الهيدونية والريعية الاقتصادية

عندما تُقلب دفاترك الفلسفية فإنك لن تفاجأ بالمذهب الهيدوني [hedonism] أو المُتعوي القائل: ان اللذة أو السعادة هي الخير الأوحد في الحياة.  وهناك على امتداد الحضارة الانسانية من يقول إن المتعة أو السعادة هي السلعة الجوهرية في تسيير الحياة.  إذ يُعبّر المذهب الاخلاقي للهيدونية عن فكرة مفادها أن جميع الافراد يمتلكون الحق بفعل كل شيء وعلى وفق ما أوتوا به من قدرة للحصول على المتعة، وأن تعظيمها يتحتم بلوغ فكرة المتعة الصافية (والتي لا تعني سوى التسلية مطروحاً منها الآلام).  فمتعة الافراد ينبغي أن تتخطى وعلى نحوٍ بعيد مقدار الآلام التي يتعرضون اليها.  وقد اخذت الهيدونية مبادئها الاخلاقية من المدرسة القيرونية والمنسوبة إلى الفيلسوف أرستيوس القيروني (أحد تلامذة سقراط) في اليونان القديمة والقائلة: إن اللذة هي هدف الحياة وإن السعادة هي السلعة العلوية التي طالما نبحث عنها.

في حين جاء المذهب الهيدوني في الحضارة السومرية للعراق متجسداً في ملحمة كلكامش التي دُونت مباشرة بعد اختراع الكتابة مشيرة إلى ما يأتي: أَشبعْ بطنك، مارس حياتك الزوجية ليل نهار ودع يومك يسوده الفرح ولا تغفل فرصة الرقص والموسيقى، وأن اجماليات هذه القضايا هي من اهتمامات الرجل الحصرية.  وبهذا سجلت الحضارة السومرية الخطوة الموثقة الأولى للهيدونية أو المتعة في تاريخ البشرية في الالف الثالث قبل الميلاد.

تناول الاستاذ فريد فيلمان في كتابه الموسوم: السعادة والحياة الجيدة، الصادر عن جامعة أوكسفورد في العام 2006 تفصيلاً طبيعة الهيدونية وصدقيتها وتنوعها، موضحاً المضمون الاقتصادي للهيدونية بكونها ذات علاقة بقضية المنفعة الاقتصادية، اي البحث عن السرور والمتعة.  إذ عُد الانموذج الاقتصادي الهيدوني أحد المتغيرات المستقلة ذات الارتباط بنوعية المتغيرات الاخرى والتي منها نوعية المنتجات التي نسعى إلى اقتنائها أو نوعية العمل الذي نسعى اليه.  فالأنموذج الاقتصادي للأجور، على سبيل المثال، يأتي منسجماً وفكرة التباين، إذ يحصل العاملون على أجر أعلى لأعمال قد لا تجلب السعادة إليهم.  وبغض النظر عن هذا وذاك فقد تصدى الفلاسفة المنفعيون في القرنين الثامن والتاسع عشر إلى الدور المركزي للسعادة الهيدونية التي أهملها اتباع مدرسة الفيلسوف كانط أو الكانطيون.  فتنصرف النظرية الاخلاقية للسعادة لدى الفلاسفة المنفعيين إلى تعظيم الاشياء ذات الاشباع العالي والنوعية الجيدة في المجتمع وهم يتبنون في ذلك ما يسمى بالمذهب النتائجي، فالعبرة بالنتائج حقاً.  إذ تُقرن ثروة الاخلاق بالأفعال التي تحددها أو تقررها نتائجُها.

إن أعظم المساهمين في الفلسفة المنفعية هما جرمي بنثام وجون ستيوارت ميل في القرنين الثامن والتاسع عشر وكلاهما من المدرسة الهيدونية.  إذ يسعى كلا الفيلسوفين في نظريتهما البحث عن الاشياء الجيدة للمجتمع، وان جميع الافعال موجهة نحو تحقيق مقدار أكبر من السعادة.  وعلى الرغم من ان كلا الفيلسوفين يسعيان إلى تحقيق السعادة، إلا ان مدرسة جرمي بنثام تختلف عن مدرسة جون ستيورت ميل في التصدي للهيدونية.  فالمدرسة الهيدونية التي تتبع بنثام، تُعرف بالمدرسة الكمية أو المنهج الكمي.  إذ يعتقد بنثام بأن قيمة السعادة أو المتعة يمكن قياسها كمياً.  وان قيمتها يُعبر عنها بكثافة المتعة مضروبةً بطول فترتها وليس اعتمادها كرقم مجرد.  ولكن يبقى التساؤل قائماً عن كم هي المتعة وماهي فترة امتدادها؟  لذا ينبغي أن تقاس جميعها كمياً.  اما المدرسة الهيدونية الاخرى، والتي يدافع عنها جون ستيورت ميل، فهي تلك التي تتبع المنهج النوعي في بلوغ المتعة أو السعادة.  حيث يرى جون ستيورت ميل ان هنالك مستويات مختلفة من السعادة.  فبالتأكيد تتفوق النوعية العالية للمتعة أو السعادة على النوعية المنخفضة منها.  فالوجود البسيط في الحياة يعطي مدخلاً أسهل للحصول على المتعة البسيطة لكونها تهمل مناحي الحياة الاخرى والعكس بالعكس.

ختاماً، اعتقد شخصياً ان الهيدونية الريعية (المجتمعات المنتجة للنفط الخام) هي ذات مداخل سهلة ولكن ذات مخارج عميقة النوعية وتتمتع بكميتها الواسعة لتشمل مناحي الحياة كافة.  وهو ما نسميه مجازاً بالمدرسة الثالثة كما اتصورها (اي الهيدونية الريعية).  ولكن اثبتت التجربة الراهنة لبلدان الأوبك ان ركون السعادة على فقاعة اسعار الزيت الاسود والعيش الرغيد على عوائد نقدية تدفع بها فوهات براميل النفط، قد اخذت بالمنهج الهيدوني الثالث إلى قمة الهاوية وانهيار سُبل السعادة، ذلك بفقدان التنمية والتنويع الاقتصادي المعمق للسعادة واستدامتها.  فبالريع النفطي وحده لا تبنى الامم سعادتها ولا تؤسس لهيدونيتها قط!