ليلة تسليم جلجامش لليهود فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (4) |
# تشابهات مُفتعلة بين باتا وأنكيدو وآدم : ---------------------------------------- وهناك معضلة أو ظاهرة التشابهات التي يلتقطها ناجح ، ويؤسسها بسرعة غريبة ومن دون قرائن موضوعيّة . فكلّ جهتين تتشاركان في سمة معينة أو مظهر محدّد يعتبرهما ناجح متطابقتين أو هما تعكسان قيمة مشتركة أو غاية واحدة . وهذا شيء غريب جدا لا تسنده حتى مباديء المنطق الأولية منذ أيام أرسطو . خذ على سبيل المثال موقفه من الصفات التي رأتها الزوجة في جسد باتا . لقد رأته رائعا قويا كواحد من الآلهة تطلّ من كلّ جزء من جسده فتوة الشباب وعنفوانه (أعود للتأكيد على أن هذا الموقف غير موجود في النص الأصلي للحكاية ومن صياغات سليمان مظهر الأدبية) ، وهذه الصفات – وكما يقول ناجح – ليست جديدة : (وهي صفات الألوهة ، بشخصيّة انكيدو في ملحمة جلجامش والتي خلقته الآلهة الأم الأكدية ، أورور ، وكان واسع الفهم وجميلا كالاله وتلك صفة الملك جلجامش وقد صعدت هذه الصفات وارتحلت لتستقر في الخطاب التوراتي / سفر التكوين حيث آدم كان إلهاً أيضاً - ص 61) (31) . لننته من حقيقة سريعة ومباشرة : هل آدم في التوراة كان إلهاً كما يقول ناجح ؟ إذن اين سيكون محل الله خالقه ؟ حتى اليهود لا يرضون بهذا التخريج . ولاحظ – الآن - التناقضات والإرتباكات ، فمن يقرأ هذا المقطع لأول مرّة ، وبلا خلفية ثقافية مميّزة عن الموروث الأسطوري في المنطقة ، سوف يعتقد أن باتا هو امتداد طبيعي لأنكيدو ، ثم لجلجامش ، فآدم التوراتي ، حيث يرى ناجح أن باتا هو صاحب نفس السمات الإلهية التي يتمتع بها أنكيدو وجلجامش وآدم التوراتي . وهذه خلطة عجيبة . فإذا قلنا أن ناجح المعموري لديه عينان سوداوان وأنف عريض والممثل الأمريكي "دنزل واشنطن" له عينان سوداوان وأنف عريض فما هي النتيجة ؟ وما الذي سيترسخ في ذهن القاريء حين نقول أن سمات ناجح المعموري هي نفس سمات دنزل واشنطن ؟! ما يقوله النص الأصلي هو أنّ باتا كان يقوم بكل شيء في الحقل بدلاً من أخيه ، يحرث ويبذر ويحصد الذرة ، ويرعى الماشية ، وحتى يخبز الخبز (وهو واجب امرأة أخيه !) ، فصار عاملا ممتازا ، لا وجود لنظيره في كل الأرض ، وكأن روح إله في داخله . وهذا هو النصّ الأصلي : But his little brother was to him as if he were a son; he it was who made for him his clothes; he it was who followed behind his oxen to the fields; he it was who did the ploughing; he it was who harvested the corn; he it was who did for him all the matters that were in the field. Behold, his younger brother grew to be an excellent worker, there was not his equal in the whole land; behold, the spirit of a god was in him.