شغلنى سؤال- منذ عدة سنوات- هل الأديان تقبل التجديد ؟ وفق الشعار الذى ترفعه الثقافة السائدة فى مصر، وهل الدين مثل أى شىء (مادى) يقبل التجديد مثل السجادة والسيارة؟ رغم ما فى الدين من نصوص ثابتة ونزلتْ فى عصور غير عصرنا، وبيئات اجتماعية غير بيئتنا، وثقافة قومية غير ثقافتنا؟ ما جعلنى أفكــّـر فى هذا السؤال الحديث المنسوب لنبى الإسلام الذى قال ((إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يـُـجـدّد لها دينها)) (سُنن أبى داود) و(المستدرك) فكان أول انطباع أوحى به هذا الحديث وتمكن من عقلى هو: أليس هذا الحديث أدق وأكبردليل على أنّ القرآن والأحاديث المنسوبة لنبى الإسلام، فى حاجة إلى (بشر) يتولون (التجديد)؟ كما أنه حديث غاية فى الأهمية حيث عالج مسألة التطور الذى يحدث على أرض الواقع، بعد كل مائة سنة. وأعتقد أنّ هذا الحديث تلاه – بعد عدة قرون التعبير البديع والدقيق الذى نحته الشهرستانى (1086- 1153) وقال فيه ((إنّ الحوادث والوقائع فى العبادات والتصرفات مما لايقبل العد والحصر. ونعلم قطعـًـا أنه لم يرد فى كل حادثة نص، ولايتصور ذلك، والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غيرمتناهية (فإنّ) ما لايتناهى لايضبطه ما يتناهى)) (الملل والنحل- ص499) وأعتقد أنّ أهمية الشهرستانى وما أبدعه فى نحته الصائب، أنه كان شديد الوعى بأهمية المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لكل عصر. وبالتالى فإنه لايجوزتطبيق أية نصوص سابقة التجهيز، على تلك المتغيرات، وأنّ من يزعمون صلاحية النصوص لكل عصر ولكل مكان واهمون، ويعتقدون أنهم يعيشون فى القرن السابع الميلادى. كما أنّ اختلاف المجتمعات غاية فى الأهمية، حيث أنّ الثقافة القومية شديدة الاختلاف من شعب إلى شعب ، ولعلّ أدق مثال على ذلك ما حدث مع الإمام الشافعى ، حيث أنه كتب كتابه الشهير (الأم) لأول مرة فى العراق ، ولكنه عندما عاش فى مصر، غيـّـر فيه الكثير، ولذلك قال ((لا أجعل فى حل من روى عنى كتابى البغدادى)) فكان تعليق أ. أمين الخولى ((ومؤرخوه أو أصحاب مناقبه أنفسهم يقرون بصراحة ، أنّ الشافعى قد وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ، ثم رجع إلى مصر وأحكم ذلك)) ومغزى كلام الشافعى أنه غيـّـر رأيه فيما كتبه فى العراق. ولكن السؤال هو: لماذا غيـّـر رأيه، ولماذا اعتبر أنّ كتابه هو ما كتبه فى مصر؟ عن إجابة هذا السؤال قالت د. نعمات أحمد فؤاد أنّ الإمام الشافعى عندما حضر إلى مصر، قال له المصريون : هنا خطأ فى كذا وكذا ، فكتبه من جديد وقال ((لا أحل الله رجلا يذكر كتابى فى العراق.. إنما الكتاب ما كتبته فى مصر)) (أبعاد الشخصية المصرية بين الماضى والحاضر- مجموعة محاضرات- إعداد وتقديم طلعت رضوان- هيئة الكتاب المصرية- عام1999- 68) وعن هذا التغير فى موقف الإمام الشافعى ، كتب أمين الخولى أنّ المؤرخين يذكرون مذهبين للشافعى: مذهب قديم ومذهب جديد ، حيث أنّ القديم كان فى سن سابقة من حياته ، وفى بيئة مادية هى العراق ، والمذهب الجديد كان فى سن متأخرة من حياته ، وفى بيئة مادية أخرى هى مصر، واختلاف البيئتيْن ماديـًـا كان بلا شك مصحوبـًـا باختلاف البيئتيْن معنويـًـا، لاختلاف طراز الحياتيْن فى الإقليميْن ، باختلاف أسبابها المادية من زراعة وصناعة ومقومات حضارة قديمة، ووراثة ذات لون معين ، ونحو ذلك مما يكشفه التأمل الدقيق، فى حال العراق ومصر. ويُفهم منه بوضوح أنّ مذهبىْ الشافعى المذكوريْن يُمثلان تغيرًا فكريًا)) (المجددون فى الإسلام- هيئة الكتاب المصرية- عام 2001- ص38) كما أنّ الشافعى كتب شعرًا قبل الرحيل إلى مصر قال فيه ((أخى أرى نفسى تتوق إلى مصر.. ومن دونها أرض المفاوز والقفر.. فوالله ما أدرى أللفوز والغنى.. أساق إليها أم أساق إلى قبرى)) (المصدرالسابق- ص105) وعن الاختلافات بين أصحاب المذاهب كتب الخولى ((ثم نشير من المذاهب الأخرى ما يحكيه أصحاب مذهب أبى حنيفة، حيث يذكرون اختلافــًـا بين الإمام وأصحابه، فيقولون: إنّ الاختلاف هنا إنما هو اختلاف عصر فقط ، وبذلك يذكرون جملة أسباب التغيير فى كلمة (اختلاف الزمن) ومن ذلك أيضًا ما ينقلونه عن أبى حنيفة أو أحد أصحابه ، من أنه رجع عن أفكاره ، وأنّ هذا الرجوع تغير للفكرة أحدثه الزمن، وتطور فيه الرأى ، أو صحح بتأثير سير الحياة بالشخص وبالأحداث)) (المصدرالسابق- ص39) وذكر أ. الخولى أنه لو أمكن للمسلمين عدم الا نشغال بالغيبيات ، فإنهم بذلك يُـدركون معنى التطور، خاصة لو أنهم توقفوا عن الاصطدام بالعلم (ص46) ولكن الخولى رغم كلامه المهم، لم يستطع التخلص من المرجعية الدينية- مثله مثل الفقهاء الرافضين التطور على أسس من معطيات العصر الحديث، وليس على أسس من مرجعية دينية، فوجدته يستشهد بآية ((إنّ الله لايغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (الرعد/11) وآية أخرى شبيهة فى سورة الأنفال/53. وأعتقد أنّ هاتيْن الآيتيْن تــُـثيران سؤالا غاية فى الأهمية: فإذا كان (الله) لن يفعل أى شىء فى تغيير البشر، حتى ((يـُـغيروا ما بأنفسهم)) فماذا عن (المشيئة الإلهية) ؟ وكيف يتم التوفيق بين دور البشر فى تغيير أنفسهم، وبين الآيات التى أوضحتْ أنّ المشيئة الإلهية هى الأساس؟ ومن بين تلك الآيات- على سبيل المثال- آية ((قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزمن تشاء وتذل من تشاء)) (آل عمران/26) ثم تأتى الآية التالية مباشرة لتــُـكمل معنى المشيئة الإلهية فنصّـتْ على ((وترزق من تشاء بغير حساب)) وإزاء تلك المعانى الصريحة الواردة فى القرآن، يكون السؤال بصيغة أخرى : أين هى إرادة البشر كى يتمكنوا من تغيير ما بأنفسهم كما نصتْ الآية رقم11 من سورة الرعد؟ وعن الجمود الفكرى الذى يسيطر على عقول الإسلاميين، فإنّ الخولى توقف عند بعض الماركسيين الذين تغافلوا عن (المادية الجدلية) وتحوّلوا إلى (دعاة للإسلام) مثلهم مثل شيوخ الأزهر، وكتبوا عن أهمية الاستنجاء بالحجارة بدلا من التطهر بالماء، فكتب الخولى ((...