الابتلاء في حياة الأنبياء والأئمة.. الامام السجاد أنموذجا |
لا شك أن الأنبياء والأئمة والأولياء هم أقرب الناس إلى الله تعالى، وأحبهم إليه، لكننا نرى ظاهرة الابتلاء واسعة في حياتهم، فقلَّ أن تجد نبيًا أو إمامًا أو وليًا إلا ومرّ بعدد كبير من الابتلاءات، وواجه الكثير من المصائب، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان هؤلاء هم الأقرب إلى الله والأحب إليه فلماذا لم يدفع عنهم البلاء؟ ولماذا لم يحمهم منه؟ لماذا أتاح الفرصة لتتسلط عليهم ألوان المصائب والابتلاءات؟ من ناحية أخرى، إن الله تعالى يريد من هؤلاء الأنبياء والأئمة أن يكونوا مطاعين ومحترمين في الناس، مسموعي القول، إذًا فلماذا لم يجعلهم في موقع القوة والقدرة حتى يلتف الناس حولهم ويسمعوا لهم؟ لماذا كان أكثر الأنبياء في موقع الضعف المادي بحيث لا يستطيعون أن يُعملوا ويمارسوا نفوذهم في المجتمع؟ هذه الأسئلة تواجه الإنسان حينما يقرأ سيرة وحياة الأنبياء والأئمة.
الابتلاء في حياة الأنبياء يقول تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[سورة البقرة، الآية: 124]. في الآية الكريمة إشارة إلى هذا الجانب من خلال أبي الأنبياء نبي الله إبراهيم الخليلE، هذا النبي العظيم واجه في حياته أنواع الابتلاءات، والله عزّ وجل يقول إن هذه الابتلاءات التي واجهها إبراهيم الخليلEكانت طريقه ليكون في موقع القيادة والإمامة {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} المقصود من {كلمات} إما أنها تعني أوامر الوحي ونواهيه، أو بمعنى مواقف، {فَأَتَمَّهُنَّ} أي اجتاز الامتحان ونجح، عندها استحق من الله مقام الإمامة والقيادة {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. لماذا يُبتلى الأولياء؟ من هنا يمكننا الإجابة عن التساؤلات التي طرحناها سابقًا بما يلي: أولًا: تصحيح مقياس علاقة العبد بربه في أذهان الناس. فقد يتصور البعض أن مقياس القرب من الله ومحبته للعبد هي أن يحميه من المصائب، ويقيه كل بلاء، كما هو الحال في قاموس حياتنا البشرية، فالإنسان إذا أحب شخصًا شمله برعايته بحيث لا يسمح لأي أحد أن يؤذيه. من له وجاهة عند حاكم يتوقع أن لا يقع في مشكلة يستطيع ذلك الحاكم أن يحميه منها، وإذا وقع إنسان في مشكلة ولديه علاقة مع جهة نافذة فإنه يتوجه إليها على الفور لتميط الأذى عنه. من هنا أصبح عند الناس مقياس للعلاقات البينية وهو مقدار دفع المحب الضرر عن المحبوب، ولكن هل هذا المقياس ينطبق مع الله تعالى؟ إذا كان هذا المقياس هو الجاري فلماذا لم يدفع الله البلاء والمصائب عن أنبيائه؟ على الإنسان أن يعيد النظر، إذا أراد أن يعرف مقدار محبة الله له فلا يحسب أن مقياس ذلك الراحة والدعة، فيفرح إذا كان في رخاء ويقول إن الله يحبني، فماذا إذا أصابته محنة شديدة، هل يستنتج بأن الله لا يحبه؟ القرآن يبين هذا الجانب بقوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ١٥ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} هذا المقياس خطأ، المشاكل أو الرخاء ليست هي المقياس. قد تكون الابتلاءات هي مظهر حب الله لك، وقد يكون الرخاء فخ امتحان من الله لك، قد تنجح وقد لا تنجح فيه، ولذا يقول الله عزّ وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ٢ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. وهناك نصوص أخرى كالحديث الوارد عن رسول اللهA: «المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، ونفس تنازعه، وشيطان يظله»] كنز العمال، ج1، ص161، حديث809[. الإنسان المؤمن قد يبتلى أكثر بكثير من