغ متجددة لتأمين التوازن المستمر بين مقتضيات التغيير الاشتراكي، ومقتضيات لجم القطاع الخاص عن تجاوز الحدود المقررة له". يتضح لنا من هذا العرض ان هذه “ المرحلية “ في موقف الدولة من القطاع الخاص، وترسيم حدود النشاط الفاصلة بينه والقطاع العام (الاشتراكي) خلال المدة 1974-1990، لم تكن سياسة آنية او مرتجلة، بل كانت عقيدة سياسية، تحتكم الى مبادئ عمل محددة بدقة. وكانت هذه السياسة تهدف إلى تعويض ضعف الأداء العام في مجال معين، بجهد النشاط الخاص، كلما دعت الضرورة إلى ذلك. ولهذا فان التحول في سياسات الدولة إزاء القطاع الخاص، لم يكن يحدث على حين غرة، بل كان مرتبطا على الدوام بكفاءة الأداء الاقتصادي على المستوى القطاعي، وبالتحديات التي بدأت الدولة العراقية بالتصدي لها، والتي تفاقمت حدتها السياسية والاجتماعية منذ تموز 1958 . وفي حين وفرت ظروف الحرب العراقية- الإيرانية البيئة المناسبة لتنامي إمكانات القطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فان الدولة كانت حريصة على تطبيق سياسة "اللجم"، باقتصارها على تحويل جزء من وظائف القطاع العام إلى القطاع الخاص، والاتكال على جهده "مرحليا" في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تواجهها، وخاصة في مراحل العسر المالي. ولم تتحول إجراءات الانفتاح على القطاع الخاص إلى سياسات اقتصادية محددة إلا عبر تفاقم أعباء الحرب العراقية الإيرانية، والإحساس بضرورة مواجهتها، والإيمان بعدم قدرة الدولة على الإيفاء بالالتزامات الباهظة المترتبة عليها داخليا وخارجيا، والاعتراف بالحاجة إلى جهد جميع الفعاليات الداخلية، بهدف تقاسم الكلف الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليها( وهو ما تم الإعلان عنه من خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي لعام 1987). وبموجب هذا البرنامج أسهمتْ إجراءات التسعير الإداري، والمشاكل المرتبطة بنقص العملة الأجنبية، وعدم القدرة على حسم الموقف من آليات السوق بسبب ضعف القطاع الخاص وتواطؤه مع فساد القطاع العام، الى مزيد من التدهور المؤسسي، والى ترسيخ منظومات قيم وعمل بديلة، منحها الحصار الاقتصادي الكثير من أسباب بقاءها، واستدامتها .(5) ومثلما تم تكليف القطاع الخاص (في مرحلة سابقة) بجزء من مهام عملية الانتقال نحو الاشتراكية بريادة الدولة، تم تكليفه (في مرحلة لاحقة) بالمساهمة في ملكية وإدارة العديد من المشاريع (ذات الطابع العام). وبسبب الطابع الآني للمصلحة السياسية للنظام الحاكم، لم تكتسب هذه العملية عناصر بقاءها واستمراريتها بديناميكيتها الذاتية، وبالتالي لم يتم تحويل القطاع الخاص، تدريجيا، الى قطاع مشارك وفاعل في ادارة الاقتصاد الوطني. واصبحت عملية دعم قدرة القطاع الخاص على الفعل الاقتصادي، "آلية سياسية" تستخدم على نطاق واسع من اجل تنظيم او بناء نمط الدولة وفقا لما تمليه المهام البنائية الخارجية من ضرورات تقيد افعال الاقتصادات التابعة في مرحلة تاريخية معينة. وهذا هو بالضبط ما فعلته الدولة العراقية خلال الحرب العراقية – الايرانية . وهذه "الآلية السياسية" التي استخدمتها السلطة الحاكمة آنذاك للتعامل مع القطاع الخاص، هي بالذات من عملت طيلة هذه المدة على تقنين فساد هذا القطاع، أو تقنين "تطفلّه" على الريع النفطي، بحيث لم يتمكن من مدّ شبكة واسعة ومؤثرة باستخدام "الزبائنية" السياسية، و آليات التخادم المصلحي مع رموز السلطة، بحيث تتحوّل هذه الشبكة إلى بُنيّة متكاملة، وممتدة، وشاملة، كما حدث بعد العام 2003 . والمفارقة هنا هي أنّ استبدادية النظام، وقسوته، ونظام الحزب الواحد الذي يتحكم به في تلك المرحلة (مرحلة الدولة الريعية – الاستبدادية)، هي من حال دون تحوّل القطاع الخاص الى جزء فاعل من منظومة "رأسمالية الدولة الوطنية" المُتطفّلة على الريع (كما حدث بعد العام 2003). وهي ذاتها التي منعت تحوّل الفساد من ظاهرة إلى بُنية، مُستفيداً من طبيعة إدارة الدولة الديموقراطية – الريعية، ونمط تصرفها واستخدامها للموارد الاقتصادية (والمال العام)، كما سيتضّح لنا لاحقاً، من خلال المبحث الخاص بدراسة وتوصيف هذه المرحلة . ثالثاً : بداية عملية تحوّل الفساد من ظاهرة سلوكيّة، إلى بُنية مؤسسيّة ( 1991 – 2003 ) بحلول العام 1991 بدأت عملية تحوّل الفساد في العراق من " ظاهرة " ادارية – سلوكيّة، إلى " بُنية" قيميّة - مؤسسيّة. كظاهرة، كان هذا الفساد (قبل فرض العقوبات الدولية على العراق بسبب غزوه للكويت) "صغيراً" ومحصوراً في دائرة ضيقة لا تخرج عن اطار التعامل مع النخبة الصغيرة المحيطة بهرم السلطة . بعد العام 1991 بدأ هذا الفساد بالتشكّل بنيوياً. كان فساداً يكمن وينبثق ويمتد في صميم منطق النظام وممارساته، ويتحول على نحو متسارع (وبفعل آليات الحصار الاقتصادي والسياسي ذاتها) الى اداة حكومية للإدارة السياسية والاقتصادية (بما في ذلك إدارة السياسة الخارجية) . وكانت السلطة الحاكمة آنذاك تعمل على "شرعنة" هذا الفساد، والحرص على توجيه آلياته ،وضبط تداعياته، ومنعه من الانفلات. لقد كان ذلك شكلا من أشكال الفساد المؤسسي المدار بصرامة سلطوية مذهلة، ولكنه يبقى فساداً في كل الأحوال، حتى وان كان ذلك جزءا من تداعيات الظروف القاهرة التي كان يعيشها العراق آنذاك. وهذا الفساد كان أيضا ركنا مهماً في نظام حوافز النظام السابق، لكسب الولاء والدعم (في الداخل والخارج). وبهذا المعنى فقد كان هذا الفساد "ضرورياً" لاستدامة نظام الحكم (رغم جميع الضغوط والمحددات وتقييد القدرة على التحكم بالفائض الاقتصادي(. غير أنّ بُنْية الفساد (قبل العام 2003) كانت تختلف في تركيبها، وإطارها الفكري – السلوكي، عن بُنية الفساد (بعد العام 2003 (. ويمكن إيضاح ذلك من خلال تفكيك، وتحليل، نمط السلوك السياسي والاقتصادي للسلطة الحاكمة القائمة آنذاك، ونظام الحوافز المُرتبط بهذا النمط من أنماط الحكم، وكما يأتي: 1- المافيات المستقرّة والعصابات الجوّالة : بُنية الفساد في علاقتها مع نمط السلطة، ونمط السلوك السياسي. في الخلاصات التي توصلتْ اليها بعض الدراسات(6)، بخصوص السلوك الذي تنتهجه "تشكيلات" الجريمة المنظمّة، تبيّن أنّ عائلة المافيا، عندما تمتلك احتكاراً حقيقياً ومتواصلاً للجريمة في منطقة ما، فأنها لن تقدم على ارتكاب أية سرقات في هذه المنطقة على الإطلاق. فاحتكار الجريمة في منطقة معينة، سيحقق لعائلة المافيا المزيد من الربح، من خلال حمايتها للأنشطة المدرّة للدخل، وتوفير الأمن لسكان تلك المنطقة. لذا تقوم عائلة المافيا "بتعظيم " ما تحصل عليه من دخل، بقيامها ببيع الحماية، سواء أكانت هذه الحماية من الجريمة التي ستقوم هي بارتكابها ( أذا لم يقم الآخرون بدفع الاتاوة المطلوبة)، أو من الجريمة التي كان من الممكن أن يرتكبها الاخرون (أذا لم تقم بإبعاد اللصوص الآخرين). وعلى وفق هذا المنطق فانه كلما كانت " منطقة النفوذ " تتمتع ببيئة أفضل للعمل والسكن، كلما ازداد العائد من اتاوة الحماية. وبالتالي فأن امتلاك عائلة مافيا واحدة القدرة على احتكار الجريمة سيعني انه لم تعد هناك أية جريمة في " منطقة النفوذ " (باستثناء اتاوة الحماية) .(7) وعادةً ما تكون مؤشرات تفاقم الجريمة والعنف في البيئات والمجتمعات التي تقودها المافيا، دليلاً على إن العصابة المسيطرة بدأت تفقد احتكارها. لذا فرغم أن المجرم الفرد يأخذ في العادة كل المال الموجود في حافظة النقود التي سرقها، فأن زعيم المافيا العقلاني لا يحدد أبداً " معدل اتاوة الحماية " بما يقارب نسبة المائة في المائة. أن هذا الأمر من شأنه أن يعمل على تخفيض أجمالي دخل منطقة النفوذ إلى الدرجة التي تحقق معها عائلة المافيا، ذاتها خسارة صافية .