فما أحسب أنْ يقبل اليوم الحديث بالاستنجاء بالأحجار، عددها ونوعها وما إلى ذلك ، وما أحسب أنه يقبل أنْ يقال للشباب مثل الذى قاله صاحب كتاب (اشتراكية الإسلام) حيث كتب ((ومن أروع ما جاء به الإسلام تأكيدًا لحق الحياة وما يحفظها من سقوط فرض الوضوء بالماء ، وانتقال الفرض إلى التيمم بالتراب ، حين يكون على الماء عدو مخيف أو حيوان مفترس ، ويكون ذلك التيمم بديل الغسل بالماء، وليس يسهل على هؤلاء الأبناء – مهما تكن طبقتهم الاجتماعية- أنْ (يتقبلوا) مسح الوجه بالتراب لتأكيد لحق الحياة)) (ص63) وما لم يقله الخولى أنّ صاحب كتاب (اشتراكية الإسلام) الذى لم يذكر اسمه، كان يقوم بعملية لتجميل واقع المجتمع الصحراوى الرعوى الذى تندر فيه المياه، وأنّ ذلك هو السبب الرئيسى للأخذ بالتيمم بالتراب ، وليس وجود ((عدو مخيف أو حيوان مفترس)) كما قال الماركسى الذى حاول تجميل ما لاتنفع معه كل مساحيق التجميل، ونفس الأمر فعله ماركسى آخر(أحمد عباس صالح) فى كتابه (اليسار واليمين فى الإسلام) الذى رفع من شأن أبى ذر الغفارى لمرتبة كارل ماركس. وكان من بين أسباب الجمود الفكرى لدى فقهاء المسلمين ، عدم الاعتراف بقانون (السببية) وكان الأشاعرة أكثر من روّجوا لهذا الزعم الباطل ، وقد شرح الخولى موقفهم فى ص147. وأعتقد أنّ الموقف من قانون السببية هو أحد أهم عوامل التخلف فى المنطقة العربية، لأنّ هذا القانون يربط الظواهر الطبيعية والاجتماعية ببعضها البعض ، الأمر الذى يؤدى إلى معرفة أسباب الظاهرة ، مثل سقوط المطر: هل هو بسبب المشيئة الإلهية؟ أم السبب تجمع السحب وفق قانون طبيعى تحكمه عدة عوامل، ومثل ظاهرة الظلم الاجتماعى، هل هذا الظلم نتيجة المشيئة الإلهية؟ أم أنّ السبب سيطرة الحكام الذين ينحازون للأثرياء ضد الفقراء؟ ومن أهم ما ذكره أمين الخولى أنه مع فصل الدين عن الدولة ، بمعنى فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية. وأن من بين جرائم فقهاء الدين الدعاء للحاكم ومباركته والتدخل فى الحياة العامة ((وهم ليسوا فيها أصحاب فهم.. ومع ذلك فإنّ حياتنا مختنقة بهذه الانحرافات ، بسبب المنتسبين للدين.. بينما صلة المنتسبين للدين بالحياة العامة عندنا ، رثة مضطربة منذ دهور. ولو رجعت النظر إلى العصرالحديث فقط ، لوجدت الآثار السيئة لهذا الاضطراب فى علاقة متعلمى الدين بالحياة، ولذلك فإنّ خطواتنا على طريق النهوض ومسايرة ما حولنا كانت خطوات مرتبكة غير متزنة، فى كل مجال من مجالات الحياة العامة، من اجتماعية واقتصادية وسياسية. وأنّ هذا التمزق ظل بارزا فى الأزهرنفسه (من161- 168) فى ضوء ما تقدم أعتقد أنّ الدين (أى دين) لاتصلح معه مقولة (التجديد) حتى ولو ظهرتْ (اجتهادات) لبعض الفقهاء، بمراعاة أنّ تلك الاجتهادات ستكون من (داخل) النص الدينى (توراتى/ إنجيلى/ قرآنى) وليس من خارجه.
|