رموز العراق وازدواجية المعايير

حدثني‭ ‬الاخ‭ ‬الفنان‭ ‬حمودي‭ ‬الحارثي‭  ‬في‭ ‬16‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ / ‬نوفمبر‭ ‬1997‭ ‬،‭ ‬اذ‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬التقيت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬مطاعم‭ ‬العاصمة‭ ‬الاردنية‭ ‬عمّان‭ ‬‭ ‬قبل‭ ‬قرابة‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭  .. ‬حدّثني‭ ‬عن‭ ‬رحيل‭ ‬استاذه‭ ‬الفنان‭ ‬الراحل‭ ‬سليم‭ ‬البصري‭  ‬والذي‭ ‬كانت‭ ‬المنية‭ ‬قد‭ ‬عاجلته‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬مايس‭ / ‬ايار‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ .. ‬حدثني‭ ‬الحارثي‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬يكابد‭ ‬حزنه‭ ‬وألمه‭ ‬على‭ ‬نهاية‭ ‬البصري‭  ‬المأساوية‭ ‬،‭ ‬وكيف‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬أحداً‭ ‬يرفع‭ ‬تابوته‭ ‬ويمشي‭ ‬في‭ ‬جنازته‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬غير‭ ‬عبوسي‭ ‬واثنين‭ ‬آخرين‭  ‬،‭ ‬وكأن‭ ‬سليم‭ ‬البصري‭ ‬لم‭ ‬يزرع‭ ‬البسمة‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬ثغر‭ ‬العراقيين‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬ينتزعهم‭ ‬من‭ ‬مكابداتهم‭  ‬الصعبة‭ ‬،‭ ‬ولكنهم‭ ‬ان‭ ‬لم‭ ‬يعرفوه‭ ‬في‭ ‬نهايته‭ ‬المؤلمة‭  ‬،‭ ‬فهم‭ ‬لم‭ ‬يعرفوه‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مماته‭   ‬بسبب‭ ‬مجافاة‭ ‬السلطات‭ ‬له‭ .. ‬وتسعفني‭ ‬ذاكرتي‭ ‬أيضاً‭ ‬عندما‭ ‬مات‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬العراقيين‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والفن‭ ‬والتاريخ‭ ‬والقانون‭ ‬والتشكيل‭ ‬والطرب‭ ‬والادب‭ ‬وميادين‭ ‬اخرى‭ ‬،‭ ‬فلم‭ ‬يحفل‭ ‬لهم‭ ‬أحد‭  .. ‬انهم‭ ‬يصبحون‭ ‬عالة‭ ‬على‭ ‬انفسهم‭ ‬في‭ ‬شيخوختهم‭ ‬،‭ ‬ويغادرهم‭ ‬الناس‭ ‬،‭ ‬وهم‭ ‬يتحسرون‭ ‬على‭ ‬شبابهم‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬غدوا‭ ‬يتضورون‭ ‬من‭ ‬الفاقة‭ ‬والحرمان‭ ‬والعوز‭ ‬ولا‭ ‬احد‭ ‬يهتم‭ ‬بهم‭ ‬،‭ ‬او‭ ‬يكافئهم‭  ‬،‭ ‬او‭ ‬يتفقد‭ ‬أمراضهم‭  ‬ويعمل‭ ‬على‭ ‬ابقائهم‭ ‬اعزاء‭ ‬كبار‭ ‬النفوس‭ ‬والامثلة‭ ‬لا‭ ‬تعدّ‭ ‬ولا‭ ‬تحصى‭  .. ‬كنت‭ ‬اتمشى‭ ‬يوما‭ ‬في‭ ‬الصالحية‭ ‬قرب‭ ‬دار‭ ‬الاذاعة‭  ‬وقد‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬المنصور‭ ‬ميليا‭ ‬،‭ ‬فوجدت‭ ‬الفنان‭ ‬الرائع‭ ‬رضا‭ ‬علي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭  ‬عند‭ ‬محطة‭ ‬الباص‭ ‬يتشبّث‭ ‬بباب‭ ‬باص‭ ‬مصلحة‭ ‬نقل‭ ‬الركاب‭ ‬،‭ ‬ولكن‭ ‬شبابا‭ ‬مستهترين‭  ‬دفعوه‭ ‬،‭ ‬فوقع‭ ‬أرضا‭  ‬مع‭ ‬اهانة‭ ‬قاسية‭ ‬بلعها‭ ‬وسكت‭ ‬متحسّرا‭  ‬،‭ ‬وكان‭ ‬نظره‭ ‬ضعيفاً‭ ‬،‭ ‬فانكسرت‭ ‬نظاراته‭ ‬،‭ ‬وقام‭ ‬من‭ ‬الارض‭ ‬متألمّاً‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬ركضت‭ ‬نحوه‭ ‬وساعدته‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬اشدّ‭ ‬حالات‭ ‬اليأس‭  ‬،‭ ‬وقد‭ ‬قمت‭ ‬بايصاله‭ ‬بسيارتي‭ ‬الى‭ ‬بيته‭ ! ‬

ان‭ ‬المبدعين‭ ‬العراقيين‭ ‬لا‭ ‬يلقون‭ ‬اي‭ ‬اهتمام‭ ‬في‭ ‬مجتمعهم‭ ‬،‭ ‬وما‭ ‬ان‭ ‬تنطفئ‭ ‬أسرجة‭ ‬حياتهم‭ ‬،‭ ‬فأمّا‭  ‬يموت‭ ‬ذكره‭  ‬،‭ ‬وقد‭ ‬تناساه‭ ‬الجميع‭  ‬،‭ ‬وأمّا‭  ‬تضجّ‭ ‬الدنيا‭  ‬،‭ ‬وتنقلب‭ ‬الاسارير‭  ‬ويصبح‭ ‬الفقيد‭ ‬الراحل‭ ‬من‭ ‬أعاظم‭  ‬الناس‭ ‬،‭  ‬ومن‭ ‬اوفى‭ ‬الاصدقاء‭ ‬لبعضهم‭ ‬،‭ ‬ويتبرّع‭ ‬الجميع‭ ‬بالحزن‭ ‬والاسى‭  ‬،‭ ‬او‭ ‬أنهّم‭ ‬يشاركون‭ ‬في‭ ‬العزاء‭ ‬والبكاء‭  ‬ويسارعون‭ ‬بتدبيج‭ ‬المقالات‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬زمنية‭ ‬تمرّ‭  ‬وعندما‭ ‬تتوالى‭ ‬الايام‭  ‬،‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الراحل‭ ‬او‭ ‬ذاك‭ ‬مهملاً‭ ‬او‭  ‬نسيّا‭ ‬منسيا‭ ! ‬انها‭ ‬ازدواجية‭ ‬المعايير‭ ‬لدى‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أجده‭ ‬موّحدا‭ ‬وله‭ ‬كلمته‭ ‬الواحدة‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬رموزه‭ ‬،‭ ‬ومنح‭ ‬الاعتبار‭ ‬الوطني‭ ‬لجميعهم‭ ‬،‭ ‬مهما‭ ‬اختلف‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬شأنهم‭  .. ‬ان‭ ‬أهواء‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬تميل‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬مالت‭ ‬اتجاهات‭ ‬السلطة‭ ‬فيه‭ ‬،‭ ‬فان‭ ‬رضيت‭ ‬السلطة‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬رضوا‭ ‬عنه‭ ‬،‭ ‬وتوددّوا‭ ‬له‭ ‬،‭  ‬وان‭ ‬وقفت‭ ‬السلطة‭ ‬منه‭ ‬موقف‭ ‬الضدّ‭ ‬والتجاهل‭ ‬تناهوا‭ ‬منه‭ ‬،‭ ‬وان‭ ‬حذرت‭ ‬منه‭ ‬انفضوا‭ ‬عنه‭ ‬خوفا‭ ‬ورياء‭ ‬ومداهنة‭  .. ‬وقد‭ ‬وصل‭ ‬الحال‭ ‬اليوم‭ ‬الى‭ ‬اسوأ‭ ‬درجات‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬،‭ ‬اذ‭ ‬يغلب‭ ‬الوازع‭ ‬الطائفي‭ ‬على‭ ‬الناس‭  ‬،‭ ‬فيغالب‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬المتشددّين‭ ‬الطائفيين‭ ‬في‭ ‬تلميع‭  ‬هذا‭  ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬ذاك‭  ‬،‭ ‬بل‭ ‬ويصل‭ ‬الامر‭ ‬الى‭ ‬جعل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬مصاف‭ ‬القديسين‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬ذلك‭ ‬،‭ ‬الا‭ ‬لكونه‭ ‬محسوب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الطرف‭ ‬،‭ ‬وينالون‭ ‬او‭ ‬يتجاهلون‭ ‬اسماً‭ ‬آخر‭ ‬لكونه‭ ‬ينتمي‭ ‬الى‭ ‬طرف‭ ‬آخر‭  .. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يذكرني‭ ‬بمن‭ ‬كان‭ ‬يداهن‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬العهد‭ ‬السابق‭ ‬ازاء‭ ‬من‭ ‬يقف‭ ‬مستقلاً‭  ‬او‭ ‬معارضاً‭ ‬لها‭ ‬،‭ ‬بحيث‭ ‬يتداول‭ ‬الناس‭ ‬تهماً‭ ‬ملفقة‭ ‬واساءات‭ ‬لا‭ ‬حقيقة‭ ‬لها‭ ‬ابداً‭ ‬عن‭ ‬فنان‭ ‬او‭ ‬اديب‭ ‬او‭ ‬مثقف‭ ‬مبدع‭ ‬،‭ ‬فقط‭ ‬لكونه‭ ‬لا‭ ‬يجاري‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭ .. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نلحظه‭ ‬اليوم‭ ‬،‭ ‬فما‭ ‬ان‭ ‬يبدي‭ ‬أي‭ ‬رمز‭ ‬او‭ ‬مبدع‭ ‬رأيه‭ ‬المضاد‭ ‬للوضع‭ ‬العام‭  ‬يرمى‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬المهملات‭  .. ‬حكى‭ ‬لي‭ ‬يوماً‭ ‬احدهم‭ ‬وهو‭ ‬يعدّ‭ ‬نفسه‭ ‬اكاديميا‭ ‬ومثقفاً‭ ‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬طبل‭ ‬فارغ‭  ‬لا‭ ‬تجده‭ ‬الا‭ ‬منفوخاً‭ ‬،‭ ‬حدّثني‭ ‬عن‭ ‬تهم‭ ‬ملفقة‭ ‬ضدّ‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬العراق‭ ‬المشهورين‭ ‬،‭ ‬اذ‭ ‬اتهمّه‭ ‬بتهمة‭ ‬تعتبر‭ ‬كسر‭ ‬عظم‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬،‭ ‬قال‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬يتقاضى‭ ‬راتباً‭ ‬من‭ ‬السفارة‭ ‬الامريكية‭ ‬في‭ ‬بغداد‭  ‬لقاء‭ ‬تجسّسه‭ ‬،‭ ‬قلت‭ ‬له‭ : ‬وما‭ ‬حيثياتك‭ ‬وأدّلتك‭ ‬وقرائنك‭ ‬ضدّه‭ ‬؟‭ ‬قال‭ : ‬انني‭  ‬سمعت‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬فلان‭ ! ‬قلت‭ ‬له‭ : ‬ولكن‭ ‬فلان‭ ‬كان‭ ‬خصماً‭ ‬لدوداً‭ ‬له‭ ‬لاسباب‭ ‬شخصيّة‭ ‬،‭ ‬وهذه‭ ‬تهمة‭ ‬خطيرة‭  ‬والرجل‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬الله‭  ‬،‭ ‬فسكت‭ ‬على‭ ‬مضض‭ ‬،‭ ‬ولكن‭ ‬احجية‭ ‬هذا‭ ‬تناقلها‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬حاضرا‭   

‭ ‬سئمت‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬تصرفات‭  ‬بعض‭ ‬العراقيين‭ ‬وأهوائهم‭ ‬وامزجتهم‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬بعض‭ ‬عاداتهم‭ ‬السقيمة‭ ‬،‭ ‬وتبيان‭ ‬مظاهرهم‭  ‬واستعراضاتهم‭ ‬الكاذبة‭ ‬،‭ ‬وأغلبها‭ ‬لا‭ ‬حقيقة‭ ‬لها‭ ‬وغير‭ ‬واقعية‭ ‬ولا‭ ‬حقيقية‭ ‬ابدا‭ .. ‬وهي‭ ‬تدّل‭ ‬دلالات‭ ‬فاضحة‭ ‬على‭  ‬غرابة‭ ‬سايكلوجياتهم‭ ‬،‭  ‬وغباء‭ ‬تصرفاتهم‭  ‬،‭ ‬عندما‭ ‬يرفعون‭ ‬أسم‭ ‬هذا‭ ‬الى‭ ‬عنان‭ ‬السماء‭ ‬،‭ ‬أو‭ ‬عندما‭ ‬يجعلون‭ ‬اسم‭ ‬الاخر‭ ‬في‭ ‬اسفل‭ ‬سافلين‭ !   ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الامثال‭ ‬الشعبية‭ ‬العراقية‭ ‬المتوارثة‭ ‬الا‭ ‬حصيلة‭ ‬دروس‭ ‬لما‭ ‬اتصف‭ ‬به‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭  ‬الذي‭ ‬سحقته‭ ‬التناقضات‭ ‬سحقا‭ .. ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يهتمون‭ ‬بهذا‭ ‬الشخص‭ ‬المبدع‭  ‬ولا‭ ‬ذاك‭ ‬العملاق‭ ‬الكبير‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬بتلك‭ ‬العلامة‭ ‬البارزة‭  ‬،‭ ‬ولا‭ ‬يهمّهم‭ ‬هؤلاء‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكلفوا‭ ‬انفسهم‭  ‬عناء‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬شيخوختهم‭  ‬،‭ ‬ولا‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬معاناتهم‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬يقفوا‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬محنهم‭  ‬القاسية‭  ‬عند‭ ‬نهايات‭ ‬حياتهم‭ ‬،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬تبدأ‭ ‬حياة‭ ‬اولئك‭ ‬العمالقة‭  ‬بالذبول‭ ..‬فلم‭ ‬يسعوا‭ ‬الى‭ ‬مساعدتهم‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬الى‭ ‬تلبية‭ ‬حاجاتهم‭ ‬ولا‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬شراء‭ ‬أدويتهم‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬يراعوا‭ ‬صحتهم‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬يمنحوهم‭ ‬حبهم‭ ‬او‭ ‬محبتهم‭  ‬الا‭ ‬عند‭ ‬سماعهم‭ ‬بموتهم‭ ‬،‭ ‬ليجعلوا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬‭ ‬الحدث‭ ‬‮«‬‭ ‬كرنفالا‭ ‬لاحدهم‭  ‬ولحظة‭ ‬صمت‭ ‬لا‭ ‬مبالية‭ ‬لأحدهم‭ ‬الاخر‭  .. ‬هذا‭ ‬يشيعونه‭ ‬باعلان‭ ‬شهادات‭ ‬الوفاء‭ ‬واقامة‭ ‬المهرجانات‭ ‬الخطابية‭ ‬،‭ ‬ونشر‭ ‬كلمات‭ ‬التأبين‭ ‬،‭ ‬وذاك‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬احدا‭ ‬يواريه‭ ‬الثرى‭ ! ‬

