"وبهذا يصبح التأريخ عبارة عن لوح ممسوح، يعاد نقشه كلما كان ذلك ضروريا.. كل شيء قد تلاشى, في عالم مضلل, أصبح فيه حتى تأريخ السنة, عرضة للشك" ( من رواية جورج أورويل 1984).
رواية 1984 غنية عن التعريف، فهي تنتمي إلى صنف الخيال السياسي. بطل الرواية وينستن سميث يعمل موظفا في وزارة الحقيقة. وبعيدا عن تفاصيل الرواية ومساراتها.. قريبا من تفاصيلنا العراقية المحزنة ومساراتنا المتاهيّة, دعوني فقط أشير إلى وزارة الحقيقة هذه التي كان يعمل بها بطل الرواية.
وزارة الحقيقة تقوم، وبواسطة كادر كبير، بتغيير البيانات والمعلومات الموثقة على مدار الساعة، لتتماشى مع إستراتيجية وأهداف الحزب والحكومة بقيادة الأخ الأكبر! فهناك موظفون يقومون بحذف كل ما لا يروق للحزب من الأرشيفات الصحفية، بل واستبدالها بالملائم للمنهج الذي رسمه الأخ الأكبر.
عراقيا، نحن ومنذ أسبوع في متابعة دقيقة لأحداث متصاعدة متلاحقة، وخلال هذا الأسبوع نستمع لأخبار وأخبار نقيضة، تصريحات وتصريحات معاكسة، صور وصور مضادة (حتى مقولة ان العين أقرب لليقين من الأذن سقطت، فحتى الصور تزوّر أو ترمى بالتزوير).
ووسط كل هذا كلما بدأت بتشكيل صورة ظهرت لك أمور تمحوها وتبدأ بالتأسيس لأخرى، حتى أن المواطن, الإنسان, المستقل إلا عن عراقيته وعن إنسانيته ليكاد يصرخ (أين الحقيقة)؟
للحكومة ولمعارضيها وزارات حقيقة همها ليس الحقيقة بل (تشكيل حقائق خادمة لاتجاهها). الكل يصر على رواياته وعلى مصادره.. الكل يصعّد، والكل يبني على الفرضيات التي افترضها نتائج جديدة، وبناء على هذه النتائج تتخذ خطوات، وهكذا تزداد الهوّة عمقا والصورة تشويشا.
لجنة (تقصي الحقائق) في أحداث الحويجة مثال صارخ على انقسام حتى اللجان التي تشكل لتوضيح الرؤية, انقسام إلى (وزارات حقائق) صغيرة داخل اللجنة, نصدّق من، ومن لنا بجيهنة وبخبر يقين.
لجنة عقدت أكثر وشوّشت أكثر. استقالات وانسحابات, تصريحات واستباق وانفرادات. لجنة لا يمكن لها أن تكون إلا كذلك لأنها ولدت من رحم كيان ممزق منقسم غير متناغم.. كيان مهدد بالحل، وهو كيان يمثل جزءا كبيرا من المشاكل، ولم يقدّم أي علاج ناجع لأي داء من أدواء العراق المستعصية, فالبرلمان ساحة صراع ومصنع خلافات, بل مصنع كفوء لخلافات تمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي، ثم تمكن من تصدير الكثير من خلافاته إلى الشارع (ربما يستحسن بنا الرجوع إلى الاحصاءات لمراجعتها للاجابة عن السؤال: هل هناك هدوء نسبي للعنف في الشارع العراقي أثناء العطلات التشريعية؟).
وهنا، وبالعودة إلى وزارات الحقيقة ولجنة الحويجة, يُطالب الكتّاب والاعلاميون أحيانا بمواقف مباشرة وفورية تجاه أحداث في ظروف مرتبكة, وكيف يتسنى ذلك في ظل تشويه المعلومات وصراع وزارات الحقائق؟
الأكيد أن العراق في خطر كبير, الإنسان العراقي معرّض الآن لكارثة وشيكة, فهو الضحية الأولى لصراع متداخل بين ما هي خلافات عراقية بحتة ومخططات اقليمية تمتد بأصولها وتأثيراتها إلى ما هو أبعد من الاقليم.