سمعتُ أبي يختمُ صلاتَه بقوله: “ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديّ وأنْ أعملَ صالحًا ترضاه، وأدخلْني برحمتِك في عبادِك الصالحين.” فاندهشتُ وسألتُه: “يا أبي، لماذا تتواضع في دعائكَ ربّكَ وهو الكريم ذو الفضل؟! أنت رجلٌ صالحٌ بالفعل. فكيف تدعوه أن يُدخلكَ في زُمرة الصالحين وأنت منهم؛ بينما بوسعكَ أن تدعوه أن يُدخلك الجنّة مباشرة؟ أليس الطمعُ في كرم الكريم مُباحًا؟ هل تدعوه بما في يدك، وتستحي أن تدعوه بما هو المُنتهَى حيث الفردوس الأعظم؟" ابتسم أبي فأشرقت وسامتُه، وقال: “ومَن قال إن مرتبة الصالحين ليست هي المُنتهَى الأعظم؟! مرتبةُ الصالحين هي حُلمُ الأبرار والأتقياء، بل هي حُلمُ الأنبياء والرسل. هل تدرين مَن قائلُ ذاك الدعاء الذي ختمتُ به صلاتي؟ إنه لنبيّ الله سليمان؛ قاله ضاحكًا حين سمع النملة تُحذّر رفيقاتها ليدخلن مساكنَهن لئلا يدهسهن موكبُ الملك سليمان. “حتى إذا أتوا على وادِ النملِ قالت نملةٌ يا أيها النملُ ادخلوا مساكنَكم لا يحطمنّكم سليمانُ وجنودُه وهم لا يشعرون. فتبسّم ضاحكًا من قولها وقال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتَكَ التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعملَ صالحًا ترضاه وأدخلني برحمتِكَ في عبادك الصالحين.” (النمل 18-19). هتفتُ متعجّبةً: “نبيٌّ مُرسَل يرجو ربّه أن يجعله عبدًا صالحًا؟" فقال أبي: “وبرحمة الله، لا بعدله.” كأنما يخافُ النبيُّ ألا يستحق تلك المرتبة العليا بعدل الله، فطلبها برحمته. ثم أردف أبي: “وليس النبيُّ سليمان وحسب من تمنّى هذا على الله، بل كذلك نبيُّ الله يوسف. حيث يقول القرآنُ على لسانه عليه السلام: “ربِّ قد آتيتني من الُملك وعلّمتني من تأويلِ الأحاديث فاطِرَ السمواتِ والأرض أنتَ وليِّي في الدنيا والآخرة توفَّني مسلمًا وألحقني بالصالحين” (يوسف 101). كذلك أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام كان يدعو ربَّه أن يجعل ذريّته من الصالحين، كما في قوله: “ربِّ هَبْ لي من الصالحين، فبشّرناه بغلامٍ حليم،....، وبشّرناه بإسحاق نبيًّا من الصالحين.” (الصافّات 100-101- 112). وفي موضع آخر: “"ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ وجعلنا في ذريّته النبوةَ والكتابَ وآتيناه أجرَه في الدنيا وإنه في الآخرةِ لمن الصالحين.” (العنكبوت 27). وفي موضع آخر: ”ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كلاًّ هدينا ونوحًا هدينا من قبلُ ومن ذُريّته داودَ وسليمانَ وأيوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وكذلك نَجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياسَ كلٌّ من الصالحين.” (الأنعام 84). ثم يصفُ اللهُ نبيَّه إبراهيم بقوله: "ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين.” (البقرة 130). التفتَ لي أبي سألني: “ما سرُّ سؤالك اليوم عن الصالحين يا حبيبتي؟ لابد أن في الأمر خطبًا عظيمًا”. فقلتُ: "نعم يا أبي. ذكرتُ سيدنا إبراهيم في تغريدة على صفحتي بأنه (رجل صالح)، فقال نفرٌ إنني أهنتُ أبا الأنبياء ونزعتُ عنه نبوتَه! ورفع أحدُهم ضدي دعوى ازدراء إسلام!” ابتسم أبي في مرارة وقال: “إنما نعتِّه يا ابنتي بما كان يتمنّى أن يناله ويُنعَتَ به.” فقد دعا الخليلُ ربّه قائلا: "ربِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين" (الشعراء 83). كذلك فعل سيدنا محمد عليه الصلاةُ والسلام في دعائه لنفسه: "اللهمَّ توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحِقْنا بالصالحين، غيرَ خزايا ولا مفتونين”. لو أتعب مَن قاضاكِ نفسَه قليلا وبحث في الطبري أو في كتاب الله، لعرف أن القرآن الكريم، وحتى الأسفار القديمة منذ التلمود، قد نعتت الأنبياءَ جميعَهم بالرجل الصالح. وأنّ مقام الصالحين من المقامات الرفيعة العليا، الّتي اجتهد الأنبياءُ والأولياء والرسلُ في طلبها والوصول إليها. مَن قاضاكِ يا حبيبتي، شأنه شأنَ كلّ من يجعلون من أنفسهم خلفاءَ الله على الأرض، غير مشغولين بالتعلّم والبحث. فلا تحزني، ألا إنّ نصرَ الله قريب. رحمكَ اللهُ يا أبي، وألحقكَ بالصالحين.
|