وعليه‭ ‬قال‭ ‬العراقيون‭ ‬في‭ ‬امثالهم‭ :  ‬من‭ ‬يموت‭  ‬فلان‭ ‬تطول‭ ‬كراعينه‭ ‬‮«‬‭  ‬،‭ ‬اذ‭ ‬تبدأ‭ ‬العواطف‭  ‬تشتعل‭  ‬وتظهر‭ ‬الاحزان‭ ‬،‭ ‬وتنهمل‭ ‬الدموع‭ ‬،‭ ‬ويضجّ‭ ‬الجميع‭ ‬بالبكاء‭ ‬والنواح‭ .. ‬وتبدأ‭  ‬تبثّ‭ ‬الصور،‭ ‬وتذاع‭ ‬الخطب‭ ‬،‭ ‬وتنشر‭ ‬المقالات‭  ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬مبدع‭ ‬يجعلونه‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬اصدقائهم‭   ‬،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬قبل‭ ‬ايام‭  ‬يعاني‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يلتفت‭ ‬اليه‭ ‬احد‭ ‬،‭  ‬وعاش‭ ‬سنواته‭ ‬الاخيرة‭  ‬وهو‭ ‬عزيز‭ ‬النفس‭  ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬شيئاً‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ديار‭ ‬الغربة‭ ‬،‭ ‬والكلّ‭ ‬يعلم‭ ‬كم‭ ‬هناك‭ ‬مئات‭ ‬او‭ ‬الوف‭ ‬التافهين‭ ‬اصبحوا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬اصحاب‭ ‬الملايين‭ ‬،‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬لهم‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬خدمات‭ ‬لديهم‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬ابداعات‭ ‬منهم‭    ‬‭.. ‬اننا‭ ‬ندري‭ ‬بأنّ‭ ‬الطبول‭ ‬الفارغة‭ ‬تسكت‭  ‬،‭ ‬والجعجعة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تنتهي‭ ‬فورتها‭ ‬،‭ ‬اذ‭ ‬يلحق‭ ‬ذاك‭ ‬المبدع‭ ‬بقافلة‭ ‬المبدعين‭ ‬العراقيين‭ ‬الذين‭  ‬لم‭ ‬يروا‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬الا‭ ‬الجحود‭  ‬والتجاهل‭ ‬والتنكر‭  ‬والانكار‭ ‬،‭ ‬ولكن‭  ‬عند‭  ‬رحيلهم‭  ‬تضرب‭ ‬الخدود‭ ‬وتشقّ‭ ‬الجيوب‭  ‬وتبرز‭ ‬الذكريات‭ ‬وتنشر‭ ‬الصور‭ ‬لتبيان‭ ‬مدى‭ ‬الوفاء‭ ‬والاخلاص‭ ‬،‭ ‬وتستعرض‭ ‬الصداقات‭ ‬مع‭ ‬الراحل‭ ‬وتتمظهر‭ ‬الاستعراضات‭ ‬الشخصية‭ ‬،‭ ‬وكأنّ‭ ‬هذا‭ ‬الراحل‭  ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬غيرهم‭  ..  ‬انها‭ ‬من‭ ‬اسوأ‭ ‬عادات‭ ‬العراقيين‭  ‬،‭ ‬ان‭  ‬ميزوّا‭ ‬احدا‭ ‬قدسوه‭  ‬،‭ ‬وان‭ ‬كرهوا‭ ‬احداً‭ ‬تجاهلوه‭ ‬،‭ ‬وان‭ ‬خالفهم‭ ‬أحد‭ ‬عادوه‭  ‬،‭ ‬وان‭ ‬حسدوا‭ ‬أحداً‭ ‬قاموا‭ ‬بتشويه‭ ‬سمعته‭ ‬وقللوا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬بين‭ ‬الناس‭  .. ‬ليس‭ ‬لهم‭ ‬الا‭ ‬الزوابع‭ ‬الفارغة‭ ‬والمظاهر‭ ‬الخادعة‭ ‬والعواطف‭ ‬الكاذبة‭  .. ‬يمثلون‭ ‬دور‭ ‬الشاكي‭  ‬في‭ ‬حياة‭ ‬هذا‭ ‬،‭ ‬ويمثلون‭ ‬دور‭ ‬الباكي‭ ‬في‭ ‬ممات‭ ‬ذاك‭  .. ‬