(8) انّ هذا النمط من أنماط الإدارة السلطوية، يجعل الحاكم الفرد (في النظام الاستبدادي)، يُطبّق منظومات للضبط والسيطرة على السلوك الاقتصادي، تجعل من الصعب على القوى المجتمعية الأخرى ممارسة أنشطة ضارّة بهذا النمط من أنماط الإدارة (والفساد الشامل غير الخاضع للسيطرة هو واحد من اهم هذه الأنشطة الضارّة ). من هنا يأتي ما يمكن تسميتهُ بظاهرة "احتكار للفساد"، وحصرهِ بالحلقة الضيقة المحيطة بالنظام الحاكم، ورموزه الأساسية. وبهذه الطريقة أيضا يتم "تقنين الفساد"، وعدم السماح بتحويله إلى "بُنية مؤسسية" لها مصادر قوتها، وديناميكيتها الذاتية، المستقلّة عن الدولة ذاتها، وبما يجعلهُ خارجاً عن السيطرة (كما حدث بعد العام 2003). والسؤال المهم هنا هو : لماذا يكون زعماء حرب معينين (هم في الواقع زعماء عصابات مستقرة، تقوم بعمليات سلب مستمرة لمجموعة معينة من الضحايا) هم الأفضل (في نظر هؤلاء الضحايا) من العصابات الجوّالة السريعة الترحال ؟. من أين سيستمد زعماء الحرب هؤلاء شرعيتهم رغم أنهم لا يملكون أي أدعاء بالشرعية، ولا تتميز سرقاتهم عن سرقات العصابات الجوّالة إلا بكونها تتخذ شكل " ضريبة سلب " منتظمة، بدلاً من "عمليات نهب" متقطعة ؟ هناك سبب جيد لهذا التفضيل. ذلك انه لا يوجد سوى القليل من الإنتاج في ظل الفوضى، وبالتالي لا يوجد الكثير مما يمكن سرقته. واذا وجد زعيم عصابة جوّالة أن ما يحصل عليه كان ضئيلاً، وكان من القوة بحيث يسيطر على منطقة معينة، ويبعد عنها العصابات الأخرى، فأن بإمكانه احتكار الجريمة في هذه المنطقة والتحول الى زعيم عصابة مستقر)9). 2- الفساد المُقنّن في الأنظمة الاستبدادية، كنظام للحوافز. يغير هذا الاحتكار للسرقة (الذي قمنا بعرضه آنفاً) نمط الحوافز جذرياً. فالحوافز التي لا تبالي بمصالح المجتمع ستؤدي إلى سوء أداء النظم التي تسودها الفوضى. وتُشكّل "المصلحة الجامعة" لزعيم العصابة المستقر (الذي يتمكن باستمرار من إبعاد المجرمين الآخرين، إضافة إلى محصلي الضرائب) حافزاً له على التصرف بطريقة مختلفة تماماً. أن زعيم العصابة المستقر، الذي يتمتع بسيطرة مستمرة على منطقة معينة، ستكون لديه الرغبة على تحفيز ضحاياه على الإنتاج والدخول في مبادلات تجارية مفيدة للطرفين. فكلما زاد دخل هؤلاء الضحايا، كلما زاد ما يمكن أخذه منهم وإذ يحوّل زعيم العصابة المستقر سرقته الى "ضريبة متوقعة" لا تأخذ سوى جزء من ناتج ضحاياه، فانه يترك لديهم الحافز على توليد مزيد من الدخل. و أذا قام بخفض "الاتاوة - السرقة" التي يقوم باقتطاعها من 95 بالمائة الى 90 بالمائة (على سبيل المثال) فانه سيضاعف ما يحصل عليه رعاياه من عائد ما بعد الضريبة. وهو عائد يضاعف من قيمة الناتج والعائدات الضريبية بمعدلات أكبر من السابق. ويستمر زعيم العصابة المستقر في الاستفادة من خفض معدل " الإتاوة – السرقة" الى الحد الذي يتعادل فيه ما يكسبه (من تحصيل " الإتاوة – السرقة "على نطاق أوسع) مع ما يخسره (من جراء اقتطاع مقدار أقل من الناتج)، ويكون قد وصل بذلك الى معدل "الاتاوة – السرقة" المحقق لأقصى دخل ممكن. ولكون ضحايا زعيم العصابة المستقر هم مصدر عائدات الإتاوة بالنسبة له، فأنه يحظر قتل ضحاياه أو تشويههم جسدياً. وحيث ان قيام هؤلاء بالسرقة (وما يترتب على ذلك من اجراءات تهدف الى منع هذه السرقة) يعمل على تخفيض الدخل والناتج، فان زعيم العصابة لا يسمح لأحد سواه بممارسة السرقة. وهو يخدم مصالحه بأنفاق بعض الموارد التي يتحكم بها لمنع الجريمة بين رعاياه وتوفير سلع عامة أخرى. و أذا ما امتلك زعيم العصابة ما يكفي من القوة للحفاظ على سيطرته على إقليم ما، تكوّن لديه الحافز على الاستقرار، وايضاً الحافز على ان يتم تتويجه ليصبح حاكماً مستبداً يوفر السلع العامة للجماعة. ويدّعي الحكام المستبدون، من كافة الصنوف، بأن رعاياهم يرغبون في حكمهم. وبذا يغذوّن الفرضية الخاطئة عادةً وهي: أن حكوماتهم نشأت عن طريق نوع من الاختيار الطوعي(10). وكمفارقة تاريخيّة غريبة، فقد سادت الكثير من المقارنات(والمقاربات) الشبيهة بهذه في المجتمع العراقي بعد العام 2003. لقد انبرى الكثيرون لتقديم افضلية النظام "السابق" على النظام" اللاحق" انطلاقاً من الوقائع والظروف الملتبسة التي جعلت من الفوضى والفساد والخراب، هي السمات الرئيسة لنمط الحكم ،والإدارة الاقتصادية في حقبة ما بعد العام 2003 . وبإدراكنا لكيفية تغيّر حوافز عصابة من اللصوص، عندما تستقر وتؤمن سيطرتها على اقليم معين، سيكون باستطاعتنا فهم سبب تفضيل رعايا أمير الحرب لحكمه، رغم ما يأخذ منهم من " الاتاوة – السرقة " عاماً بعد عام مقارنه بحكم أعضاء العصابات الجوّالة التي سرقتهم بشكل متقطع. فاللصوصية الجوّالة تعني الفوضى. ويشير منطق الأمور والخبرة التاريخية والمعطيات المعاصرة الى أن الاقتطاعات التي يقوم بها زعيم العصابة المستقر أفضل بكثير من نظام الفوضى العارمة. وهذا هو المنطق الذي تحكّم بجميع تفاصيل الحكم بعد انهيار النظام السابق .
المبحث الثاني : الفساد في العراق (2003- 2015 : (تكريس الفساد البنيوي بعد العام 2003 بدأ هذا الفساد البنيوي بالأتساع، مُعتمداً في ذلك على مصادر تغذية إضافية. ولأن بعضاً من هذا الفساد كان موروثا من النظام السابق ،فأن عوامل جديدة دفعته الى التزايد بوتائر أسرع، وعلى نطاق اوسع. بيد أن المزيد من الشيء ذاته ،ولكن "بوتيرة أسرع"، وعلى "نطاق أسرع" لم يلبث ان يعمل على تسريع وتعميق الميول السلبية الموجودة أصلاً في الكيان السياسي والاقتصادي السابق .. ولكن مع استحداث "ميول جديدة" . ومع انهيار سلطة الدولة تم إطلاق العنان لأسوأ أنواع السلوك المجتمعي، وأكثرها انفلاتاً من اية قيود قيمية وقانونية .وعززت سلطة الاحتلال "المؤقتة" بـُنية الفساد من خلال إدارتها الكارثية لعقود أعادة الأعمار ،والأصول المالية، والايرادات النفطية(11). ولأول مرة (منذ العام 1991) تعلن بنية الفساد عن ذاتها في شكل تواطؤات مُعلنة بين السلطتين التنفيذية والقضائية . وشيئاً فشيئاً - وعلى نحو متسارع - طال الفساد البنيوي جميع مستويات النظام السياسي والاقتصادي، واصبح يشكل خطرا داهماً وحقيقياً على بنية النظام الجديد بجميع تفرعاتها وتفاصيلها. وعند هذا الحد لم يعد الفساد معيقاً للعمليات الاقتصادية الضرورية للبلدان الانتقالية - (الاستثمار والتمويل والنمو والتنمية والإصلاح الاقتصادي والتحول الى اقتصاد السوق)- بل أصبح ينخر في صلب السلطة التنفيذية، ويقوض مصداقيتها (وشرعيتها)، ويعمل على أضعاف دورها، والتقليل من هيبتها، والتشكيك في دوافعها (المعلنة وغير المعلنة) وفي مختلف المجالات. وتم تكريس هذا الفساد البنيوي من خلال نمط مُشوّه وشائن (إضافة لكونه غير كفوء) لإدارة الموارد الاقتصادية والمال العام، مارست الدولة "الجديدة" دوراً فاعلاً فيه. وبدلاً من أن يُسمح لقوى السوق الحرة بالعمل بفاعلية، وتحجيم دور الدولة في الاقتصاد ( على وفق أحد دعاوى تغيير النظام السابق )، اندفعت الدولة الريعية – الديموقراطية، لممارسة مهام أكبر وأوسع بكثير من الدولة الريعية - الاستبدادية السابقة عليها. ولغاية العام 2015، سمحت الأسعار المرتفعة للنفط لـ "الدولة العراقية الجديدة" ( بكافة سلطاتها) ،بانتهاج سياسة مركزية في إدارة الاقتصاد، و باستخدام أساليب توزيع للريع النفطي تستند الى معيار العدالة على حساب معيار الكفاءة في تخصيص الموارد الاقتصادية (12)، ومن خلال ممارسات "اشتراكية " تقليدية صريحة. وحافظت هذه الدولة على تقليد سلطوي سابق لها، يقوم على تأسيس شرعيتها، وترسيخها، من خلال قدرتها على "الإنجاز"، أكثر مما تستمدّها من التمثيل الشعبي- البرلماني (على وفق أحكام الدستور الدائم لعام 2005) . وتجسّد هذا السلوك الحكومي على أفضل وجه ممكن، من خلال زيادة وتائر نمو الأنفاق الحكومي (العام) بمعدلات غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي للعراق الحديث. وكان نمط توزيع الريع الذي تكفّلّت به الموازنة العامة الاتحادية، هو أحد أهم العوامل التي عملتْ على تكريس الفساد البنيوي في الدولة والمجتمع على حد سواء. أي في نمط الإدارة، ونمط القيم، كما سيتضّح لنا الآن .