(32). فهل باتا يشبه أنكيدو وجلجامش وآدم التوراتي لأن الجميع يتشاركون بسمات إلهية ؟! لنأخذ أنكيدو مثلا : لقد خلقته الآلهة ، ورمته في البرّية ، في حين أن باتا جاء من أم وأب معروفين ، ويسكن في بيت محدّد ، عاش أنكيدو متوحشا مع الحيوانات في حين عاش باتا في مدينة وبيت ويعمل في حقل ويرعى الحيوانات . خُلق أنكيدو ليكون غريما لجلجامش .. تحضّر على يدي البغي .. تقاتل مع جلجامش : صار صديقه وخلّه .. أغضب الآلهة وقتل الثور السماوي مع جلجامش .. قتل خمبابا في غابات الأرز مع جلجامش .. وهناك أكثر من 35 اختلاف أخر بين باتا وأنكيدو ، فهل يكفي تشابههما في البنية الجسدية "الإلهية" للقول أن هناك – حتى أي قدر من التشابه – بينهما ؟! ونفس الأمر يُقال عن باتا وجلجامش ، وعن باتا وآدم التوراتي .. وعن جلجامش وآدم التوراتي . وفي الموقف من آدم التوراتي تسرّع من ناجح وعدم تروٍّ . فلو قرأ ناجح التوراة بدقّة وهدوء ، وبلا حماسة ، لأمسكَ بالتناقضات الفادحة في طريقة خلق آدم والسمات التي يحملها . ففي سفر التكوين هناك تسلسلان مختلفان يخلق بهما الله آدم وباقي المخلوقات . الأول هو كالتالي : (“وقال الله نصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا، وليتسلط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض وكل الدبابات الدابة على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم) (سفر التكوين 1 : 27-28). دقّق في النص السابق ، لقد خلق الله الذكر والأنثى على صورته ، وليس آدم فقط (ولم يذكر اسمه بأنه آدم أبدا) . فلماذا لا يكون باتا مشابها للأنثى (حوّاء) التوراتية التي خلقها الله على صورته أيضاً ، وحيث سينقلب التأويل جذريّاً بدخول قيم الإلهة الأم (المتريركية التي يدافع عنها ناجح) على خط الحكاية ؟! أما التسلسل التوراتي الثاني فهو : (وكل شجر البرية لم يكن بعدُ في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الربّ الإله لم يكن قد أمطر بعدُ على الأرض، ولم يكن إنسان ليحرث الأرض. وكان يصعد منها بخار فيسقي جميع وجهها. وإنّ الربّ الإله جبلَ الإنسان تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيّة) (سفر التكوين 2: 6-7-8) . وفي هذا الموقف لا تعني هذه الطريقة في الخلق أن آدم جاء على صورة الله ، بل خُلق كـ "إنسان" . فانظر ما الذي تُحدثه التحليلات المبتسرة والإنطباعات السريعة من ارتباكات واستنتاجات خاطئة ! # بعد تحذير البقرات الثلاث ، يهرب باتا من أخيه الذي يلحقه كي يقتله بخنجره (وليس بقضيبه) ، فيبدأ الأخ الأصغر بالبكاء والإستغاثة بالإله "رع – حورأختي" قائلا : (يا إلهي الطيّب الذي يفصل بين الخير والشر) . فنهض الإله رع واستمع لبكائه كلّه ، وخلق نهرا بينه وبين أخيه الأكبر ، مملوءاً بالتماسيح ، فأصبح كلّ أخٍ على ضفة ، وفرك الأخ الأكبر يديه مرّتين (وهي حركة يقوم بها المصريون حتى يومنا هذا للتعبير عن عدم الظفر بشيء مرجوّ) لأنّه لم يقتل أخاه . ونادى الأخ الأصغر على أخيه الأكبر بأن ابق حتى الفجر حيث ينهض الإله رع ليحكم بيني وبينك ويفصل بين الخير والشر . المهم أن ناجح يقول : (بالإمكان قراءة الدور الذي قام به الإله رع حورس قراءة أعمق تؤشّر التناص الكامن في الحكاية مع اسطورة الاله الشاب حورس الذي خاض صراعا مريرا مع أخيه الشرير "ست" والذي انتصر فيه مؤخراً وصار الاله حورس انموذجا للاله الابن القتيل المتوازي مع عدد من الإلهة الشابة القتيلة) (ص 72) (33) . لكن من قال إن الإله الشاب حورس هو أخو الإله الشرير "ست" ؟! صحيح أن هناك إشارات أسطورية تشير إلى أن ست وحورس كانا شقيقين ، لكن الشائع والمتداول في أغلب البحوث والدراسات هو إن الإله "ست" هو عمّ الإله "حورس" الذي هو شقيق أبيه "أوزوريس" الذي كان هو ممثل أنموذج الإله الشاب القتيل في الديانة الاسطورية