وريث الملك غازي |
ذكريات البصرة القديمة، المدينة التي تحمل عبق الماض الجميل، بما تبقى من شناشيلها وابنيتها العتيقة، توثق لأحداث كبيرة وكثيرة، أتملاها بقصص محمود عبدالوهاب، وأستطعمها بما أبدعت أنامل محمد خضير، أستنشق عطرها بقناطر طالب عبدالعزيز.
لكن ثمة أبنية لا تزال شامخة، أحداها المكتبة الاهلية العريقة، فهي ترمز لغنى ثقافي عاشته البصرة مثلما تمثل حلقة الوصل بين الماضي والحاضر، حين أمرُّ أمامها أعود بذاكرتي عقودا، أما حين أتخطى بابها الحديدي المزجج، أجدني اجول بنظري في رفوفها ودكاتها الخشبية وما تحمله من نفائس، تغني الفكر بكل ما هو قيم، حتى أضحت مشعلا بصريا طاردا للظلمة. وما يضفي على جمالها جمالا ويزيدها عذوبة، ذلك ما ورثه مصطفى عن أبيه وجده، من فن أدارة وخلق رفيع، يحلو لي تسميته الامير ابن الملك غازي فيصل، لقاءان لا أكثر، كانا كافيين ليكون بمصاف من عرفتهم قبله بعقود، إطلالته الجميلة بجبهة عريضة، وعينيه الملونتين، وابتسامته الجميلة، يجلس الى يمين باب المكتبة، وفي مسافة لا تبعد سوى أمتار عن عرش أبيه الملك غازي( كما يحلو لي أن أسميه)، في الواجهة التي امام الباب، وفي أقصى المكتبة، اجدني بأصعب اللحظات، حين اراه ممسكا بصحيفة تحمل لي مقالاً، يتملكني حينها هاجس غريب، هاجس يلح عليّ بان القي كل أعبائي وهمومي، أتمعن في ملامحه، وانصت بكل جوارحي لافهم ما يقول وما لا يقول، فهو مثل الكثيرين من رعاة الثقافة والادب، يتغافلون عن عمد هفوات السائرين على دروب الكتابة، هذا ديدنهم فلا يضعون العصي بعجلتهم، هذا لا يمنعني من ان اشتف رضاه من عدمه، نظرة عينيه من فوق نظارته، حركة أصابعه على عصاه، نبرة صوته، معايير الفتها وصرت أحل شفرتها الصعبة، فأي معيار أهم من ملك يوشك على التقاعد، بعد خمسين عاما أمضاها بين آلاف العناوين والمضامين، بين الكلمات وصحبة أصحابها، عاصر جيلين أثروا الثقافة البصرية بل العالمية، كان للسياب مكان بجانبه، وعلى أكداس جرائده .ملامح السيد غازي تؤرخ لحقبة تستحق أن نذرف عليها بدل الدمع دماً، قد لا يصدق البعض أن الطائرات القادمة للبصرة في سنين خلت كانت تحمل معها صحفا عربية ودولية يومية، وبأعداد كبيرة، لم يكن حينها تعداد العراق سوى نصف عدد اليوم، وان الجرائد وحتى الامس القريب، تستخدم بعد قراءتها من قبل القصابين والعطارين وباعة المشروبات وآخرين بدلا من الاكياس، أيام كانت الثقافة والفكر لا تقل اهمية عن الخبز، ولو لم تكن كذلك لما أستمرت المكتبة الاهلية العريقة 85 عاما، قد يظن البعض أن العمل في هذه التجارة سهلا مثلما كنت أظن ، لكنني وبعد تطور صداقتي بمصطفى ومجالسته، لا أكون من المبالغين ان قلت بانه يهبها عمره، جرائد تصله فجرا، وأخرى ظهرا، وبين زمهرير الشتاء، وجهنم صيف البصرة، الموزعون الثانويون وشقاوتهم، كلها منغصات تجعل من العمل صعبا، ينام أحيانا على كرسيه، ولا يجد راحته، الا حين يذهب سائحا عند توقف إصدار الصحف اليومية في الاعياد والمناسبات، مثل عصفور تحرر من قفصه، لكنه سرعان ما يحن لرائحة أحبار الطباعين، ومزح الادباء وشقاوتهم، ولسائقي مرآب النهضة ونكاتهم . ما يجعلني متأكدا أن السيد مصطفى سيصون المكتبة الاهلية مهما كلفته من متاعب أنه ولج عالم الكتابة بإحساس القارئ المتذوق، وصار أكثر التصاقاً بالكلمة وما تعنيه، حتى بات أكثر وعياً وحكمة، واشد عزماً وقوة، بجهده جعل من المكتبة الاهلية دار نشر، تعتمد المطابع العربية الرصينة والمهمة, غير مبال بكل ما وفرته المكتبات الالكترونية،. إصراره يعيد للأذهان العلاقة الوطيدة بين الكتاب والقراء الذين كانوا من فرط حبهم له وخوفهم عليه يحيطونه بغلاف ثان عند المجلدين، مشهد يرسم صورة تقول إن الكتاب له حرمة، ما يجعلني لا ارى على رفوف ودكات المكتبة الاهلية الا شموساً ساطعة قادرة على أن تهزم الظلام والظلاميون، وتنشر بدلا عنها النور والتسامح والإبداع، مثلما هي قادرة أن تميط اللثام عن الباطل وتعريه بيدها الحرة الطاهرة، وتنتصر للعدل والحق باليد الأخرى |