أولاً : ترسيخ بُنية الفساد من خلال منهج رصد التخصيصات في الموازنة العامة للدولة في دولة نفطية – ريعية، وفي ظل اقتصاد يُعاني من اختلال هيكلي مُزمن، يفتقر الى التنوّع، وإلى تعدّد مصادر الدخل، تنمو بُنية الفساد، وتمتدّ سريعاً إلى جميع أوجه وتفاصيل النشاط الاقتصادي، والسلوك السياسي، والحِراك الاجتماعي، من خلال ترسيخ منهج معيّن للإنفاق العام، ونمط معيّن لإعداد وتنفيذ ومتابعة رصد التخصيصات في الموازنة العامة. ويمكن إيضاح ذلك من خلال ما يأتي : 1- الاعتماد على معيار "حجم" الأنفاق و ليس على معيار "جدوى" الإنفاق في الموازنة العامة : قطاع الأمن والدفاع انموذجاً (2006-2015): إنّ الأسلوب الحالي لأعداد الموازنة العامة في العراق لا يستطيع أن يعكس " جدوى" النفقات، وإنّما يعكس " حجمها " فقط. وبهذا النمط من الموازنات يتم التركيز من قبل جميع المعنيين بهذا الموضوع ( بما في ذلك الجهات الرقابية المختلفة ) على ما تمّ " إنفاقه " – فقط – من تخصيصات الموازنة العامة، وليس على "كفاءة " هذا الأنفاق أو " جدواه " الاقتصادية والاجتماعية . إنّ التحقّق من " مردود " النفقة العامة، وإيقاف أوجه الهدر والتبديد وسوء التصرف والتخصيص للمال العام، والحد من كافة أشكال الفساد المرتبطة بهذه العملية، يتطلّب الإسراع في تطبيق أسلوب بديل لأعداد الموازنة العامة، بدلاً من الأسلوب البائس والمتخلّف المعمول به الآن . أنّ مؤشرات " نوعيّة الحياة " في العراق تبيّنُ بوضوح أنّ الإنفاق على قطاعٍ ما، شيء، وأنّ "جدوى" هذا الأنفاق، هي شيء آخر . وباستثناء تضحيات قواتنا المسلحة، والعاملين في مؤسسات قطاع الأمن والدفاع كافة، التي لا تقدّر بثمن، ولا يمكن التعبير عنها من خلال مؤشرات كميّة " قياسية " أو بيانات ماليّة .. فأنّ " كفاءة " الأداء العام لهذا القطاع (كمعطيات أمنية ودفاعية ملموسة، ومحسوسة)، لا يبدو انها تتناسب مع " حجم" التخصيصات / النفقات، المرصودة له في الموازنات العامة للدولة للسنوات العشر الأخيرة . إنّ كفاءة أداء هذا القطاع هي العنصر الحاسم في النمو والاستقرار الاقتصادي، والسلم الأهلي - المجتمعي، والتنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة. ولإيضاح ذلك، يمكن إجراء مقارنة بين حجم التخصيصات المرصودة و / أو ( المُنفقة فعلاً ) من واقع البيانات المالية لقطاع الأمن والدفاع في الموازنة العامة، والحسابات الختامية التي تمت مراجعتها والمصادقة عليها من قبل ديوان الرقابة المالية ( كمقدمات منطقية لدراسة وتحليل هذا الموضوع ) .. وبين كفاءة الأداء الحاليّة لهذا القطاع ( كنتائج منطقية لتلك المقدمات ) . إنّ هذه المقارنة، أو " المُقاربَة " ستسمح، وتُحفّز الباحثين على إعداد دراسات رصينة، واستخدام " مؤشرات" دقيقة ومنطقية، لقياس جدوى الأنفاق (وليس مُطاردة حجم الأنفاق) في جميع القطاعات " الخدمية" الأساسية التي تقوم الدولة بتمويلها مركزياً ..( وبالذات في قطاع النفط والطاقة / وخاصة في قطاع الكهرباء)، وليس في قطاع الأمن والدفاع وحده. ويمكن بيان أهم المؤشرات والبيانات المالية لقطاع الأمن والدفاع في الموازنة العامة كما يأتي (13): • إنّ تخصيصات (نفقات) قطاع الأمن والدفاع في الموازنة العامة للدولة للسنوات 2006 – 2015 هي 151.92 ترليون دينار (126.600 مليار دولار تقريباً). وتشكّل هذه التخصيصات ما نسبته %15.32 من إجمالي نفقات الموازنة العامة للدولة ( كمعدّل / متوسط) للسنوات المذكورة . • إنّ تخصيصات هذا القطاع في الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2015 فقط هي 23.833 ترليون دينار ( 19.861 مليار دولا تقريباً ). وتشكّل ما نسبته 20 % من أجمالي تخصيصات الموازنة العامة للعام المذكور . • ان تخصيصات وزارات ومؤسسات هذا القطاع ( وزارات الداخلية، والدفاع، والأمن الوطني، وجهاز المخابرات الوطني، ومديرية نزع السلاح ودمج المليشيات )، هي أكثر من التخصيصات الإجمالية المقررة لـ 12 وزارة في الموازنة العامة للدولة لسنة 2015 .. هي: ( العمل والشؤون الاجتماعية، الصحة، التربية، التعليم العالي، البلديات والأشغال العامة، الأعمار والإسكان، النقل، الزراعة، الصناعة والمعادن، الاتصالات، البيئة، المهجرين والمهاجرين). حيث يبلغ إجمالي تخصيصات هذه الوزارات مجتمعةً 23.760 ترليون دينار . • إنّ عدد القوى العاملة في هذا القطاع هو 1. 051622 مليون. ويشكّل هذا العدد ما نسبته 34.74 % من إجمالي القوى العاملة في الموازنة العامة للسنة المالية 2015. أي أكثر من ثلث العدد الإجمالي للقوى العاملة في الوزارات والدوائر المموّلة مركزياً لعام 2015 . • ان عدد القوى العاملة في هذا القطاع، هو أكثر من عدد القوى العاملة في عشر وزارات هي : (الصحة، التربية، التعليم العالي، البلديات والأشغال العامة، الأعمار والأسكان، النقل، النفط، الاتصالات، البيئة، التخطيط)، والتي يبلغ عدد القوى العاملة فيها مجتمعةً 1.050881 مليون . هل تتناسب هذه المؤشرات، والبيانات المالية " الكميّة "، مع كفاءة الأداء " و " نوعيته " لقطاع الأمن والدفاع على أرض الواقع ؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال تجسدّت على ارض الواقع في انهيار منظومات الأمن والدفاع في حزيران 2014خلال ايام معدودة، وعلى امتداد ثلث مساحة العراق، وفي خسارة ثلاث محافظات بكل ما فيها من موارد مادية وبشرية، وبُنية تحتيّة. لقد كان الفساد المالي والإداري ينخرُ عميقاً ( ومنذ العام 2003) جميع مفاصل هذه المؤسسة، على مرأى ومسمع من الجميع، دون أن يتمكن أحد من وقفه أو الحدّ من تداعياته الكارثية على البلد بأسره . إنّ هذه "المنهجيّة" أو"المقاربة" في الدراسة والتحليل والمتابعة والتقويم، لا ينبغي ان تتوقف على قطاع الأمن والدفاع وحده .. وإنما تشملُ كافة القطاعات الخدمية الأساسية التي أولتها الدولة اهتماماً استثنائيا، ورصدتْ لها أموال هائلة في موازناتها العامة للسنوات العشر الأخيرة، ومنها، وأولّها، قطاع النفط والطاقة .. والكهرباء، التي تغلغل فيها الفساد أيضاً، وبلغ فيها هدر المال العام، معدلات غير مسبوقة.
2- الفساد واشكاليّة التشغيل والبطالة والإنتاجية في العراق يتغلغل الفساد في النسيج المجتمعي، ويتحول إلى جزء من منظومة القيم السائدة، من خلال تماهيه واندماجه مع أهم حقّ من حقوق الإنسان، وهو الحقّ في العمل. وفي دولة ريعية – نفطيّة (كالعراق)، يتراجع فيها دور القطاع الخاص باستمرار، يتحوّل هذا الحق إلى حق في " التوظيف " الحكومي، أكثر من أية فرصة عملٍ بديلة اخرى. (14) ان أكثر النشطين اقتصاديا نشاطاً ( اذا صح التعبير )، أي الشباب، لا يعانون فقط من تضاؤل فرص التشغيل الكافية، التي تتناسب مع ثقلهم ودورهم ومكانتهم ضمن القوى العاملة الكلية، ولكنهم يعانون ايضا من انخراطهم، وعلى نطاق يتسع باستمرار، في بيئة وقيم العمل غير اللائق ( وما يرتبط بها من احباط واغتراب وإهانة للكرامة البشرية). كما ان عددا لابأس به من الشباب المتعلمين، تعليما اوليّاً وعاليّاً، لا يعانون من الحصول على عمل لائق، بل يعانون من الإقصاء عن الدور، وتهميش القدرة على الابتكار والقيادة، نظرا ً لكونهم مجرد " موظفين على الملاك الدائم " في مجالات عمل محدودة القيمة والأثر، تتركز في القطاع الحكومي، وتنتمي إلى نمط وظائف أوائل القرن العشرين، وتتراجع، وأحيانا ً تنعدم فيها، انتاجية العاملين الى حدود غير مقبولة. وعندما نُسقط العمل غير اللائق، والتشغيل الناقص، والبطالة المقنعّة، والعمل غير المنتج، من معادلة الاحتساب الحالي لمعدل البطالة، سنجد ان هذا المعدل مرتفع في العراق الى حدود خطيرة. والخطورة هنا لا تتجسد في معدل البطالة " الحقيقي " بحد ذاته، بل في بنيّة هذا المعدل، وابعاده، وتداعياته الحالية والمستقبلية السلبية بجميع المقاييس. فالشباب في أطار هذه البنيّة، أما عاطلون تماما عن العمل، او يمارسون عملا ً غير لائق، أو يغطون في نوم عميق على أرائك الريع النفطي، حيث لا انتاجية، ولا تحقيق للذات، في دهاليز المؤسسات الحكومية. (15) ان العمل غير اللائق يكرّس اليأس والإحباط وانعدام الأمل. والعمل غير المنتج يكرّس الفشل والكسل وقيم الاتكاليّة والرعاية الأبوية، وعلاقات الإذعان، وليس المشاركة، بين أطراف العقد الاجتماعي. كما ان جميع اشكال العمل هذه هي تجسيد لسلوكيات سلطويّة مبددة للموارد المادية والبشرية، تقوم من خلالها الدولة الريعية بدفع " اعانات بطالة " شهرية، ولكنها باهظة التكلفة، إلى نسبة ضئيلة من العاطلين الشباب، وتحويلهم الى موظفين مقنّعين، واشباح، لا ضرورة لهم، يتم حجزهم في غرف حكومية جيدة التجهيز لثمان ساعات في اليوم، تلافيا لما قد يمارسه هؤلاء من سلوكيات ضارة سياسيا (وليس اجتماعيا أو ثقافيا ً)، فيما لو تم تركهم مع اقرانهم، العاطلين تماماً، خارجها . أما الأكثر خطورة، والابقى اثرا ً، فهو تنامي الاحساس بانعدام الأفق. وبأن لا اختراق للبنية الصلدة للبطالة ( أو" العطالة " بمختلف اشكالها وتجلياتها ) إلا من خلال الاجراءات النمطية العقيمة التي تلفّ وتدور حول نواة الفشل ذاتها، حيث تتحالف الحكومة مع الرصيف، ومع ادبيات التنمية والتمكين الدولية، وتكتيكاتها القاصرة، والقصيرة الأجل، لتمنحنا في المحصلة النهائية خليطا من " العمل الناقص " و " العمل غير اللائق " والعمل غير المنتج " و " البطالة المقنعّة ". و تبلغ نسبة الفقر بين الشباب ضمن الفئة العمرية 15-24 سنة 22%. وهي قريبة جداً من نسبة الفقر الاجمالية البالغة 23% (16). وتنخفض نسبة الفقر مع التقدم في العمر. وتعكس هذه النسب الظروف السيئة التي تقيد فرص الشباب، وتحد من امكانية حصولهم على مصدر دائم للدخل، وتدفعهم بالضرورة الى انتهاج أيّ سلوك قادر على ضمان التوظيف الحكومي لهم. و وجدت الكتل والأحزاب السياسية الحاكمة، ان كسب ولاء هذه الفئة يشكل جزءاً رئيساً من سعيها لضمان استمرار هيمنتها على السلطة والثروة، من خلال تقاسم "حُصص" الدرجات الوظيفية التي يتم استحداثها كل عام ضمن قانون الموازنة العامة للدولة. ولغياب المعايير المهنية في التوظيف، أصبحت عملية "التعيين" في دوائر الدولة، واحدة من اكثر أوجه الفساد وضوحاً وتفشيّاً، سياسياً وادارياً ومالياً .
