وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا، عبارة أدركت عمق معناها وانا اودع أصدقائي في سوق الغزل وسط بغداد الحبيبة، بعد أن أخترت الوظيفة والعمل تحت المظلة الحكومية بعد سبع أعوام ونيف أمضيتها متنقلا بين البصرة وبغداد، متاجرا بأسماك الزينة ومستلزماتها، أذهب محملا باسماك بصرية وأعود بأخرى بغدادية، عمل متعب أيما تعب، ذروته صباح الجمعة، يتحول السوق الى كرنفال يقصده الكثيرون، تعرض فيه انواع نادرة من الطيور والحيوانات والاسماك، اعداد غفيرة من المتبضعين والباعة والمتفرجين، يتكدسون في الساحة المجاورة لجامع الخلفاء الاثري . على انارة أعمدة شارع الجمهورية المجاور للسوق وقبل أن ينقشع الظلام أسلك طريقي اليه، وابقى بانتظار وصول المربين، أهمهم القادمون من محافظة ديالى، فأحرص على لقائهم قبل أن يفترشوا الارض في الركن الذي اعتادوا عليه نهاية السوق، بأوعيتهم البسيطة التي يعرضون فيها اسماكهم، فيا روعة وجمال ما يعرضون، وبأسعار زهيدة مغرية، أبقى بانتظارهم عند العم ابو داوود، أول القادمين، ذلك الرجل السبعيني، المتأنق بالزي البغدادي الاصيل، (الصاية) البغدادية، وحزامها المصنوع من نفس قماشها وعلى الراس يلف (الجرَّاوية)، فلا يسبقه أحد الى السوق، أتبادل معه أطراف الحديث، ولا أمل حديثه، له نكهة خاصة، عايش أحداثا وحقبا مهمة ومفصلية من تاريخ العراق، ويمضي معه الوقت سريعا، عين عليه وأخرى على الركن البعيد بانتظار قدوم أسماك ديالى، وما أن يصلوا حتى أسبق الجميع اليهم واشتري منهم ما اريد، وعند استلامهم ثمنها يقتطعون جزءا منه ويعيدونه الي مساهمة منهم في تغطية مصاريف سفري البعيد، ما اروعهم، قرويون بسطاء، يحملون قناعة كبيرة يفتقدها الكثيرون هذه الايام. عبارات تعود للهجات متعددة تلازمني حتى الساعة، تتنوع مصادرها واسبابها، كيف لا وانا على مدى سبع أعوام أعاشر عراقا مصغرا بكل مكوناته وأطيافه, بعض العاملين في هذه المهنة استوطنوا بغداد وصاروا جزءا منها، ألقابهم تدل على أصولهم، اذكر منهم: صلاح النجفي، ابو عمر الكردي، علي الفلوجي وآخرون . على (تخوت) مقهى أبو أحمد التي تتوسط السوق أعقد مع بعضهم الاتفاقات، وأكثر ما كانوا يطلبون (سمكة بنت النوخذة) التي يسمونها سكيت، التي تهبط على البصرة بأعداد كبيرة من مياه الخليج فلها قدرة التكييف مع المياه العذبة ، يصطادها الصيادون وانقلها معي الى بغداد .أكثر ما كان يشعرني بالفخر، أن عربا كانوا يقصدون السوق لشراء اسماك الزينة العراقية المميزة بجمالها وصحتها، فأرى الليرات السورية والدنانير الاردنية تدخل جيوب الباعة فافرح كما لو انها دخلت جيبي . وتمضي عشر اعوام على انقطاعي عن السوق، وعند أول سفرة مع عائلتي الى بغداد لزيارة اقاربنا، في الجمعة الاولى للزيارة شدّني الشوق للمكان الذي ظل قلبي مشغولاً فيه ، فصحبت ولدي الكبير معي وتوجهت الى السوق، في الطريق حدثته عن سنوات جميلة رغم عنائها، وما أن وصلنا حتى ساقتني اقدامي صوب محل العم ابي داوود لألقي عليه التحية واقبل يده على ما فعله معي، لم أجده، ولدى السؤال قيل لي أنه توفى رحمه الله، وبحزن عميق قرات له الفاتحة، ومن مكانه توجهت الى الركن الذي أعتدت أن التقي بائعي ديالى نهاية السوق، لم ار أحدا منهم، قيل لي انقطعوا عن السوق منذ أعوام، ان الظروف الامنية والمشكلات التي عانتها وتعانيها مناطقهم أجهزت على أسماكهم وأحواضها، أخبار مفجعة لم تنقطع صباح الجمعة المشؤومة، أبو عمر الكردي باع محله وغادر الى شمال العراق ولم يترك سوى ذكرياته الطيبة، أما صديقي نمير المسيحي فقد هاجر الى غير رجعة عابرا البحار والمحيطات، نمير الذي كان يصحبني بسيارته الى بيتهم ليبيعني الاسماك التي اريدها، ويتجول بي في مشاتل الاعظمية وشارع القناة ولا يتقاضى عن ذلك قرشا واحدا، شعرت حينا بالغربة على الرغم من كل الاحبة المتبقين، فلا يقلون عن المغادرين طيبة، ما زاد من لوعتي وإحباطي أني لم ارى متسوقا من خارج القطر، بل على العكس بات اعتماد محال السوق على الاسماك المستوردة، والانتاج المحلي لم يعد يغطي ربع حاجة السوق، فكثير من المشاتل تدمرت بفعل الارهاب الذي لم يسلم منه حتى السوق، استهدف مرات وسالت دماء بريئة لباعة ومتسوقين، امتزجت مع دماء الحيوانات، الاجراءات الامنية الاحترازية حدت من حركة الباعة، فالمظاهرات في ساحة التحرير القريبة تتزامن مع ساعات ذروة عملهم، وما يصاحبها من إجراءات أمنية تحد من حركتهم وتقلل من أعداد المتبضعين، جسور وشوارع تقطع، وما يتبقى منها يصبح الراجلة عرضة للتفتيش، أحيانا يقضي أصحاب المحال الساعات بانتظار الوصل، ما ينهكم وما يحملون من حيوانات لها احتياجاتها، هذه الاشياء وغيرها جعلت من العمل في السوق مضنيا، وتكتنفه المخاطر الكبيرة سيما وأنهم يتعامل مع أحياء رقيقة لها احتياجاتها، وقد يتسبب انقطاع الكهرباء لوقت قصير في موتها، هذه الاشياء وغيرها تجعل من غضبي مضاعفا على من يتجرأ عليهم من الحمقى ويحاول التقليل من شأنهم، بوصفهم سيئون، سمعت مثل هذا في أحاديث عابرة أو سخريات سمجة لمسرحية شعبية، يطلق البعض سيلا من الافتراءات على العاملين في السوق، وهنا أجد من المفيد الرد عليهم بالقول : أنهم يتاجرون بكل ما هو جميل، ويدخلون الى بيوتنا الفرح والسرور، مثلما يجعلوننا نتفكر بروعة خلق الخالق سبحانه، لذا عليكم الكف عن كلماتكم الجوفاء، وان الأبله من آمن بها، والسفيه من صدقها، كان حري بكم أن تمطروا من بعثروا وسرقوا أموالكم بوابل من هذه الكلمات، هؤلاء من يستحقون أن تتحدثوا عنهم بسوء لا الشرفاء الكادحين .
|