لا شك فيه أن الأطماع السياسية في الكثير من الصراعات الخفية تتمحور حول الجغرافية والموقع الاستراتيجي والثروات وما يتصل بها من تأثيرات النفوذ وصناعة القوة، بعيدا عن لغة القانون والعلاقات الدولية التي هي أساس النظام الدولي الجديد، ومما يذكر هنا أن القوى الدولية النافذة والتي تضمن من خلال وجودها في مجلس الأمن بالصفة الدائمة أو من خلال قوة وقدرة تأثيرها المتعاظم بالأفتراض العقلي، من أنها الداعم الأساس والطبيعي للقانون الدولي المرعي، والمراقب الحيادي اللازم في فرض شروط السلام العالمي بالتلويح بعواقب العبث بقواعد الأمن والسلم العالميين. في نفس الوقت الذي نرى أن دور القوى الدولي كما مرسوم في قاعدة التعامل الدولي الإنساني نلاحظ أن هذه الدول وبرغم تأريخها الاستعماري والإجرامي بحق الشعوب وكما تزعم هي، نلاحظ أنها هي من تحرك أولا أو تثير هذه النزاعات وتتدخل بها تبعا للمصالح والعلاقات الفردية بينها وبين الأطراف المتصارعة وأحيانا نتخرط بها بالمباشر، مما يثير الكثير من التساؤلات حول حقيقة ووجود وأهمية وقدرة قواعد القانون الدولي، ومع وجود المنظمات الدولية والأممية التي من أولى مهماتها العمل الجمعي في الحفاظ على عالم خال من النزاعات والصراعات على الجغرافية والموارد وخرق القوانين، بحجج الكثير منها كان يجب أن تنتهي مع تحول العالم المعاصر إلى المجتمع الأممي المنظم والموصوف بحدوده ووجوده الحالي. عالم ما بعد الألفية الثانية هو ذات العالم القديم في أطلالة القرن العشرين وبذات الملامح المضطربة، ومع شدة النزاعات والصراعات الدولية والإقليمية التي مهدت للحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي كان التفجير الأساسي فيهما جغرافيا بأطراف أوربا الشرقية المسماة حدود العالم القديم، من نفس نقطة الأنفجار القديمة ومن نفس العلل والأسباب تلوح في الأفق ملامح حرب عالمية أكثر خطورة من كل الحروب التي خاضها الإنسان وأوغل فيها بجرائمه التي لا يمكن لإنسان عاقل أن يتصور فقط مدى البشاعة التي ستتركها في الكوكب المدمر الذي ستعصف به، وهنا نجد أن الأصابع الكبرى الضخمة التي عهد المجتمع العالمي إليها الحفاظ على السلام والأمن العالمي هي من تضغط على الأزرار لتقول للوجود الحالي وداعا. بالعودة إلى جوهر موضوع المقال والذي خصص لتأثيرات الماضي المدمر على الواقع الحاضر في العلاقات الدولية إقليميا، نجد أن تركيا الدولة الصاعدة أقتصاديا وعسكريا وسياسيا والتي هي أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي قطب القوة العالمي مع أمريكا القائد والرائد في التدخل بالصراعات الدولية، وبحكم ثقل موقعها الجغرافي والسياسي العالمي، تمارس خطيئة العودة للتاريخ وللماضي الاستعماري في فرض شروط جديدة لواقع يجب أن يتغير إقليميا وفقا لمعطيات قراءاتها الخاصة، وتنسى أن هذه الدولة التي ورثت كل مأسي وأجرام وروح العنصرية العثمانية بكل مساوئها هي أيضا كانت قبل ذلك جزء من أمبراطورية يحكمها الأخرون وعلى مر تأريخها لم تكن إلا ساحة صراع بين الشرق والغرب. التصريح علنا بضرورة العودة للماضي ومحاولة وضع خارطة جديدة للمنطقة برعاية القوة الغاشمة، وسكوت أممي وإقليمي واضح تأت ضمن تصرفات وردود الفعل للكثير من القوى العالمية الراعية للقانون الدولي بشقيه الأمن والسلام، هذا السكوت المريب يثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات حول أهمية القانون الدولي ودوره في فض النزاعات والصراعات بين الأمم والشعوب، ويزيد من خطر أشتعال المنطقة في حرب جديدة تزيد من نفاقم الوضع الإقليمي الحالي وتدهور كل إمكانية حقيقية لمحاربة التطرف والإرهاب، هذه الأصوات التي تتعالى اليوم من تركيا التاريخية ليست فقط تمجد الماضي الأستعماري بل تمهد أيضا لتوسيع دائرة الإرهاب والعنف، مع أقتراب حالات تصادم جديد بين الشرق والغرب مرة أخرى على أطراف العالم القديم وشرق أوربا، هذه المخاوف ليس مجرد قلق ومخاوف بلا مبررات حقيقية، ولكنها تجليات حقيقية لحالة هيجان الماضي الرهيب بكل مأسيه وظلمه ليعود ليضرب عالم اليوم، ويحطم كل الأمل بعالم خال من العنف والفوضى والأستعمار بكل أشكاله.
|