3- التشغيل من خلال الموازنة العامة للدولة. على وفق بيانات قوانين الموازنة العامة الاتحادية فأن عدد القوى العاملة للوزارات والدوائر المموَلة مركزياً ارتفع من 2.060 مليون للسنة المالية 2007 الى 2.468 مليون (2010) والى 2.750 مليون للسنة المالية 2012، والى 3.027069 مليون للسنة المالية 2015 (17). وتكس هذه الأرقام اعداد الموظفين على الملاك الدائم، موزّعين حسب سلّم الدرجات الوظيفية المعتمدة، والمُصادق عليها من قبل وزارة المالية. وفي حال إضافة عدد العاملين بنظام العقود، والعاملون "المؤقتّون" بأجور يومية، فإنّ العدد قد يصل الى احجام أكبر من هذا الرقم المُعلن بكثير . وقد شجع السلوك الريعي المركزي في الانفاق (عبر ضخامة حصة النفقات التشغيلية في الموازنة العامة للدولة) ظاهرة "الركوب المجاني" على نطاق واسع. كما عمل على تعزيز منظومات الفساد من خلال السلوك الريعي للدولة، والركوب المجاني للمواطنين. ان الفرد في العراق لا يزال يعيش على مخيلة حقه في الريع النفطي مقابل التجنب الضريبي، وبالتالي تحصيل مشاركة سياسية مثلى، كشرط مسبق لتحقيق مشاركة مثلى في بناء الإنتاج والدخل وتقوية أواصر التنمية والتطور الاجتماعي والاقتصادي. ولا يزال النمط الريعي المركزي - الرعوي - الديمقراطي يوفـرّ افراطا ً مجتمعيا ً مشوها ً في العدالة على حساب الكفاية الإنتاجية. واصبح هذا الأفراط في العدالة بعد العام 2003 تجسيد للتكلفة الحقيقية للديموقراطية في الاقتصاد السياسي للعراق . وهكذا وفــّرت "العدالة الريعية" دخلا ً لقرابة (7) ملايين مواطن، من موظفين ذو انتاجية متدينة، ومتلقين للرعاية الاجتماعية، والمتقاعدين . وتشكل النفقات التحويلية والرواتب والاجور الحكومية مصدر العيش والدخل الوحيد تقريبا ً لحوالي 25 مليون مواطن عراقي من أصل 34 مليون نسمة. وعلى هذا الاساس فقد تكرست دالة من دوال الرفاهية الاجتماعية في العراق تشكل في جوهرها تكريسا ً للمجتمع الريعي (غير المنتج) وذلك من خلال بلورتها لنظام مختلّ للحوافز الاجتماعية الفردية تتفوق فيه قيم الاستهلاك والمضاربة على أخلاقيات الإنتاج والاستثمار والولاء للعمل المنتج. (18) ان اعتماد الموازنة الريعية على مرتكز تشغيلي قوامه توليد طبقة واسعة من شاغلي الوظائف الحكومية سيعمل على صياغة هيكل توظيف يتمتع بالحصانة والتصلب المؤسسي . ويتسع هذا الهيكل باتساع الموارد الريعية في فترات النمو والازدهار الاقتصادي، ولكن لا يمكن المساس به في فترات الركود والانتكاس. كما يتمتع هذا الهيكل بكيان مؤسسي " حمائي "، تكون الدولة فيه قريبة الشبه من "شركة تأمين اجتماعي" تعمل باتجاهات ثلاث، هي : • لا تسريح من العمل لأفراد هذه الطبقة، حتى وان كان ذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية مهمة وحاسمة. • تخفيض المساهمة الضريبية لهذه الطبقة الى ادنى حد ممكن، مع احتفاظها في ذات الوقت بجميع مكاسب الركوب المجاني، ولأبعد مدى ممكن . • عدم استعداد هذه الطبقة، وبشكل قاطع، للتنازل عن اي امتيازات تحققت لها في ظروف اقتصادية مؤاتية، على صعيد الرواتب والدعم، والرعاية الاجتماعية، والنفقات التحويلية الاخرى كافة . سادسا ً : الفساد في قطاع الوظيفة العامة : الفضائيّون .. والمقنـّعون .. والاشباح افرزت انماط الادارة الهجينة وسياسات التشغيل "الشعبويّة "، والتقلبات الحادة في دورة الموازنة العامة الريعّية، ومن خلال آثارها السلبية على السياسة المالية ؛ مظاهر جديدة لم يشهدها الاداء الوظيفي من قبل . • فقد تعمقت وتنامت ظاهرة البطالة المقنّعة ؛ وتفشت في جميع مؤسسات الدولة الى حدود وصلت فيها انتاجية الكثير من العاملين الى الصفر. لقد اصبح هؤلاء "الموظفون المقنعّون " يتقاضون اعانات اجتماعية شهرية باهظة التكلفة من "شركة التأمين الاجتماعي" التي فتحت لها الدولة العراقية فروعا ً كثيرة في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي، ومعظمها مجالات خدمية غير منتجة ،على وفق السمات والاختلالات التي أشرنا اليها في سياق هذه الورقة . • ان نصف الموظفين العراقيين لا يلتحقون بأعمالهم يوميا. والكثير منهم لا يعملون فعلا ً اكثر من ساعتين او ثلاث كل يوم. وبعضهم يحضر الى مقر عمله يوميا ً، ولا يعمل على الإطلاق . • وعلى وفق تقارير دولية موثوقة، ومن خلال الخبرات الشخصية للعديد من الباحثين، فأن ثلث الوزارات العراقية، تعاني من تفشي ظاهرة "الموظفين الاشباح"، وهؤلاء هم "الاشخاص الذين تدفع لهم الرواتب بانتظام، لكنهم لا يأتون (أو لا يتواجدون) مطلقا ً في مقرات عملهم" . • اما على صعيد المؤسسة العسكرية والأمنية (وزارتي الداخلية والدفاع) والتي تستحوذ (كمعدل خلال مدة البحث) على 25% من تخصيصات الموازنة العامة للدولة، فثمة مؤشرات، وشبهات فساد، تحوم حول ما يسمى بالمنتسبين "الفضائيين". وهؤلاء هم "الاشخاص الذين يتم تعيينهم شريطة استحواذ مسؤولهم الاعلى المباشر على نصف رواتبهم (او اي نسبة يتم الاتفاق عليها معهم) مقابل عدم الالتحاق بوحداتهم أصلا ً، او مقابل اعفاءهم من واجباتهم التقليدية.. او منحهم اجازات طويلة بشكل دائم" . ان المقنعون والفضائيون والاشباح هم بمثابة "متلازمة مرضيّة" تنخر في الجسد الهش للاقتصاد وفي هيكله المختلّ، وانتاجيته الميّتة . وعندما تتعايش هذه المظاهر، مع اتساع ظاهرة العمل غير اللائق، خاصة في اوساط الشباب، فأنها ستعمل على تكريس النزعات الاتكاليّة على الدولة الريعيّة، وتساعد على تفشي الكسل المعرفي والانتاجي، وتنزع عن الحوافز الاجتماعية والاقتصادية مضمونها التنموي، وستجعل استدامة عملية التنمية بأسرها متوقفة على مصادفات النفط الخام. وهي مصادفات غير سارّة في اسوأ الاحوال ... وغير مستدامة في أفضلها .
المبحث الثالث : بنية الفساد في العراق (2003- 20014 : (ميكانزمات العمل داخل البُنية
أولاً : التغلغل والشمول والأتسّاع من خلال السمات الخاصة للنظام السياسي "الجديد". ترسخّتْ بُنية الفساد في العراق بعد نيسان 2003من خلال تلك التحولات السريعة في سمات وخصائص وتركيبة النظام السياسي" الجديد ". ومن خلال المصالح الاقتصادية، وطبيعة الصراع على السلطة والثروة من قبل القوى المتنفذة المرتبطة بهذا النظام ،والتي شكّلتْ جميعها ما يمكن تسميتهُ بـ "السلوك الاقتصادي" الخاص بها، وكما يأتي : 1 - ان التحالفات السياسية (المتعددة الأحزاب)، والأليات التوافقية التي تعمل بها هذه الاحزاب (كأداة لتقاسم السلطة والثروة) أدت الى ما يسمى بـ "تشظّي قنوات المحسوبية الاقتصادية"، بعد ان كانت هذه القنوات خاضعة في السابق لاحتكار حزب واحد. وهذا التشظي في الاحتكار الاقتصادي لم يسمح لفئة رجال الاعمال الجديدة بإمكانية الوصول الى الموارد الاقتصادية فقط، بل سمح لها باستغلال الثغرات العديدة والكبيرة في البنية الهشة للنظام السياسي والاقتصادي الجديد بهدف الحصول على حصة اكبر من هذه الموارد(19). ومن خلال تغلغلها عميقاً في قلب مصالح الفئات السياسية الحاكمة ،تمكنت هذه الفئة من ترسيخ آلياتها الخاصة في اختراق المؤسسات المالية والادارية الجديدة، وانتزاع اكبر قدر ممكن من الفائض الاقتصادي منها . ان تطفل بعض القوى السياسية على هذا النمط من الرأسمال الخاص، ومحاوله ترضيتهِ بمنحه المزيد من العقود الحكومية ،جعل من ريع الفساد في العراق واحداً من اكبر الريوع تكلفةً في العالم. وربما كان هذا واحدا من الاسباب التي تجعل العراق واحداً من اكثر البلدان فساداً في العالم.
2 - ومن المفارقات المهمة في "النموذج العراقي للديمقراطية" هو ان هذه الديمقراطية تحاول "انتاج الرضا"، بدلا من الارتكاز فقط على هذا الرضا (كما تفعل الديمقراطيات الناضجة). وهذا الرضا هو رضا المواطنين الذي لا يمكن انتاجه، بل يمكن فقط الركون إليه من خلال قيام الحكومات الانتقالية بالعمل على بناء الأمة، وتشكيل الدولة، وتوسيع الديمقراطية، والمشاركة في السلطة، والتداول السلمي لها. (20) وفي حين يفترض ان يكون هذا الرضا ناتجا عن شرعية الحكم، وعن كون هذا الحكم صالحاً (او جيداً)، وعن رفع وتائر النمو الاقتصادي، فان النموذج العراقي للديمقراطية قد عمل (بدلا ً من ذلك) على إعادة انتاج النمط السلطوي لتوزيع الريع النفطي ليتلاءم مع الشكل الجديد للنظام السياسي. ومن هنا انبثقت ظاهرة جديدة (مشتقة من بـُنية الفساد العراقي ذاتها) هي ظاهرة مقايضة الريع النفطي بالصوت الانتخابي. ولا يمكن التوسع في ايضاح ما تحمله هذه الظاهرة من تداعيات خطيرة جدا ً على العملية الديمقراطية الناشئة والهشة اصلا ً في العراق(حيث يمكن الحصول على تفاصيل تكثر بصددها من دراسات أخرى)(21). غير ان ما نود التأكيد عليه هنا هو انه بدلا ً من قيام الريع النفطي بتعزيز النموذج العراقي للديمقراطية، فان النموذج العراقي للديمقراطية، مدعوما ً بالريع النفطي قد عمل على تعزيز الفساد بوتائر أوسع وأسرع من السابق.
