خواطر حول خمريات الحبوبي!(1)

ما كنت لأستعجل قلمي فاكتب في موضوع خمريّات الشاعـر الحبوبي لولا أنّي أعلـم أنَّها بين القصائد العربية كالذهب بين المعادن. ولولا أنّي أعلم أيضا أنّ ورثة الحسن بن سهل وأتباعه يصولون ويجولون في بغداد اليوم، مصادرين الحريّات باسم (الحرام). حيث قال الحسن بن سهل في خراسان عن صراع الأخوين الأمين والمامون وأتباعهما على السلطة: "كيف لايحلّ قتال الأمين وشاعره ونديمه يقول:

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ***ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهـرُ"(2)

 يبدو من الدلالة العميقة لهذا النصّ أنّ الحسن بن سهل، الذي تحوّل من المجوسيّة الى الإسـلام، زمن هارون الرشيد، عرف من أين تؤكل الكتف- كما يقال- فوظّف دينه الجديد، لتحقيق مآربه الشـخصيّة، مستهيناً بالقيم الإنسانيّة والإسلاميّة والثقافيّة. إذ أخبـرنا التاريـخ، بعد قولته هذه بقليـل، أنَّ الفريقينِ المتنازعينِ قد سُفكت دماؤهما، وأنَّ المأمون قد قتل أخاه الأمين، واستوزر الحسن بن سهل في حكومته الجديدة في بغداد، وصاهره. أمّا قائل البيت الشاعـر أبو نواس فقد انكفأ على ذاته متقنّعاً بالزهد دفاعاً عن النفس. . وإذا عرف الحسن بن سهل كيف يوظّف الدين الإسلاميّ في بيت واحد من شعر أبي نواس لمصلحته الشخصية، أتظن أن ورثته واتباعه لايعرفون كيف يوظّفون الدين في أبيـات عديدة من شعر الحبوبيّ لمصالحهم الشخصيّة، أم تظنّ أنهم لايتّهمونها-لولم تكن لمرجع ديني- بالتحريض على المجـون لكي يصادروها ويمنعوها كما اتّهم الذين من قبلهم أبيات تلميـذه الشاعـر الجواهـري بالتحريـض على الشيوعية والإلحاد، فصادروها ومنعوها سنة1963م؟.

وإذا شفع الردى لجسد الشاعر الحبوبي، فواراه بعيداً عن أذاهم، فمن يشفع لروحه الرقيقة المودعة في خمرياته الجميلة من قدحهم وتشويههم، وهو القائل:

صبَّ لي كأساً وخذ كأساً إليكْ*** فلذيـذ العيـش أن نشـتركا

وهو القائل كذلك:

أَكسـبتنـا إذ سـقتنـا نطفاً*** خفّةَ الطبـعِ وثقـلَ الألسـنِ

إنّ من أقضّت مضاجعهم النشاطات الفنية في بغداد والبصرة وبابل، وأقلقهم فنّ المسرح وفنّ الموسيقى في كليّة الفنون الجميلة، كيف لاتقضّ مضاجعهم خمريات الشاعر الحبوبي، ولاتقلقهم. وهي كلّها فنّ على فنّ. مبنيّة في أهم خصائصها الجماليّة على الدقّة التصويريّة والتناغم الموسيقيّ؟وبحسبك هذان البيتان:

خلتُها في ثغـره قـد عتّقتْ*** زمناً، واعتصرتْ مـن وجنتيـه

من بـروقٍ في الثنايا ائتلقتْ*** في عقيق الجزع. أَعني شفتيه

والحبوبي السيد محمد سعيد المولود في مدينة النجف في العراق سنة1266هـ والمتوفى سنة1333 هـ، هو من كبار فقهـاء عصره، وعظام مجاهديه. ومن أشهـر شعراء العراق الذين نمّووا القصيـدة الخمريّة وقوّوها. ودونك هذين البيتين في وصف الحميّا (الخمر):

شمس الحميّا تجلّتْ في يد الساقي*** فشـعّ ضوء سناها بيـن آفاقِ

سـترتُـها بفمي كي لاتنـمَّ بنـا*** فأجَّجتْ شـعلةً ما بيـن آماقي

والخمريّات هي غرض من أغراض الشـعر العربي. ظهرت في الشعر الجاهلي إجمالاً، واستمرت بعد الدعوة الإسلامية في الشعر الأموي، وتطورت في الشعر العباسي تفصيلا، وتعمّقت في الشـعر الصوفي رمزاً وإيحاء؛رغم تحريم الخمر. وتحريم الإسلام للخمر يثير كثيراً من التساؤل والتفكير؛لأن القرآن لم ينطق لفظاً بتحريم شـربها أو بعقوبة شاربها كما نطق لفظاً بتحريم لحم الخنزير أو بعقوبة السـارق مثلاً، وإنّما نطق باجتنابها لفظاً، في وقت متأخّر جدّاً من ظهور الإسلام. (3)

ولهذا اختلف الفقهـاء المسـلمون في علّة تحريمها. وقد عكس أحد الشعراء صورة من صور الآراء المختلفة فيها قائلا:

أَدرها فما التحريم جاء لشربها*** ولكنْ لأَشـياء تضمّنها السكرُ

إذا لم يكن شربٌ يزلّ به الفتى*** فسيّان ماءٌ في الزجاجة أو خمرُ

ويمكن تأويل خمريات الشاعـرالحبوبي، ووضعها روحانياً وعرفانياً في إطار شعر التصوف العربـي. ولتتأمل معي هذه الأبيات الثلاثة التالية، وما فيها من دلالات عميقة:

كن لـدى جلوتِـها منتبـهاً*** فعلى تكييفـها طال اللجـاج

أَهي في الكأس أم الكأس بها***إذ بدت صرفاً فأَخفاها المزاج

فهمـا شـئ بـدا مشـتبهاً***أم هما شيئان خمـر، وزجاج

والخمريّات ليست مقصورة فقهيّاً على الشاعر الحبوبي وحده. وانما إشتهر بها فقيه آخر هو السيّد رضا الهنديّ الموسويّ (1290هـ-1362هـ) وغيره. وهذا يدلّ على أنّها كانت تقليداً شعرياً سائداً لدى الشعراء الفقهاء في مدينة النجف الدينيّة، وفي غيرها أيضا.

ولأقتطف لك أربعة أبيات للشاعر الهندي من قصيدته الكوثريّة الشهيرة:

فاجلُ الأقداحَ بصرف الراح عسى الأَفراح بها تنشرْ

واشـغل يمناك بصبّ الكأس وخلِّ يسـارك للمزهرْ

فدمُ العنقـود ولحنُ العـود يعيد الخير وينفي الشرْ

بَكّرْ للسـكر قبيل الفجـر فصفو الدهـر لمن بكّـرْ

إن تناول الفقهاء الشعراء غرض الخمريات دون أن يستشكلوا دينياً، يدحض المزاعم التي أخذت تذاع هذه الأيام، والتي لم نسمع بها من قبل. ومضمونها:أن خمريّات الحبوبي شطحة شبابيّة نظمها الشاعـر قبل أن يتفقّه، وأنها زلّة لسـانية ندم عليها وسـأل الله أن يغفـرها له، وسوى هذه من الروايات غير المسـندة التي تحاول أن تفصل شخص الحبـوبي الدينيّ عن مجموع قصائـده الخمريات لأزاحتها من الطريق. إذ تبـدو عمليّة إزاحة خمريّاتـه مهمّة صعبة من دون هذا الفصل الذي سيضعف حجة المعترضين على إقصائها في الجدل الفقهي، تمهيـداً لتنفيذ المخطّط الأجنبيّ لمحو الثقافـة العراقيـّة تدريجيّاً، كما محيت الصناعة العراقية الآن (4). ولئن شعرت بالأسف قبل اليوم لأنّ خمريّات الشاعـر الحبّوبي لم يُعنَ بها عراقيّاً ولا عربيّاً ولاعالميّاً حقّ العناية؛فانّي أشعر اليوم بكثير من القلق إزاءها، لخوفي عليها من عواقب هذا الدمار العقليّ الذي يكاد يضارع غزو المغول مكتسحاً حقول المعرفة في وطننا المحتلّ.

ولقد تعمّق عندي هذا الشعور، حتى اضطرَّني إلى أن أكتب هذه الكلمات العجلى المقتضبة، لكي أنبّه المهتمّين بالثقافة العراقيّة، نسـاء ورجالا، إلى قيمة شعر الحبوبي نموذجاً عراقيّاً، وإلى درجة الخطر المحدق به خاصّة، وبالثقافـة العراقيـة عامة. ولكي أثير الحرص الوطنيّ عليه، وعلى ثقافتنا الوطنية، دفاعاً عن وجودنا وهويتنا، لا عن الخمر، ولا عن شاربيها.

وليظنّ الشهوانيّون من ورثة الحسـن بن سـهل، بعد هذا، مايظنّون. وليقولوا مايقولون. فإنّهم لايرون في معنى القصيدة الخمريّة غير الفسق والفجور، كما انّهم لايرون في معنى المرأة غير الجسد وشهوة الجمـاع. . وأيَّانَ يسطوا على ديوان الحبوبي، وينشبوا مخالبهم فيه؛ يسطوا على كلّ ما لايلائم أهواءهم السوداء من نتاجنا الإنساني والوطني في حقول الثقافة. وويل ثم ويل للأخضر واليابس إذا انتشر الجراد.

 

عبدالإله الياسري

....................

(1) أود أن أشير إلى أن الكاتب الوطني خالد جواد شبيل كان هو السباق الأول إلى الربط بين الحملة على الثقافة العراقية وخمريات الحبوبي، انظر مقالته: الهجمة الظلامية على صرح الثقافة العراقية لخالد جواد شبيل في المجلات الألكترونية: كتابات أوعرب تايمز أو معكم.  

(2) أنظر: حنا الفاخوري- تاريخ الأدب العربي- ص394- الطبعة التاسعة1978 م

(3) للتوسع في موضوع تحريم الخمر انظر: هادي العلوي- من قاموس التراث- ص105- دار الأهالي1988م

(4) للإطلاع على المزيد من تلك المزاعم أنظر:العقل الإسلامي ونهاية العالم (موقع الكتروني) إبحث عن (إذا لم تستحِ) أو (خمريات الحبوبي)