وللتاريخ كلمة في شأن السريان والسريانية! الجزء الثاني- |
كثر العتب وزاد الغضب والشجب والاتهام بين دوائر وجهات ومراجع كثيرة في الوسط المسيحي في الآونة الأخيرة بشأن الغبن والإجحاف الذي لحقَ بمكوّن "السريان" الذي أهملته لجنة كتابة الدستور، لأسباب تمييزية دامغة، كان المتسببُ فيها في الأساس، نوابًا مسيحيين يحملُ كلّ منهم أجندةَ طائفته المتعصّبة. وقد تنادت مؤخرًا، رئاسات كنائس شقيقة ومراجع ومنظمات وجمعيات وروابط وشخصيات دينية ومدنية ونشطاء ونواب وسياسيون متعاطفون، في الداخل والخارج، وكلّها تدعم تحقيق العدل والمساواة ورفع الحيف الذي طال هذا المكوّن، بسبب زلّة اقترفتها أيادي غير أمينة في غفلة من الزمن. وقد افتضح أمرُ هذه الجهات المراوغة بعد كشف الحقائق وعرض المستور، وما خفي كان أعظم! فالجهل بحقائق الأمور وبالتاريخ، قد ساهم هو الآخر في تجاهل وتغافل وإهمال لجنة كتابة الدستور ورئاسات الأحزاب والكتل التي أقرّته، بتضمينه مكوّنات دون أخرى، بالرغم من أصالة تسمية "السريان" و"السريانية"، عبر التاريخ. وذلك كانَ نتيجة تأثيراتٍ شخصية وكتلوية وحزبية، مارسها نوابٌ مسيحيون ومَن لقّنهم تعليماته وتوجيهاته، إيغالاً في التعصّب. بالمقابل، فقد طربَ لها غيرُهم من الأحزاب العراقية وزعمائهم، تشفيًا بزيادة التشرذم والانقسام في صفوف المكوّن المسيحي.
تسميات قومية بإرادات طائفية ما حصل مؤخرًا، قد يكون صحوة لنصارى (مسيحيّي) العراق والمنطقة جميعًا، للعودة إلى روح العقل وترجيح الحكمة بدل التعصّب والتعنّت بتسميات طائفية حديثة تعود لطوائف وكنائس وطقوس وليسَ لقوميات أو هويات متميزة لشعوب، تمامًا وانسياقًا وراء موجات الطائفية التي تعصف بالوطن الجريح. وعفا اللّه عمّا سلف وجازى مَن كان السبب. وهذه وإن كنّا نعتقد أنها صحوة متأخرة، ولكن لا بأس، ف"المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين "كما يقول المثل. إن مثل هذه التسميات الجديدة التي طفت على الساحة السياسة العراقية بعد الفوضى التي دمّرت بنيتَه ونسيجَه وعقلَه وخلقت جيوشًا من الفاسدين والجهلة ليقودوا البلاد، لم يرد ذكرُها قط كما يدّعيه أبطالُها ودعاتُها، في بطون الكتب والتاريخ والسير، إلاّ حديثًا. بل كانت تسمية "السريانية" والشعب "السرياني" والهوية "السريانية" واللغة "السريانية"، هي المرجحة والمتداولة طيلة تلك الحقب الزمنية الغابرة. لذا أصبح من حقّ "السريان" الحاليين، بل من واجبهم المقدّس، هم أيضًا، المطالبة بإدراجهم في الدستور وفي البطاقة الموحدة، بعد تهميشهم وإقصائهم عن سابق إصرار وترصّد. ونريد أن يحصل هذا، ليس بدوافع الانتماء إلى طوائفهم وكنائسهم التي تحمل ذات الاسم، بل عودة إلى التاريخ والحقائق والوقائع من حيث تسمية جميع مسيحيّي الشرق منذ تنصيرهم في بدايات القرن الأول ب"السريان" وبلغتهم "السريانية" التي تحدّث بها أسلافهُم وما زالَ البعضُ منهم يفعل ذلك في سهل نينوى وفي شمال العراق. فكلمة "سورايا"، التي تعني المسيحي، "وسوريتوثا" أو "سوريوتوثا" التي تعني المسيحية أيضًا مجازًا، هي مفردات مقتبسة ومحرَّفة عن تسمية "السريان" و"السريانية"، والتي أخذت تفسيرًا عامًا متداولاً لتعني المسيحيين، دينيًا وقوميًا في آنٍ معًا. وهذه