3 - ان أهم النزاعات السياسية تتركز على تحديد حجم الانفاق العام وتوزيع صلاحيات هذا الانفاق، اي على كيفية تقاسم تخصيصات الريع النفطي في الموازنة الفيدرالية بين القوى الحاكمة او المتنفذة في العراق الان. ومع الاقرار (دستوريا ً) بنمط معين لتوزيع الريع بين الحكومة الاتحادية المركزية الهشة واطرافها القوية (وهو نمط قائم على توزيع جزء من الريع على الموالين والمعارضين؛ والأصدقاء والخصوم، بهدف ترضيتهم، او تحييدهم، او احتوائهم لضرورات مرحلية، فان الحكومة المركزية لا تستطيع السيطرة على نمط التصرف بهذا الريع لأنها اضعف من ان تقوم بذلك. ولا يستطيع مجلس النواب ممارسة صلاحياته الرقابية على السلطة التنفيذية لان الديمقراطية التوافقية (او المحاصصة المذهبية او الاثنية) تحول دون ذلك. ولا تتمكن مجالس المحافظات من فرض رقابتها على المجالس البلدية لأن الولاءات المناطقية لا تسمح بذلك. وقبل كل هذا و ذاك فان رئيس الوزراء لا يستطيع محاسبة وزرائه او اعفائهم من مهام عملهم .. لأن الكتل السياسية المتنفذة التي ينتمون اليها لن تقبل بذلك . وعلى وفق هذه المنهجية الفريدة في تقاسم السلطة والثروة يدفع العراق الثمن الباهظ الذي يتكبده الان، والذي سيرسم ملامح المستقبل فيه لعقود عديدة قادمة. 4 - في مبادئ الاقتصاد السياسي .. هناك ما يُدعى بـ أمثليّة " باريتو " Pareto optimality. وتعني، بأختصار، أنّ الكفاءة في توزيع الموارد ستتحقّق عندما [لا يمكن زيادة رفاهية شخص .. دون الإضرار برفاهيّة شخصٍ آخر]. واستنادا لذلك، قد تقوم الدولة (عند توزيع الموارد على مواطنيها)، بعملية "مقايضة" بين معيار الكفاءة، ومعيار العدالة، في تخصيص الموارد بين الاستخدامات المختلفة. فاذا اختارتْ العدالة، فرّطَتْ بالكفاءة. وإذا اختارتْ الكفاءة، فرّطَتْ بالعدالة. ونادراً ما تنجح الدول في الجمع بين المعيارين ( أي العدالة في توزيع الموارد والكفاءة في استخدامها معاً ) لتحقيق أفضل مستوى رفاه ممكن للمواطنين في حدود الموارد والأمكانات التكنولوجية المتاحة لديها. وتتجسد أعلى درجات التفريط بالكفاءة، من خلال نمط ادارة الحكم والتصرف بالموارد في الدول الريعية. وفي مبادئ الاقتصاد السياسي، أيضاً، يُفتَرَضْ " نظرياً " أنّ الأشخاص الأكثر كفاءة سيحصلون على " حصّة " اكبر من الثروة ( والسلطة ). غير ان ما يحدث في الكثير من الدول الريعية هو غير ذلك تماماً. فـ " قلّة " فاسدة من الأشخاص قد تحصل على الحصة الأكبر من الثروة والسلطة استناداً إلى قاعدة " القوّة " القائمة على تنامي نفوذها السياسي والاجتماعي، وليس استناداً إلى كفاءة أداءها الاقتصادي . أمّا الأشخاص الأكثر كفاءة فيحصلون على حصّة أقل من الثروة والسلطة، أو على حدّها الأدنى .. هذا اذا لم يدفعوا حياتهم ( أحياناً )، أو قدرتهم على ممارسة ادوارهم ( في أحيان أخرى كثيرة )، كثمنٍ (أو عقابٍ) لارتفاع مستوى كفاءتهم، بهدف ازاحتهم عن طريق الثروة والسلطة، وتركه للأقل كفاءةً منهم، أو للذين لا يمتلكون أيّة كفاءة على الأطلاق . وهكذا تعمل، وتتفاعل، بُنية الفساد و عدم الكفاءة، في أطار " مُتلازِمَة " Syndrome تَخادُم سياسي - سلطوي، لإطالة هذا النمط من الحكم، واستمرار المنافع و " الحوافز " المترتبة عليه، لأطول مدة ممكنة . ويعودُ ذلك، بدرجةٍ أساسية، إلى معيار " التقاسم " السائد، القائم على تنامي القوّة، وسعة النفوذ. فـ حصّة "الكفوئين" من السلطة والثروة، ستتحدّد (في هذه الحالة) استناداً إلى درجة ولائهم للقوى المتنفذّة في اطار نظام الحكم القائم .. وليس استناداً إلى كفاءة أداءهم الاقتصادي والمهني، والمعرفي. 5 - تأسيسا ً على ما تقدم فان النموذج العراقي للديمقراطية، بنمط سياساته القائم على "التوزيع" و "الترضية" قد منح الفساد في العراق ابعاداً اقتصادية وسياسية (شاملة ومتكاملة ومستدامة) لم يسبق لها مثيل. 6 - وفي غياب مؤسسات ضامنة لتقاسم السلطة والثروة، ومع تعدد سلطات الهيمنة واتخاذ القرار، فأن الفساد قد تحول (من خلال آليات اعادة توزيع الفائض الخاصة به) الى نمط حاكم لهذا التقسيم. ونتيجة لسعي جميع القوى المتنفذة في العراق للسيطرة على "حقول تفريخ " الفساد المترامية الأطراف، انتكست كل العمليات التطورية في العراق دفعة واحدة. فتفاقمت ظواهر الفقر والتشرد والإرهاب والبطالة، وازدادت القوى السياسية الاساسية انقساما ً وتشرذما ً، وتعثرت عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في واحدة من أصعب مراحل الانتقال التي يمكن ان يمر بها بلد ما في التاريخ الحديث. 7 - ان هناك ادراكا ً حكوميا ً متزايدا ً لحجم المشكلة وخطورة تداعياتها (وعلى أعلى المستويات). غير ان هذا الادراك لا يكفي لوحده لتفتيت كيان راسخ من القيم والممارسات الممتدة عميقاً في أدق تفاصيل النسيج المجتمعي.
ثانياً : الدولة و النشاط الخاص في العراق : ميكانزمات العمل داخل البُنية . استخدمتْ بنية الفساد في العراق خلال المدة (2003- 2015) ميكانزمات الاستدامة الخاصة بها من خلال قنوات عديدة تم استخدامها من قبل الدولة والنشاط الخاص في العراق، وأفرزتْ أثناء عملها مصالح فئاتها وشرائحها الاجتماعية والسياسية المرتبطة بها، أو المنتفعة منها. وسرعان ما عملتْ هذه الفئات والشرائح على تكريس نفوذها السياسي، واحكام قبضتها، وتعزيز قدرتها على التحكّم بالسلوك المجتمعي، من خلال إحكام سيطرتها على القنوات التي يتسرب منها ريع الفساد من الدولة الى المجتمع، و تكريس نمط مُحدّدا للتصرف بالفائض الاقتصادي. و يمكن ايضاح طبيعة عمل هذه الميكانزمات المتداخلة والمركبّة من خلال ما يأتي: 1- طبيعة وخصائص و وظائف النظام الاقتصادي الجديد. بتغيير النظام السياسي والاقتصادي السابق في نيسان 2003، وبفعل آلية التغيير ذاتها، تمّ التأسيس لنظام اقتصادي هجين، يتّسم بخصائص رئيسة منها : الأداء الاقتصادي الملتبس، و تخبط السياسة الاقتصادية العامة. أنّ أهم ميكانزمات هذا "النظام الاقتصادي" (الذي لم يتم توصيفه على نحو دقيق ابدا، رغم مرور ثلاث عشرة سنة على " تحرير " العراق من "الحكم الشمولي"، ووضعه على "عتبة " الانتقال (من جديد) إلى اقتصاد السوق الحر)، وبقدر تعلّق ذلك بتمدّد واتّساع بُنية الفساد في العراق، هي تلك الطبيعة الخاصة لما يسمى بـ ظاهرة "تراكم رأس المال المالي السالب"، وارتباط هذا التراكم بآيديولوجيا الصراع في محاور السياسة الاقتصادية العراقية. و قد بدأت آلية التراكم هذه بالعمل ضمن مستوى من التحول في السياسة الاقتصادية الراهنة، و في اطار دولة ريعية مركزية تتجه ايديولوجيا ً نحو ديمقراطية السوق، ولكنها تمسك (في الوقت ذاته) برصيد الثروة والناتج المحلي الاجمالي، بعد ان تأطرت، الى حد بعيد، بنموذج اقتصادي نيو كلاسيكي (او ليبرالي الى حد ما). وهو النموذج الذي يؤكد بحماس على أهمية فصل اقتصاد السوق الحر، وقطاع الاعمال، عن نشاط الحكومة(22). وعلى وفق هذا النموذج يصبح " تحصيل الريع " هو الهدف الرئيس للنشاط الخاص عند تعاطيه للنشاط الاقتصادي، وتشابكه مع النشاط الاقتصادي للحكومة. وكامتداد لطبيعة وظائفه ودوره في النظام السابق ( والتي اشرنا اليها فيما سبق) فأنّ هذا النشاط استمرّ في "تطفُلّه" على النشاط الريعي الحكومي. وفي اطار سعيه الى ادامة هذا التطفّل، فإنه كثيرا ً ما يسعى الى وضع السياسة الاقتصادية العامة باتجاهات تؤدي الى "نجاحات اسمية"، لا تولـّـد نطاقا ً مستداما ً من القيمة المضافة، ولا تمتلك القابلية والشروط الموضوعية التي تعمل في نهاية المطاف على استدامة التنمية، وتوفير شروطها الموضوعية. ولعلّ واحدا من أهم الآليات الحكومية لتسريب الفائض، وتوزيع الريع اثارةً للاهتمام هو " مزاد العملة الاجنبية للبنك المركزي العراقي". انّ هذا المزاد (الذي يتم من خلاله بيع وشراء العملة الأجنبية في العراق ) بات جزءاً من الصراع الايديولوجي، سواء بين مفاصل السياسة الاقتصادية نفسها، أم بين رأس المال المالي الكلي (بشقّيه الخاص والعام). وفي أطار هذا الصراع، لم تعد السياسة النقدية متفرغةً لاستخدام آليات بلوغ أهدافها في فرض الاستقرار في مستوى المعيشة، عن طريق استقرار سعر الصرف، والمستوى العام للأسعار، بل اصبحت جزءاً من هذا الصراع ذاته. و لكي تقوم السياسة النقدية بوظائفها التقليدية، أصبح لزاما عليها الآن أن تحقّق شروط الانسجام شبه التام مع " الرأسمالية المالية للقطاع الأهلي". ولأنّ هذا القطاع ملتحم تجاريا ً مع الخارج، و مع مستودعاته المثيرة للجدل، فأنه سرعان ما اصطدم باشتراطات السياسة النقدية، ودورها الرئيس في النهوض باقتصاد مُختّل، وضعيف وغير مستقّر، وقابل للانهيار. وقاد هذا الصراع بالضرورة الى صراع مع رموز السلطتين التنفيذية والقضائية ( الحامية والكافلة والضامنة لاستمرار الأنشطة الطفيلية للنشاط الخاص). وقد أجج هذا التعارض بؤرة الصراع مع رأسمالية الدولة .. لينتهي الأمر الى صراع مكشوف، داخل مفاصل السياسة الاقتصادية ذاتها. وقد أفضى هذا الصراع الى "حروب من الاتهامات والهواجس"، تتجاهل العلة الرئيسة، وهي علة توصيف النظام الاقتصادي في العراق، وإشكالية ذلك النظام الريعي الذي تغلب عليه سمات رأسمالية الدولة، والتي هي في الوقت ذاته مصدر وبوصلة توليد ذلك الصراع(23). أنّ آليات مزاد العملة الأجنبية (الذي يُعَدْ اساس السياسة النقدية لبلوغ اهدافها في الاستقرار) لا يتعدى كونه احدى منظومات التعاطي مع "رأس المال المالي الكلي"، وأجزائه وتراكماته بالدينار العراقي المنفق عبر الموازنة العامة للدولة. تلك الموازنة التي تهيمن على حوالي 60% من الناتج المحلي الاجمالي للعراق(في الظروف الاعتيادية). وعلى وفق هذه الآليّة فأن الدولة اصبحت تتصرف بموارد النفط، على نحو يجعلها تصب (في نهاية المطاف) في مفاقس "الرأسمالية المالية العراقية ". وهذه "الرأسمالية العراقية" (التي