ان‭ ‬الاشجار‭ ‬اليانعة‭ ‬ان‭ ‬لم‭ ‬تزودها‭ ‬بالماء‭ ‬،‭ ‬فسوق‭ ‬تذوى‭ ‬وتتيبس‭ ‬وتموت‭     ‬قال‭ ‬فولتير‭ : ‬‮«‬‭ ‬ما‭ ‬نفع‭  ‬ان‭ ‬يمدحني‭ ‬الناس‭ ‬بعد‭ ‬مماتي‭ ‬وهم‭  ‬ينكرونني‭  ‬في‭ ‬حياتي‭   ‬‮«‬‭  . ‬اتمنى‭ ‬عليهم‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬ضجتهم‭  ‬الكبيرة‭  ‬من‭ ‬اجل‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭  ‬أي‭ ‬مبدع‭ ‬عراقي‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬حي‭  ‬يرزق‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬او‭ ‬كهولته‭  ‬او‭ ‬شيخوخته‭  ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬صرف‭ ‬حياته‭ ‬في‭  ‬خدمة‭ ‬العراق‭ ‬واهله‭   .. ‬واتمنى‭ ‬عليهم‭ ‬لو‭  ‬كرموه‭ ‬أعز‭ ‬تكريم‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬،‭ ‬ومنحوه‭ ‬عواطفهم‭  ‬الساخنة‭  ‬في‭ ‬ايامه‭ ‬الصعبة‭  ..  ‬واتمنى‭ ‬ان‭ ‬يمنحوه‭  ‬ما‭ ‬لديهم‭  ‬من‭ ‬دون‭ ‬نفخة‭ ‬كاذبة‭ ‬ومظاهر‭  ‬بليدة‭ ‬وادعاءات‭ ‬فارغة‭  ..  ‬وان‭ ‬يتساوى‭ ‬جميع‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬تكريمهم‭  ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭  ‬او‭ ‬في‭ ‬تأبين‭ ‬ذكراهم‭  ‬اثر‭ ‬رحيلهم‭  ..  ‬وكلنا‭ ‬نعرف‭ ‬نهايات‭ ‬شخصيات‭ ‬ورموز‭ ‬عراقية‭ ‬امثال‭ ‬الرصافي‭ ‬والصافي‭ ‬النجفي‭ ‬والكاظمي‭ ‬والسياب‭ ‬وجميل‭ ‬بشير‭ ‬وعبد‭ ‬العزيز‭ ‬الدوري‭ ‬وعفيفة‭  ‬وزينب‭ ‬وفؤاد‭ ‬سالم‭  ‬وغيرهم‭ ‬كثير‭ .. ‬وأخيرا‭ ‬اقول‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العراقي‭ ‬لم‭ ‬نشهد‭ ‬ذلك‭ ‬ابدا‭ ‬في‭ ‬اي‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬آخر‭  .. ‬اذ‭ ‬يكفي‭ ‬مثلا‭ ‬احتفاء‭ ‬كل‭ ‬ابناء‭ ‬شعب‭ ‬مصر‭ ‬برموز‭ ‬مصر‭ ‬نسوة‭ ‬ورجالا‭  ‬،‭ ‬وجميعنا‭ ‬يشهد‭ ‬كيف‭ ‬يودع‭ ‬الناس‭ ‬فيها‭ ‬رموزهم‭ ‬التي‭ ‬يعتزون‭ ‬بهم‭ ‬جميعا‭  ‬غاية‭ ‬الاعتزاز‭ .. ‬فهل‭ ‬يدرك‭ ‬اهلنا‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وكل‭ ‬العراقيين‭ ‬في‭ ‬شتات‭ ‬العالم‭ ‬مغزى‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭  ‬؟‭ ‬