كان ينبغي أن تكون منذ البداية، تسمية تاريخية لجميع المسيحيين المشرقيين من دون استثناء. إننا نرى، أنّ إصرار الأحزاب الآشورية التابعة للكنيسة النسطورية بشطريها، مردّه ادّعاءٌ تفاخريٌّ بالانتماء إلى أصالة الحضارة الآشورية، من دون دلائل تاريخية أو ماديّة واضحة، ذلك أن الشعوب القديمة تزاوجت وتصاهرت وسُبيت واغتصبت وهُجّرت وهاجرت وطُردت واختلطت وامتزجت مع غيرها من الشعوب. وكان ذلك قبل أكثر من سبعة آلاف سنة ولّت، ولم يبقى للجنس البشري في المنطقة من دماء آشورية أو أكدية أو سومرية أو بابلية أو كلدية (كلدانية) أو حتى آرامية نقية. هذه مسيرة الشعوب وحركة الأمم، لا ثباتَ لدماءٍ صافية نقية فيها. ودليلُنا على ذلك، الحركة الديموغرافية الحالية في العراق والتوزيع السكاني القائم، ومنهم الكثير من أهلنا وأبناء عشائرنا وعائلاتنا وبني جلدتنا الذين قصدوا بلدان الشتات وتشرذموا، حيث ستأتي أجيال قد تنسى ماضيها وتاريخها وأصلها وفصلها، تمامًا كما حصل هذا مع جهلة التاريخ في صفوف نوابنا ومسؤولي حكوماتنا الكارتونية الفاسدة، اللاّهثين وراء مصالح طائفية ودينية وفئوية وشخصية ضيقة، ما أوقعهم في مثل هذا الخطأ الجسيم، عمدًا أو من دون قصد. وهنا، يطيب لي التذكير بمعلومة تاريخية، قد تفيد بمراجعة المواقف والارتكان إلى العقل والحكمة والمعرفة غير الزائفة. من المعروف، أنه بعد دخول المسيحية إلى المنطقة عبر أنطاكية منذ القرن الأول الميلادي، تسمّى الآراميون من أسلاف الحضارات القديمة المعروفة، من الذين كانوا يسكنون المنطقة، تسمّوا "سريانًا"، لتمييزهم عن شعوب "الآراميين" الذين كانوا عبدة أصنام وأوثان. وهذه التسمية أضحت رسمية منذ ذلك التاريخ ولغاية الساعة. حتى إنّ أعرق الجامعات الغربية التي تتفاخر بتعليمها للغات الشرقية القديمة، مازالت متمسكة بتعليم اللغة الآرامية وآدابها، تحت مسمّى اللغة "السريانية"، وليس "الآشورية" أو "الكلدانية". وهذا كان واقعُ الحال إبّان اعتراف النظام البائد بالحقوق الثقافية لمَن أسماهم بالناطقين باللغة "السريانية" من الآثوريين والكلدان والسريان، في نيسان 1972. وعلى ضوء ذلك القرار، تمّ تشكيل مجمع اللغة "السريانية"، بهذه التسمية وليس بتسمية أخرى. أمّا النعرة التعصبية التي انتقلت إلى جماعات هاتين الطائفتين، أي الآشورية والكلدانية، فهي حديثة العهد ترقى في بداياتها بالنسبة للجماعات النسطورية "الآشورية"، إلى تأثير الإرساليات التبشيرية الانكليكانية وبدء علاقتهم مع بطريرك الكنيسة النسطورية آنذاك في قواجانس بجبال حكاري، حيث كان البطريرك رمزًا ورئيسًا دينيًا ومدنيًا في آنِ معًا. وكان ذلك في أواسط القرن التاسع عشر، حيث تاريخ قدوم البعثات الأنكليكانية والبروتستانتية الى الشرق عامة، للعمل بأهدافٍ مزدوجة: سياسية منها لإيجاد أرضية في مناطق المسيحيين الجبلية الفقيرة التي كانت ترزح تحت سطوة السلطات العثمانية، والأخرى مذهبية كان الغرض منها منافسة المدّ الرومانيّ الكاثوليكي الذي تسارع إليه مسيحيو المنطقة للاهتداء إلى هذا المذهب لأسباب كثيرة لا يسعنا التطرّق إليها. فيما الكلدان من أتباع النساطرة قديمًا، من الذين تحوّلوا إلى المذهب الكاثوليكي على عهد البطريرك يوحنا سولاقا في عام 