تتعامل بدرجة رئيسة مع الخارج.. سواء في تمويل التجارة الاستهلاكية، او لزيادة تراكماتها المالية من أرباحها التجارية في تلك "المستودعات الآمنة" خارج الحدود) قد عملت على تحويل هذه المستودعات الخارجية الى "بؤر مالية" مُستقطِبة للتراكم الرأسمالي العراقي. وبهذا أصبحت حركة "النظام الاقتصادي"، وادواره ووظائفه الرئيسة، تدور في حلقة مُفرغة، جعلت من الاقتصاد العراقي اقتصاداً قوي الاستهلاك، ضعيف التنمية، وموَلّدا للفساد بكافة انواعه ومظاهره . انّ التلازم بين رأس المال المالي للدولة و "رأس المال الاهلي" ما زال مستمراً حتّى الآن (بالرغم من الأزمة المالية الخطيرة التي يعاني منها الاقتصاد العراقي بسبب الانخفاض الكبير في اسعار النفط). وهذان "الرأسمالان" يتعايشان، (دون بلوغ مرحلة الصراع التناحري)، في ربيعٍ من السلام رغم التناقض الحاد فيما بينهما. الا ان كشّاف الصراع ومستوى حدته، تعكسه مرآة مزاد العملة الاجنبية للبنك المركزي العراقي. وعلى الرغم من ذلك، فأن كلا الرأسمالَيْن، ما زالا حالة واحدة، وجهة متصلة النشاط. وهذه الحالة عملت على تحويل العراق إلى ماكنة مستهلكة من الدرجة الاولى، ومعطـّلة للاستثمار والانتاج، بمستوى مماثل. ولكن علـّة الصراع ومستوى تفجّرهِ هي ماكنة التمويل بالنقد الاجنبي، وتفسير شرعية الفائض في رأس المال المالي الاهلي، وشرعية التحويل والحرية الاقتصادية في التعامل مع مستودعات تراكم الثورة المالية خارج البلاد، عبر "النظام الاقتصادي" العراقي، الرأسمالي المالي، المبهم المعالم، في تفسيره لحدود الملكية الشخصية وحرية التصرف بها(24). وبمقارنة طبيعة وخصائص هذه "الرأسمالية المالية" المُستحدثَة، و المتطفلة على الريع، والعاملة في اطار نمط جديد لرأسمالية الدولة (الريعية – الديموقراطية) بعد العام 2003، مع خصائص وطبيعة النشاط الخاص الذي كان يعمل في اطار نسق اقتصادي وايديولوجي صارم، ومُقنّن للتصرف بالمال العام ومصادر تسريب الفائض الاقتصادي، من خلال الدولة ( الريعية – الاستبدادية ) قبل العام 2003، يمكننا معرفة لماذا اتسّعتْ بُنيّة الفساد على هذا النحو المُذهل، ولماذا باتتْ تستمّد مصادر ديمومتها، وقوتها، من النظام القائم ذاته، ومن طبيعة القوى السياسية والاجتماعية المتحكمّة فيه، والمتحالفة معه، والتي تحولّت الى جزء من منظومة الفساد ذاتها، والى عاملِ حاسم من عوامل اتساعه واستدامته، في مفاصل الدولة العراقية كافة.
المبحث الرابع : إستراتيجية النفاذ إلى البُنية، و تفكيكها : (الإطار العام( . اتّضح لنا مما سبق ذكره ان الفساد في العراق، ليس "ظاهرة مالية" او ادارية صرفة لكي تستطيع التشكيلات الحكومية الرقابية التصدي لتداعياتها السلبية (قصيرة الأجل) على نحو فاعل. ان مفوضية النزاهة ومكاتب المفتشين العموميين، وهيئات الرقابة المالية، و اللجنة العليا لمكافحة الفساد في مجلس الوزراء، قد تنجح في المراقبة والرصد، وقد تضبط البعض (من صغار الفاسدين او المفسدين) متلبسين بالرشوة أو الاختلاس، وقد تعمل على احالة البعض من هؤلاء الى المحاكم (ان استطاعت او تجرأت على ذلك) وقد تصدر المحاكم أحكامها بحق البعض من هؤلاء (ان تجرأت على ادانتهم بتهم الفساد المنسوبة اليهم). وقد يتم تعليق تنفيذ الاحكام القضائية تحت ذرائع شتى.. ومع ذلك فأن الفساد سيبقى بنية .. وليس ظاهرة .. و رد الفعل الاجرائي (من خلال التشكيلات الحكومية المشار اليها انفا ) لن يؤدي الى نتائج حاسمة في مواجهة فعل بنيوي كاسح، ليس من السهل اجتثاثه او الحد منه بهذه الاجراءات الاحتفالية الهزيلة. واستناداً الى هذه المقاربة، يمكن أن يعمل الجهد الهادف لإضعاف هذه البُنية، ومن ثم النفاذ اليها، وتفكيها من خلال محورين اساسيين، هما :
أولاً : تفكيك بـُنـْيـّة الفساد المتعددة الأبعاد . اتضّح لنا مما سبق، أنّ الفساد في العراق لم يعد مجرد ظاهرة ظرفية، أو مشكلة من تلك المشاكل النمطية المرتبطة بالإدارة الانتقالية لشؤون السياسة والاقتصاد. إن هذا الفساد أصبح بعد العام 2003، نسقا قيميا، وتغلغل عميقا في منظومات الأداء الاقتصادي والسياسي، وفي انماط السلوك المرتبطة بهذا الأداء. وتمكن الفساد نتيجة لذلك، من تشكيل بنيته الخاصة به، و تأسيس شبكة واسعة من المصالح المعقدة والمترابطة، و إفراز مراكز قوى مستحدثة، وقادرة على الدفاع بضراوة عن هذه المصالح، في مواجهة أي، تهديد حالي أو مستقبلي، قد تفصح عنه عملية صنع السياسة في العراق . ولا يمكن مواجهة تحدي تفكيك هذه البنية من خلال إجراءات وسياسات و استراتيجيات نمطية، تأخذ السلطة التنفيذية على عاتقها مهمة تطبيقها. فالسلطة التنفيذية أصبحت، (بفعل الظروف غير الطبيعية، والاشتراطات غير الموضوعية، التي رافقت تكوينها بعد العام 2003)، جزءا أساسيا وفاعلا في بنية الفساد ومنظوماته القيمية والمؤسسية القائمة حاليا في العراق. إنّ سلطة تنفيذية على هذا القدر الخطير من إشكالات التأسيس، لا يمكن أن تكون (في المدى القريب) عنصرا أساسيا وجاداً في صنع السياسة اللازمة لإبطاء عملية اختراق وتغلغل التشكيلات البنيوية الفاسدة إلى عمق التشكيلات القيمية والسلوكية (الفردية في الغالب) التي لا تزال تقاوم إغراءات ومكاسب الحصول على الريع الضخم للفساد، وبكلف (اجتماعية وشخصية) زهيدة جدا، ناهيك عن شروع هذه السلطة في تفكيك بنية الفساد ذاتها (على المدى الأبعد). إن تفكيك بنية الفساد القائمة حاليا في العراق، يتطلب بناء إرادة سياسية جادة وحازمة، تأخذ على عاتقها مهمة إضعاف هذه البنية، ومؤسساتها، وشبكة المصالح المرتبطة بها. كما يمكن (كأجراء آني) الحد من هذا الفساد في إطار استراتيجيات سبقتنا إليها دول أخرى. وتستطيع الحكومة تفعيل او تعديل " الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد " بما يسهم في تحقيق هذا الهدف. مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة استكمال البنية المؤسسية ( الادارية والقانونية والرقابية ) اللازمة لوضع مثل هذه الاستراتيجيات موضع التطبيق . ويرتبط استمرار هذه الاشكالية، وعدم القدرة على تحقيق نجاحات ملموسة وسريعة في مواجهتها، إلى ضعف الأجهزة الرقابية للسلطتين التشريعية والتنفيذية على حد سواء. وعدم وجود التزام سياسي بتنفيذ توصيات اللجان الرقابية بهذا الصدد. وتراخي آليات الردع القضائي ذات الأثر المعلن والمباشر. والتضامن مع الفاسدين على وفق انتماءاتهم السياسية والفرعية، وليس بعدّهم مكلفين بأداء الوظيفة العامة، ومسؤولين مباشرين عن تبعات هذا التكليف. وأخيراً تفشي السياقات البيروقراطية، الأكثر تخلفاً و الأعلى كلفة، في جميع مفاصل الإدارة الحكومية، ووجود كم هائل من التعليمات والاجراءات وضوابط التنفيذ التي تشكل منافذ مهمة لجميع أنواع الفساد. لذا يمكن ايجاز أهم الأسس الفكريّة "الأيديولوجية"، والآليات الإجرائيّة "المؤسسيّة" لهذه الإستراتيجية بما يأتي : 1- ان الاقتصاد العراقي (في ظروفه الريعية الراهنة) هو أحوج ما يكون الى دور اقتصادي للدولة، يُسّهل الشراكة والاندماج مع النشاط الخاص ،عبر تركيبة فكرية، ومنهجية اقتصادية تمثل عودة الى ما يمكن تسميته بـ "الماركنتالية الاقتصادية الجديدة" والترويج لأيديولوجيا "النشاطات الخالقة للسوق" وابراز دور الدولة ــ الامـّـة nation-state في الحياة الاقتصادية . 2- ضرورة التخلي عن وهم تغييب او اضعاف الدولة في المدى القصير لتحقيق مكاسب (افتراضية) على المدى الطويل. فلا يمكن قيادة المراحل الانتقالية بدولة هشة على جميع المستويات. ان قوة الدولة تكمن في عملية اصلاح شاملة لبنيتها القائمة الحالية. فهذه الدولة "الديموقراطية الجديدة" أ ُريدَ لها أن تكون دولةً "رخوة" ( كما يبدو) وذلك من خلال النظر اليها كمحصلة لمعطيات غير طبيعية عملت على تشويه بنيتها، وجعلها أسوء بكثير من بنية "الدولة التسلطية" السابقة عليها. 3- ان هذه الدولة القوية هي الضامنة والحاضنة لإصلاحات سياسية واقتصادية جذرية. بل هي الضامنة لإعادة بناء القطاع الخاص على أسس متينة ومعززة لاستدامة الدور والوظيفة، وعلى تحقيق تحول تدريجي وناجح وقليل التكلفة الى اقتصاد السوق. ودولة كهذه هي القادرة على فرض تصوراتها بشأن اصلاح الاطار القانوني (المؤسسي) لتتخطى بذلك عقدة الخوف من السلطة التشريعية ( ولتتجاوز أيضاً اشكاليات التقاطع و الصراع معها) من خلال المشاركة الفاعلة في وضع افضل الصيغ الممكنة لمشاريع القوانين المقترحة، وتوسيع عملية اقرارها، ووضع التعليمات ذات الصلة بوضعها موضع التنفيذ. 4- ان الليبرالية والديمقراطية والفيدرالية والاقليمية واللامركزية )الادارية والمالية ) واقتصاد السوق ينبغي التعامل معها كمفاهيم، أو كمعطيات انتقالية بحاجة الى المراجعة الدائمة، وصولا ً الى افضل صيغ الحكم. ان التعامل مع هذه المفردات الخطيرة كحقائق نهائية قبل ارساء أسس دستورية وقانونية واجرائية واضحة وراسخة للتعاطي معها، هو واحد من أهم اسباب الفوضى و سوء ادارة الحكم في العراق منذ العام 2003 وحتى الآن. 5- لا يمكن لسلطة تنفيذية محاصرة بالضغوطات و التسويات والتوافقات السياسية انتاج شيء ذو قيمة لإصلاح أداءها السياسي والاقتصادي. فالنمط الانتقالي للتنمية بحاجة الى قيادات مؤهلة ومستقرة من أجل الايفاء بمتطلبات الانتقال الصعبة (دون المساس بالمكاسب الاقتصادية لعموم المواطنين / كرواتبهم وآليات توظيفهم المتوارثة من عقود سابقة / وحصتهم التموينية / وخدماتهم المجانية وشبه المجانية. ان تحسين الاداء والممارسة الحكومية لا يلد من رحم دولة ضعيفة ومستباحة، وهو بحاجة لدعم المواطنين ودعم الجيران ودعم المجتمع الدولي. وعلى أية حكومة وطنية حقيقية ان تعمل على مكاشفة مواطنيها بمشاكلها بكل أبعادها وتفاصيلها .. وان تعمل على حثهم على مؤازرتها(باعتبارهم المستفيدين الأساسيين من برامجها الآنية والمستقبلية).