المصرية وذلك حين قتله أخوه الشرير الإله "ست" وقطّع جسمه إلى أربع عشرة قطعة (أو أكثر حسب المصادر) نثرها في أنحاء البلاد ، لكن زوجته وأخته "إيزيس" ، ربّة القمر لدى المصريين ، قامت بجمع أجزائه ومجامعته ليولد حورس الذي قام بأخذ ثأر أبيه ، لذلك يُسمّى الأخير ، أيضا ، "حورس حامي أبيه" . ويُرمز لحورس بصقر أو آدمي برأس صقر ، ورع بالشمس ، واسمه في هذه الحكاية "رع – حورأختي" حيث اعتقد قدماء المصريين أن الشمس هي مصدر الحياة واعتبروها إلهاً واسموه "رع" ، وانتشرت تلك العقيدة بصفة خاصة في شمال مصر حيث كانت مدينة أون (هليوبوليس) مقر هذه العبادة . رفع الكهنة مرتبة هذا الإله ليكون إله الكون . وفي الجنوب في إدفو انتشرت عبادة "حورس" . وبعد اتحاد الوجهين الشمالي والجنوبي (ممالك الدلتا وممالك الصعيد) وحّد الكهنوت بين إلهي الشمال والجنوب في صورة الإله "رع - حوراختي" أي "حور المنتمي للأفقين الشرقي والغربي" ، ويمثّل بآدمي له رأس صقر فوقه قرص الشمس . ولم يكن ذكر ناجح لمعلومة أن "حورس" هو أخو "ست" ناجما عن خطأ مطبعي مثلا ، بل كمعلومة أصيلة حيث يكرّرها بعد سطر واحد من المقطع السابق فيقول : (وصار الاله حورس انموذجا للمنقذ المبكر في ديانات الشرق ، بعدما واجه ملاحقة طويلة / وقاسية من قبل أخيه "ست" - ص 72) (34) . # لعنة التناص ! : ------------------ وكلّما ضاقت السبل بناجح في تأويل فعلٍ أو موقفٍ أو ظاهرةٍ معينة ، يُسارع إلى القول بأنّ هذا "تناص" . وقد صار التناص على أيدي نقادنا وباحثينا لعنة . بل لعنة مُرعبة جعلت كلّ شيء يشبه أي شيء .. جلجامش يشبه يوسف التوراتي .. التوراة تشبه ملحمة جلجامش .. حورس يشبه باتا .. باتا يشبه أوزوريس .. أوزوريس يشبه جلجامش . والسبب هو أنهم كلهم "متناصون" .. فيا للعنة التناص هذه التي سوف تجعل ناجحا يشبه دنزل واشنطون . لقد أشرق مصطلح التناص وازدهر مع صعود موجة العولمة العاتية . والنقد الأوروبي الغربي عموما ، والأمريكي خصوصا (أنا أعرف أن جوليا كريستيفا هي التي صاغت هذا المصطلح) يتأثر بقوّة بالتحوّلات الاجتماعية والإقنصادية والفلسفية في تلك المجتمعات . والعولمة هي التناص الكوني الماحق الذي يجب أن يصبح فيه كل شيء مُفسِّرا لأي شيء ، و"يدخل" في أي شيء . فأساس ثقافة العولمة هو إلغاء مفهوم الهوية ومسح مفهوم الخصوصية ، أي أن يصبح البشر "متناصّين" حدّ الإختناق ، لأن أي علامة للخصوصية تعني دخول متغيّر ينقض وحدة المأكل والملبس والعطور والموضة والفيلم والبيت ووووووو .. وكل شيء مما تريده العولمة سطحا واحدا موحّدا . من هنا وقع نقادنا في مصيدة التناص ، فأسهموا في جعل حسين سرمك يشبه دنزل واشنطن لمجرد أن عينيهما سوداوان وأنفيهما عريضان . وهذه كارثة . وفي ظل هذا الفهم للتناص ، سوف تصبح التوراتية – كما يريد لها مفكرو اليهود الصهاينة - وريثا شرعيا للسومرية والفرعونية ، لا ثقافة هجينة قامت بأفظع عملية سرقة واستيلاء ومصادرة ؛ والأهم "عملية تشويه" لذلك الموروث العظيم . وأخطر وأفظع ما سيتحقق من هذه اللعبة هو أن يصبح الكيان الصهيوني اللقيط جزءا ثقافيا "طبيعيا" من ثقافة المنطقة ، وتكون جذور الصهيونية كامنة في تربة سومر وبابل ، خصوصا وأن الكيان الصهيوني يعدّ نفسه لإعلان "الدولة اليهودية" التي تستهدي بالتوراة . أرجو أن يعذرني العزيز