1553، بسبب اعتراضهم على نظام توريث الكرسي البطريركي لدى كنيسة المشرق النسطورية، فقد التهبت عندهم نار الغيرة السياسية والقومية حديثًا جدًا، لاسيّما بعد التطورات الأخيرة للمشهد السياسي في المنطقة، وفي العراق تحديدًا. وهُمْ لم يتسمّوا كلدانًا من قبل بابا الفاتيكان في وقتها، إلا بعد تحوّل البطريرك سولاقا مع أتباعه إلى الكثلكة، وذلك بهدف تمييزهم عن أتباع طائفتهم القديمة من الكنيسة النسطورية. وقد برز التوجّه السياسيّ لدى المحدثين من الكلدان، مع بروز أحزاب بدائية تدّعي الكلدانية قومية، محاكاة لأندادهم النساطرة "الآشوريين" الذين صار لهم باعٌ في السياسة قبل غيرهم من المسيحيين في المنطقة وفي العراق تحديدًا، لاسيّما في مطلع القرن العشرين مع وثبة الفكر الوطني وارتفاع الأصوات بالاستقلالية وبوطنٍ مستقلّ أو إدارة ذاتية في مناطق تواجد المسيحيين في شمال الوطن وفي كردستان، تحديدًا. لكنّ إرادة الأسياد غير ما تتمناه الشعوب المغلوبة. فقد اصطدمت تلك الأمنية وذلك النضال آنذاك، بصخرةِ مخطّط الأسياد البريطانيين الذين نكثوا الوعود المقطوعة "للآثوريين" وعرّضوا مصيرهم وطموحاتهم للقهر والذبح والتنكيل والطرد، بين اغتيال وتطهير وخيانة. وهذا ديدنُ الأسياد. مخططاتُهم وأجنداتُهم قبل مصلحة الشركاء وفوق حقوقهم وأمنياتهم وبالضدّ من طموحاتهم دومًا.
مصارحة ومعاتبة على أية حال، في هذا الاستعراض، الذي ليس الغرض منه إنقاص وزنِ طرف أو جهةٍ من مدّعي التسميتين، الآشورية والكلدانية معًا، بقدر ما هو التذكير بأنّ المصلحة العليا لكلّ الأطراف المعنية بالتسمية "المسيحية" وهويتها، تقتضي رصّ الصفوف وإجماع الكلمة من أجل بلوغ خطاب سياسيّ موحّد بكوننا شعبًا واحدًا وأمةً واحدة بلغة واحدة مع تعدّد التسميات إن شاء البعض، وهذا ما يطالبُ به العقلاء منذ بروز الأزمة. وقد أكّد عليه بطريرك الكنيسة الكلدانية، رمز كنيسة العراق، بالرغم من الضغوط التي مارسها عليه أدعياء القومية الكلدانية من أبناء كنيسته، والتي اضطرّته في نهاية المطاف، لتشكيل "الرابطة الكلدانية" مؤخرًا، إرضاءً لهذه الأصوات التي تغرّد من خارج أرض الوطن وتخطّط لداخله وهي قابعة في علياء برجها العاجيّ، بعد نفورها من أرض الوطن وغضبها من سلوك حكوماته الطائفية ورفضها البقاء فيه بسبب التهميش والإقصاء والمخاطر الكثيرة المتنوعة بحقهم. فبعض هذه الأطراف بخطاب نبرتها التعصبية، قد زادت من حنق الداخل على أهل الخارج، ووسّعت الهوّة بين أبناء الكنائس المختلفة والجماعات التي تنتمي إليها. بل، تسرّب هذا الهوس واتسعت الهوّة حتى بين رؤساء الكنائس الذين انقطع حبلُ لقاءاتهم المتعارف عليه منذ فترة وانفرط عقدهم منذ حين، عندما تمّ حلّ مجلس طوائف "كنائس" العراق ولم يعد له من وجود. ويبقى من حق أية جماعة أن تسمّي نفسها ما تشاء من التسميات، شريطة عدم تجاوزها على التاريخ وحقائقه. فمن شأن مثل هذا التجاوز أن تكون له تأثيرات سلبية معاكسة على مصالح **الغير، سواء مَن كانوا مِن صلب الجماعة أو من خارجها. لستُ هنا بدافع النقد والتذكير، بما أحدثه تشرذم الاتجاهات وتعدّد الأحزاب وتنوّع الحركات والتنظيمات والجمعيات والروابط التي انتشرت في بلدان الاغتراب وراحت تتاجر بحياة المسيحيين