ثانياً : أهم الآليات الإجرائيّة "المؤسسيّة" المطلوبة للنفاذ إلى بُنية الفساد، وتفكيكها استناداً الى مقاربة هذا البحث لموضوع الفساد في العراق، وضرورة التعامل معه كـ " بُنية " تمتلك مقومات اتّساعها وشمولها واستدامتها، وليس كـ"ظاهرة" عابرة ضمن منظومات عمل سياسية واقتصادية "انتقاليّة" قصيرة الأجل. فأنّ الباحث يرى بأنّ التقدم الى الأمام، في اطار خطّة عمل بعيدة المدى للحدّ من الفساد في العراق، و"تجفيف" منابع استدامته، يمكن أن يتم من خلال ما يأتي : 1- مقترحات حول الاطار العام لتحجيم قدرة الفساد على الاستدامة من خلال النظام التعليمي، ويتضمن: • اعداد منهاج اكاديمي شامل لمكافحة الفساد مكون من: - انماط اكاديمية (مناهج). - مقررات دراسية. - قضايا ودراسات حالة. - ادوات تعليمية ومواد مرجعية يمكن للجامعات وغير ها من المؤسسات الأكاديمية دمجها في برامجها الدراسية القائمة . • تدريس قضايا مكافحة الفساد في إطار دورات دراسية لمواد القانون وإدارة الأعمال وعلم الجريمة والعلوم السياسية . • معالجة النقص الحالي في المواد التعليمية في مجال مكافحة الفساد والتي تكون مناسبة للاستخدام على مستوى الدراسات الجامعية الاولية والعليا على حد سواء . 2- تأسيس (الأكاديمية العراقية لمكافحة الفساد)،وصياغة نظامها الداخلي. ويمكن تحديد اهداف ومهام هذه الاكاديمية بما يأتي : • مكافحة ظاهرة الفساد على نحو شامل ومشترك بين مختلف التخصصات ذات الصلة، مع الحرص على مراعاة مبدأ الحرية الاكاديمية والوفاء بأعلى المعايير المهنية . • تعزيز القدرة على منع ومحاربة الفساد بالإضافة الى قياسه . • خلق شراكة قوية وفاعلة تعزز المشاركة في الخبرات والمعرفة في مجال مكافحة الفساد مع الشركاء الآخرين من خلال مناهج (مشتركة) وحلقات دراسية، ومؤتمرات وانشطة اخرى (كما ورد في المادة -1- من مذكرة تفاهم هيئة النزاهة مع الاكاديمية الدولية لمكافحة الفساد). • تدريب الموظفين في مختلف القطاعات تدريبا ً فعالا ً على جميع الجوانب المتعلقة باحدث الآليات والممارسات المتبعة في مجال مكافحة الفساد . • تدريب المسؤولين الحكوميين على استراتيجيات مكافحة الفساد . • تنظيم حلقات دراسية ودورات تدريبية للمدراء التنفيذيين والمسؤولين عن مكافحة الفساد في السلطة القضائية . • بناء القدرات بهدف ضمان ملائمة المهارات والآليات المطلوبة لتنفيذ الالتزامات الوطنية في اطار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد . • تعزيز القدرات الوطنية لضمان استعادة الموجودات وتعزيز الشفافية ومبادرات الحوكمة الرشيدة . • تمكين القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني عن طريق بناء قدراتها وزيادة مشاركتها في مبادرات مكافحة الفساد. أمّا المناهج المستخدمة في هذه الأكاديمية فيمكن ايجاز اهمها بما يأتي : - التدريب حسب الاختصاص • رسم السياسات • بناء القدرات • التدابير الوقائية • استرداد الموجودات • تطوير قدرات العدالة الجنائية • موائمة التشريعات والسياسات المتعلقة بحماية الشهود مع المعايير الدولية • غسيل الاموال • الحوكمة الرشيدة : الحكم الرشيد • التحليل الجنائي الحاسوبي • تعقب الموجودات واستعادتها • التحقيقات المالية • المحاسبة العدلية • أساليب الاستجواب في التحقيقات ويمكن تنفيذ ذلك من خلال البرنامج الذي يحدد الموضوعات ذات الصلة بتدابير مكافحة الفساد والجريمة الاقتصادية التابع لمكتب الامم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، وبرامج المكتب الاقليمية .
3- اجراءات "وقائية" أخرى :
أ- المجال الاقتصادي والاداري والبيئي • الجرائم البيئية، وما يتعلق بها من سياسات وممارسات وانظمة ضبط ومتابعة، خاصة وان الحاق الضرر بالبيئة لا يعتبر جريمة في الكثير من البلدان النامية، وان من يلحق الضرر بالبيئة يستطيع التملص من تبعات فعله من خلال اعتماده على تفشي الفساد في الادارات والمؤسسات المسؤولة عن إدارة ومتابعة هذا الملف . • الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والمالية والقانونية (ومنها اصلاح المؤسسات والتشريعات وأنماط الإدارة وأنظمة الضرائب والجمارك، وادارة الاتصالات في اوقات الأزمات). • الفساد في قطاع الخدمات. ويندرج في أطاره تدريب الموظفين العموميين في قطاع المياه وقطاع الصرف الصحي. ويمكن ان يتم ذلك من خلال بناء قدرات الإدارات المحلية وقطاع الخدمات في مجال استخدام ادوات وآليات المساءلة ورعاية المصالح العامة والنزاهة . • مكافحة الفساد في قطاع الاستخراج. حيث تعد الاقتصادات الريعية من اكثر الاقتصادات فسادا، بسبب الطابع الخاص لإنتاج وتوزيع الفائض الاقتصادي الريعي فيها .
ب- المجال القضائي والقانوني • مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (وبالذات فيما يتعلق باسترداد الموجودات) . • دعم وتوعية الاشخاص المكلفين بمهمة اصلاح وتوطيد النظم القضائية، من خلال عرض التدابير الناجحة المتخذة في طائفة متنوعة من البلدان لمعالجة تحديات خاصة تعترض تعزيز نظام العدالة . • توفير معلومات عملية بشأن كيفية بناء وصيانة نظام عدالة يتسم بالاستقلال والحياد والشفافية والفعالية والكفاءة، و يتوخى تقديم الخدمات، ويحظى بثقة الناس، ويرتقي الى التوقعات الواردة في الصكوك والمعايير والقواعد القانونية الدولية ذات الصلة . • الترويج لاتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد كاطار لتعميم ضمانات مكافحة الفساد، ووضع الأطر القانونية والاجرائية المنظمة لها (وبالذات ما يتعلق منها بأنظمة ادارة المال العام والصرف خلال الأزمات) . • إرشاد الشركات إلى كيفية مكافحة الفساد في عملياتها التجارية من خلال التقيد بمعايير النزاهة، وتمكين القطاع الخاص من اعتماد سياسات لمكافحة الفساد تتسق مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وتأطير ذلك ببنية مؤسسية وتشريعية ملائمة . • التعريف بآليات جمع وتحليل المعلومات التي يمكن لها ان تتيح إمكانية إحراز تقدم في جهود استرداد الموجودات، يمكن ان تستنير بها دوائر صنع القرار في السلطات الوطنية، والمساعدة على زيادة فعالية التعاون الدولي، ولاسيما في أطار المساعدة القانونية المتبادلة . ج - التثقيف في مجالات : - النزاهة • عقد حلقات عمل مصممة خصيصا ً لمعالجة مختلف المواضيع ذات الصلة بجهود مكافحة الفساد، والتعريف بالمسائل والتحديات المستجدة على المستوى الوطني . • التدريب حول وسائل الوقاية / منع الفساد والاحتيال . • التدريب على نزاهة القضاء / للجهات القضائية ذات الصلة . • برنامج مخصص لمساعدة القطاع الخاص على وضع مبادئ للسلوك الأخلاقي في الأعمال التجارية، واجراء عمليات تقييم لمخاطر الفساد في الأعمال التجارية، وإجراء عمليات تقييم لمخاطر الفساد في التعامل بين القطاعين العام والخاص .