ناجح والسادة القرّاء فالأمر أمر مصير ، ولا يحتمل المجاملات أبدا ؛ مجاملات طالت وصارت مغثية وتلعِّب النفس . في أواخر التسعينات وكانت ظروفنا صعبة جدا والحياة جحيمية في العراق بسبب حصار الأمريكان الكلاب لشعب منعوا عنه حتى أقلام الرصاص !! قال لي أحد الكتاب العراقيين وكان يشتغل في الأردن إن هناك مكتبة ودار نشر "تدفع" بصورة جيّدة لأي كتاب يُكتب عن التوراة ، وخصوصا علاقتها بتراث المنطقة السومري تحديدا . ثم أصبح التوجّه الإبتدائي والمحدود هذا طوفانا ، وصارت الدار دورا ومكتبات كلّها تضخ المؤلفات والمجلدات حول "تناص" الأساطير التوراتية مع الأساطير السومرية . لكن دعونا نلتقط أنفاسنا ونستمر في المناقشة العلمية الهادئة . يقول الأستاذ ناجح : (بالإمكان قراءة الدور الذي قام به الإله رع حورس قراءة أعمق تؤشر التناص الكامن في الحكاية مع أسطورة الاله الشاب حورس الذي خاض صراعا مريرا مع أخيه الشرير "ست" - ص 72) (35) . ثم يشرح لنا معنى الإله حورس وكيف أنّه عمود أمّه والعون بالعربيّة (مأخوذة من "أون" المصرية) وكيف قدّم العون لباتا : (لقد كان رع حورس عونا للشاب "بايتي" المتوازي وإياه ببعض العناصر الخاصة بالحكاية، لأن "حورس" هيمن على مصر كلها بعد فترة الصراع الطويل مع "ست" واستجاب موضوعيا لطلب الشاب المضطهد وقدم النجدة له ، وتمثل ذلك بشق نهر عريض مملوء بالتماسيح ، وهنا تناظر (يقصد ناجح "تناص" طبعا) آخر وجديد مع اسطورة أوزوريس الذي ذهبت زوجته "ايزيس" للبحث عن أوصاله المبعثرة وقد استعانت بزورق مصنوع من البردي حتى تتمكن من المرور ببساطة / بسهولة عبر المستنقعات المنخفضة واشار العالم السير ولس بدج بان التمساح لن يلمس من اتخذ زورقا من البردي وسيلة للانتقال لانه كان قد حمل الإلهة "ايزيس" في يوم من الايام - ص 73 و74) (36) . لنتساءل الآن : هل هناك تناص بين حورس وهو إله ، وباتا وهو إنسان ؟ حورس هيمن على مصر كلها بعد صراعه مع عمّه الشرير ست ، فهل هيمن باتا على مصر كلها - عند هذا الحد من الحكاية وليس عند ختامها - بعد صراعه مع أخيه أنبو ؟ (في ختام الحكاية سوف يهيمن باتا على مصر ولكن مع مفاجأة عجيبة ستقلب الطاولة على رؤوس جميع الباحثين الأسطوريين) . وهل يشبه النهر المليء بالتماسيح الذي شقه الإله حورس لإنقاذ باتا من أخيه الأكبر ، النهر الذي سار فيه زورق الإلهة إيزيس وهي تفتش عن أوصال زوجها الإله أوزوريس ؟ هنا زوجة تفتش عن زوجها لإنقاذه وإحيائه ، وهناك أخ يريد قتل أخاه !! فما هو التشابه ؟ .. تناص ؟! يواصل ناجح القول : (وامتلاء النهر الذي شقه الاله الشاب رع حورس بالتماسيح يعني استحالة تمكن الاخ أنوبو من العبور ، لأن النص لم يشر الى وجود قصب البردي في المنطقة التي كان الشاب بايتي يزرعها - ص 74) (37) . يعني إذا توفّر في منطقة الأخوين قصب البردي ، واستطاع الأخ الأكبر أنبو صنع زورق من البردي وعبر النهر ، هل هذا تناص مع رحلة إيزيس ؟ إلهة تقطع نهرا لإنقاذ زوجها ، وإنسان يقطع نهرا لقتل أخيه ، هل يتساويان ويتناصّان ؟ حسب تأويل ناجح سيتساوى فعل الإنقاذ مع فعل القتل !! أي – وانظر اهمية الفلسفة – يتساوى الإثبات مع النفي !! وهذا شيء يخالف أسس المنطق . لكن وجود زورق من البردي هنا ، وزورق من البردي هناك ، حسب بعض من يفهم كريستيفا ، هو حركة "تناص" مباركة .
|