المشرقيين الأصلاء الذين آثروا البقاء في أرض الآباء والأجداد، أيًا كانت الأسباب والتبريرات. فليسَ من المعهود ولا من المنطق ولا من العدل، أن يصيغ كلّ طرف من هؤلاء القابعين في دول الاغتراب مقاسات لأبناء الداخل، وفق أجندتهم ورؤاهم ومنافعهم. كان من الأجدر بهم، الصلاة من أجل مَن بقي في أرض الوطن يناضل ويدافع ويتفاخر بأصالته المشرقية "السريانية" وسط الكمّ الهائل من "الدواعش" المتعددين في المنهج والمذهب والفكر والمصلحة والسلوك، من سلفيين ومتشددين وسياسيين وفاسدين وحاقدين وكارهين للحق وللبشر وللحياة. من هذا المنبر، وانطلاقًا من حرص العقلاء، ندعوهم أن يزيدوا الدعاء والطلبات لأجل أهل الداخل، وأن يكفّوا أو يقللّوا من التدخل المتكرّر وغير المبرّر في شؤونهم، بادّعاء الحرص على مستقبل المسيحية والمسيحيين في البلاد. فليس من المعقول أن يوجد المحارب خارج ساحة القتال ومنها يوجه سلاحَه إلى مَن يعتقد أنه المذنب والمقصّر والعدوّ والمنافس له أو للمذهب أو للهوية التي يتفاخر بها. كما نؤكد دعواتنا لأمثال هؤلاء، بديمومة تقديم أوجه المساعدة، ومنها المعنوية والدعم السياسي من خلال تشكيل لوبيات سياسية ومجتمعية فاعلة، والعمل بالتدخل لدى حكومات الأسياد كي تقبل بالاستماع إلى صوت المظلوم والدفاع عنه والعمل على مساواته مع باقي أبناء الوطن في الوظيفة والمنصب والحقوق المواطنية أسوة بالغير ومن دون تمييز ولا منّة ولا فضل، إلا بفعل الكفاءة والجدارة والعلمية والولاء للوطن والأرض وليس للمرجعيات الغريبة والدول الإقليمية صاحبة المصالح القومية والطائفية والمذهبية الضيقة. مطلوب من أهل الخارج في الشتات وبلدان الاغتراب، ألاّ يملّوا من الدعاء كي يشرح الله قلوب الساسة والمراجع كي لا يغدروا بأهل الداخل من مواطنيهم، تحت أية ذريعة، مستفيدين من وحدة الصفّ "الشعبية" و"المجتمعية" القائمة وسط أهل الداخل الذين باستطاعتهم ترتيب بيتهم الداخلي، إذا رفع أهلُ الخارج يدَ الوصاية عنهم وتكرارَ التحدّث باسمهم في المنابر الدولية والمحلية، وكأنه لا وجود لعقلاء وحكماء ومثقفين وأكاديميين ومفكرين بين أهل الداخل. هذه حكايتُنا، وذلك أصل تشرذمنا وسجالاتنا وتفرقتنا. فأهلنا في الخارج، قد أصبحوا جزءًا كبيرًا من المشكلة، وليس حلاً، كما يبدو ويتضح هذا من استعراض المشهد السياسيّ، كلّما برزت أزمة وطفى على السطح جديد. وجديد هذه المرّة، هو الإصرارُ على مواصلة تهميش تسمية "السريان" في الدستور وفي البطاقة الوطنية الموحدة. ومَن يعرف قد يطال هذا الأمر تجاهلَ ذكرهم في استمارة الإحصاء السكاني، إذا شاءت الأقدار وحصل هذا المشروع المركون منذ سنوات. فهل يعي العقلاءُ حجمَ المشكلة ويعودوا إلى إيحاء العقل والمنطق والحكمة بإعادة اللحمة المسيحية "السريانية" إلى هويتهم، لتغدو التسمية السياسية الأكثر قبولاً لعموم المسيحيين المشرقيين، بعيدًا عن كلّ عناد وتعنّت وتعصّب للطائفة والمذهب والمرجعية؟ ف"السريانية"، ستظل تُشرف من علياء تاريخها، وستبقى لغتُها أساس كلّ توافق عندما تعود العقول والأذهانُ إلى رشدها ويتمنطق لاعبوها بالحكمة. فاللغة أساسًا، تنطق باسم الشعوب التي تتحدث بها، والشعوب في هويتها، تنتمي إلى اللغة التي تتحدث وتكتب وتبدع بها.
|