- الشفافية • بناء قاعدة معلومات دقيقة وواضحة وبسيطة وقابلة للاستدامة، ويمكن لخبراء مكافحة الفساد الاستفادة منها في المدى البعيد . • تنظيم سبل الحصول على المعلومات . • تعزيز الاطار القانوني لمكافحة الفساد وبما يجعل الشفافية جزءا ً اساسيا ً في هذا الاطار . • تعزيز القدرات والالتزام بالقواعد المهنية، وقواعد الشفافية في أجهزة تطبيق القواعد والاجراءات والسياسات والتعليمات ذات الصلة بمكافحة الفساد، مثل ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ومكاتب المفتشين العموميين ومدراء الرقابة الداخلية في الادارات الحكومية. • التعريف بـ "بوابة مكافحة الفساد" المسماة "تراك". وهذا يعني التعريف بالادوات والموارد المعرفية في مجال مكافحة الفساد التي انشأها مكتب الامم المتحدة UNODC . و "تراك" هي منصة شبكية على الأنترنت تتضمن كل شيء عن آليات و مؤسسات وتشريعات مكافحة الفساد في 187 دولة . كما تعد بوابة "تراك" ايضا ً بمثابة محرك بحثي يمَكــّن الدول و دوائر مكافحة الفساد وعامة الناس والقطاع الخاص من الوصول الى المعارف المتعلقة بمكافحة الفساد، بما في ذلك دراسة حالات ونماذج معينة قابلة للمقارنة او للتعميم، والممارسات الأفضل بصدد المكافحة، وتحليل السياسات، وكل ذلك يمكن الحصول عليه في موقع مركزي واحد . • تثقيف الصحفيين وتمكينهم من نشر تقارير صحفية عن الفساد تتسم بروح المسؤولية والطابع المهني بهدف استحداث آلية موضوعية معنية بالممارسات الجيدة في هذا الشأن لتعميمها واستخدامها لدى الجهات صاحبة المصلحة المعنية، ولا سيما الموظفون العموميون والاعلاميون.
-المساءلة • التدريب على استخدام أساليب التحري لفائدة جهاز القضاء والنيابة العامة والشرطة الوطنية ومكاتب المفتشين العموميين . • تعزيز سلامة وقدرة نظام المساءلة على الصعيد الوطني وخصوصا ً في الإدارات المحلية حيث يتصل المواطنون اتصالا ً مباشرا ً بالجهاز الحكومي . • تعزيز قدرات منظمات المجتمع المدني في مجالات مكافحة الفساد . • البحث في المسائل القانونية والإجرائية ذات الصلة بهذا الموضوع، إضافة الى بحث الموضوعات المتعلقة بالسياسات المتصلة بالإثراء غير المشروع .
د- مقترحات أخرى • التركيز على المنهجيات التي تتيح اجراء تقييمات كمية، ومستندة الى التجربة العملية. وقد سبق لدول أخرى وان استخدمت الدراسات الاستقصائية كأساس مفيد لوضع سياسات أفضل لمكافحة الفساد .
• ويمكن الاستعانة بمكتب الامم المتحدة لمكافحة الجريمة في اعداد انشطة وبرامج للمساعدة التقنية ذات الصلة، مصممة خصيصا ً لهذا الغرض . • وقد سبق لهذا المكتب وضع برامج للدراسات الاستقصائية حول الفساد في العديد من البلدان، ومنها العراق. حيث تم التعاون بين هيئة النزاهة وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP في العراق لهذا الغرض. وقد تم انجاز العمل الميداني للدراسات الاستقصائية في العراق. على أن يتم نشرالتقارير التحليلية ذات الصلة بها اعتباراً من عام 2012 . 4- التعليم المستمر ويمكن ان يتم الإيفاء بمتطلبات هذا التعليم من خلال : أ- تطوير مناهج التدريب والتثقيف ذات الصلة بمكافحة الفساد ب- التعريف بالآليات المستخدمة في التحقيق في جرائم الفساد وملاحقة مرتكبيها قضائيا ً. ج- تقديم ارشادات بشأن القوانين والتعليمات ذات الصلة بمكافحة الفساد . د- تعريف عام باستراتيجيات استرداد الموجودات . هـ- تحليل ودراسة الثغرات في نظام المشتريات الحكومية ( بما في ذلك التشريعات والتعليمات والضوابط والممارسات ذات الصلة). و- تحليل ودراسة الثغرات في نظام او انظمة تنفيذ المقاولات في القطاعين العام والخاص . ثالثاً : تفعيل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، والعمل مع المؤسسات الدولية ذات الصلة بمكافحة الفساد • الاتفاقيات ومذكرات التفاهم 1- اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد UNCAS. 2- مؤتمر الدول الاطراف في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد (18-22 حزيران 2012) فريق استعراض التنفيذ / الدورة الثالثة / البند (3) من جدول الاعمال المؤقت . 3- مذكرة التفاهم الموقعة بين هيئة النزاهة وبين الاكاديمية الدولية لمكافحة الفساد. 4- مذكرة التفاهم الموقعة بين هيئة النزاهة والاكاديمية الماليزية لمكافحة الفساد. 5- مبادرة استرداد الاصول المسروقة SHAR.
• التعاون والتنسيق بين الجهات والهيئات الرقابية الوطنية، وبين المؤسسات الدولية المعنيّة بمكافحة الفساد : 1. مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة UNODC . 2. مكتب مكافحة الاحتيال الأوربي OLAF. 3. الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد (النمسا). 4. الانتربول (وهو من وضع تصوراته حول الاكاديمية الدولية لمكافحة الفساد في العام 2005). 5. برنامج العدالة المشترك التابع لـبرنامج الأمم المتحدة الانمائي (UNDP). 6. وزارة العدل الاتحادية ( العراق ). 7. مفوضية حقوق الإنسان الوطنية ( العراق ). 8. لجنة التنسيق العليا الخاصة بتنفيذ استراتيجية مكافحة الفساد ( العراق ) .(25)
الهوامش والمراجع : (1) لمزيد من التفاصيل، انظر : كامل علاوي، و حسن لطيف الزبيدي. العراق، تاريخ اقتصادي. بيت الحكمة، بغداد، 2014. (2) جميع النصوص بين "هلالين مزدوجين" هي من ادبيات الحزب الحاكم سابقاً، وكتابات "قياداته" ذات الصلة بالشأن الاقتصادي في تلك المدة. انظر في ذلك : عماد عبد اللطيف سالم. الدولة والقطاع الخاص في العراق : الأدوار، الوظائف، السياسات. بيت الحكمة، بغداد 2001. ص 169-176 . (3) المصدر ذاته، ص 177-180 . (4) المصدر ذاته، ص 174-175. (5) احمد ابريهي علي. اقتصاد العراق في دراسات : استئناف النهوض لتعويض الفرص الضائعة. دار الايام للنشر والتوزيع. عمّان، الأردن 2013، ص126. (6) يمكن الاطّلاع على تحليل عميق لسلوك الأنظمة الاستبدادية ( وممارساتها اللصوصيّة) في ادارتها للشأن الاقتصادي، ومنظومات الضبط التي تستخدمها لإحكام، واستدامة، سيطرتها على مصادر السلطة والثروة، من خلال المرجع الآتي : منصور اولسون : السلطة والرخاء. نحو تجاوز الدكتاتوريتين الشيوعية والرأسمالية. ترجمة د. ماجد بركة. مراجعة وتقديم د. محمود عبد الفضيل. المنظمة العربية للترجمة. دار الطليعة للطباعة والنشر. الطبعة الاولى. بيروت 2003، ص153-161. انظر ايضاً : بي. أس. دوما، الاقتصاد السياسي للحروب الأهليّة. ترجمة عبد الإله النعيمي. دراسات عراقية .، بغداد – بيروت – اربيل، الطبعة الأولى 2008، ص 61-67. (7) علي عبد الأمير علاّوي. احتلال العراق، ربح الحرب وخسارة السلام. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الثانية، بيروت 2009. ص528-551 . (8) مظهر محمد صالح قاسم. مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق : الدولة الريعية من المركزية الاقتصادية الى ديموقراطية السوق. بيت الحكمة، بغداد، 2010، ص 61-62 . (9) المصدر ذاته. ص 54 . (10) المصدر ذاته. ص 55-56 . (11)المصدر ذاته، ص 56 . (12) المصدر ذاته، ص 57 . (13) لم تنشر في كلّ قوانين الموازنة العامة البيانات التفصيلية الخاصة بمؤسسات قطاع الأمن والدفاع المختلفة. واقتصر ذكر قطاع الأمن والدفاع على قوانين الموازنة لسنوات معينة(وبالذات الأخيرة منها). لذا تم اعتماد البيانات الخاصة بوزارتي الدفاع والداخلية، فقط، لهذا الغرض. مما يعني ان الأرقام والبيانات المذكورة في هذه الورقة، هي اقل من البيانات والأرقام الفعلية، وان لم يكن ذلك بمقدار كبير جدا، وذلك بسبب صغر حجم تلك المؤسسات مقارنة بوزارتي الدفاع والداخلية ). ويمكن بهذا الصدد مراجعة البيانات المالية الواردة في قوانين الموازنة العامة الاتحادية للسنوات المالية 2006 – 2015، والمنشورة في جريدة الوقائع العراقية ( ماعدا بيانات السنة المالية 2014، التي تم اعتماد بياناتها من مسودّة قانون الموازنة للعام المذكور، المنشور في وسائل الأعلام، والذي لم يُشرّع حتّى الآن ). (14) شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية. الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية. الحق في التعليم، الحق في العمل. بيروت 2012، ص 124. (15) وزارة الشباب والرياضة / الجهاز المركزي للإحصاء / هيئة احصاء اقليم كردستان. التقرير التحليلي للمسح الوطني للقوة والشباب. نحو استراتيجية وطنية لشباب العراق. بغداد 2011 . (16) وزارة التخطيط. اللجنة الوطنية للسياسات السكانية. تحليل الوضع السكاني في العراق 2012. بغداد 2012 . (17) جريدة الوقائع العراقية. قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2007، العدد 4036 في 12-3-2007. و قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2010، العدد 4145 في 22-2-2010. و قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2012، العدد 4233 في 12-3-2012. و قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2015، العدد 4352 في 16-2-2015 . (18) مظهر محمد صالح. مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق. مصدر سبق ذكره، ص 21-22 . (19) لمزيد من التفاصيل حول مساوئ الديموقراطية التوافقية، أنظر : آرنت ليبهارت. الديموقراطية التوافقية في مجتمع متعدد. ترجمة حسني زينة. الفرات للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى، بغداد – بيروت 2006، ص 79-86. انظر ايضاً : خالد غزال، المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة المُركبّة. دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 2008، ص 18 . (20) حازم الببلاوي : دور الدولة في الاقتصاد. دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998، ص 153-155. (21) مظهر محمد صالح. مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق. مصدر سبق ذكره، ص20. (22) مظهر محمد صالح : الاقتصاد الريعي المركزي ومأزق انفلات السوق، رؤية في المشهد الاقتصادي العراقي الراهن. بيت الحكمة، بغداد، 2013، ص 27-28 . (23) المصدر السابق ذاته، ص 19-20 . (24) للمزيد من التفاصيل حول طبيعة عملية التراكم المالي للرأسمالية العراقية ( بعد 2003)، أنظر : المصدر السابق ذاته، ص 21-30 . انظر ايضاً بصدد تحليل المصالح الضيّقة للفئات صاحبة المصلحة في الدولة النفطية : تيري لين كارل، مخاطر الدولة النفطية، تأملات في مفارقة الوفرة. ترجمة: عبد الإله النعيمي. دراسات عراقية. الطبعة الاولى. بغداد – اربيل - بيروت 2008، ص41-42. (25) لمزيد من التفاصيل حول هذه الاستراتيجية، أنظر : دراسات في الأطر التشريعية والمؤسسية للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد للسنوات 2010-2014. هيئة النزاهة، بغداد، 2010 .
|