غير المؤمن، جاء عن الإمام الصادقE: «إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل»] الكافي، ج2، ص252[ وعنهE: «وهل كتب البلاء إلا على المؤمن؟»] الكافي، ج2، ص258[ وقال أيضًاE: «المصائب منح من الله»] الكافي، ج2، ص260[ قد يرى الإنسان أن المصيبة أزمة ومشكلة، فيتعقد ويتأزم منها، ولكن المؤمن الواعي يعتبرها منحة من الله ليبرز صدق إيمانه ووعيه وقدرته على تجاوز المحنة. ويُروى عن الإمام الصادقE أنه قال: «كرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء» ]بحار الأنوار، ج64، ص231[ أي إن كرامات الله نتيجة لمقدمة هي البلاء. من هنا كانت حياة الأنبياء والأئمة مليئة بالمشاكل من أجل تصحيح هذا المقياس في ذهن الإنسان. ثانيًا: الالتفاف حول الأنبياء والأئمة ينبغي أن يكون عن قناعة وإيمان، وليس طمعًا في قوة ومكسب. إذا كان الأنبياء في موقع القوة فمن الطبيعي أن يخضع الناس لهم رغبة أو رهبة، ويتملقوا لهم، وهذا لا يكون امتحانًا حقيقيًا. وإذا كان بعض الأنبياء والأولياء وصلوا إلى مواقع قوة فإن ذلك كان بعد مسيرة جهاد وعناء. ثالثًا: أن يكون الأنبياء قدوة للناس في تحمل البلاء ومواجهة التحديات؛ لأن طبيعة الحياة البشرية فيها ابتلاءات ومشاكل، ومطلوب من الإنسان أن يصبر عليها مهما كان نوع المشكلة وحجمها.
الإمام زين العابدين (ع) ومشاهد البلاء: نحتفي هذه الايام بذكرى شهادة الإمام زين العابدين علي بن الحسينE، هذا الرجل القديس الذي أجمعت الأمة الإسلامية على احترامه والإشادة بفضله ومكارم أخلاقه. لقد عانى هذا الإمام ألوان الألم في حياته. نحن بعد ألف وأربعمائة سنة من معركة كربلاء حينما نسمع مشهدًا من مشاهدها، نبكي ونتألم، كل إنسان سوي يسمع بعض مصاب أبي عبدالله الحسينE فإنه لا يملك السيطرة على مشاعره ودموعه، مهما كان دينه ومذهبه، فكيف بالإمام زين العابدين وهو الذي كان حاضرًا في كربلاء، وشاهد كل ذلك رأي عين؟ عاش تلك الواقعة يومًا بيوم ولحظة بلحظة. تتقطع نياط قلوبنا حين يذكر لنا التاريخ أن الحسينE وقف بعد مصارع أصحابه وهو يلتفت يمنة ويسرة ينادي: أما من معين يعيننا؟ أما من ذاب يذب عنا؟ الإمام زين العابدين كان مريضًا مسجى في الخيمة، لكنه يسمع صوت استغاثة أبيه الحسين، فكيف لا يتألم؟، نادى بعمته زينبF: ناوليني السيف والعصا. قالت ما تصنع بهما: قال أما العصا فأتوكأ عليها، وأما السيف فأذب به عن والدي، أما تسمعين الحسين ينادي أما من مغيث يغيثنا؟ وقد شاهدE مقتل أبيه الحسين، وشاهد فرار عمّاته وأخواته من الخيام حينما نادى المنادي: احرقوا بيوت الظالمين. فسألته السيدة زينبF ما نصنع يا ابن أخي؟ قال مُري النساء أن يتفاررن من الخيام. فكان هذا المشهد يأخذ منه مأخذه طول حياته، فقد روي عنه قوله: والله ما رأيت أحدًا من عماتي أو أخواتي إلا ذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة وخنقتني العبرة. لا شك أنها لم تكن لحظة هينة على قلب الإمام. وحين أخذوا أسارى ومروا بهم على أرض المعركة ونظر الإمام زين العابدينE إلى جسد أبيه الحسينEوبقية أنصاره وأهل بيته، فكان في حال المحتضر الذي يجود بنفسه عند الوفاة، ولذا قالت له عمته زينب تصبّره: ما لي أراك تجود بنفسك؟ كما لاقى ألوان الذل والهوان في الكوفة والشام، حتى إذا أدخلوا على يزيد مقيدين كالعبيد صاح في وجه يزيد: يا يزيد، ما ظنك بجدنا رسول اللهA لو رآنا ونحن على هذه الحالة؟ فبكى يزيد وبكى كل من كان في المجلس. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. نسأل الله أن يوفقنا للسير في طريق الأئمة والأنبياء والاقتداء بهم.
|