طَرِيقُ الْتَّغْييرِ آلْمَرْجُو! [٢٠] |
إِنَّ ضيق معيارِ الانتماءِ الحزبي إِنجرَّ شيئاً فشيئاً ليشمل مُختلف مؤسّسات الدّولة، فالوزير الذي تُرشِّحهُ كتلةً ما مثلاً يؤخذ بنظرِ الاعتبارِ مدى قُربهِ أَو بُعْدِهِ عن أُسرةِ الزَّعيم، زعيمُ الكُتلة، ما يعني أَنَّ الدّولة برمَّتِها ستتبنّى في القريبِ العاجل معيار [الأُسرة] أَو رُبما [التَّقليد المرجعي] اذا استمرَّ التَّدهور في معيارِ الانتماءِ على ما هُوَ عليهِ الآن! ولا غرابةَ في الأمرِ أَبداً، فلقد قالَ لي مرّة أَحدهُم [مجنونٌ من يتصوّر أَنّ بامكانِ الحكومةِ أَن تنجح من دونِ مباركة (آل ...) لها]. فضلاً عن ذَلِكَ فانَّ المعايير الأُخرى للانتماءِ الحزبي تُضيِّع على البلادِ الكثيرِ جدّاً من الطّاقات الخلّاقة التي بإِمكانها أَن تخدم عمليّة البناء والتّنمية وتُبدع فيها، وهذا ما رأيناهُ خلال السّنوات الماضية منذُ التّغيير ولحدِّ الآن، فكم من الطّاقاتِ الوطنيّة أُهدرت؟ وكم من الكفاءاتِ ضاعت؟ وكم من الخِبراتِ أُبعدت عن موقعها الطّبيعي؟ أَو رُكِلت جانباً أَو على الرَّفِّ؟! لانَّ الكفاءة والنّزاهة والخِبرة والتّجربة والأَمانة وغيرها هي معايير إِنسانيّة وطنيَّة وليست دينيّة أَو مذهبيّة أَو إثنيّة، قد تجدَها عِنْدَ ايِّ مواطن، فاذا أردنا ان نتعاملَ معها في أُطر المعايير الأُخرى غير المواطنة فهذا يعني أَنّك ستُضيّع هذه الطّاقات وتخنقَها وتُحاصرها ورُبما تقتلها وتقضي عليها، وتستعيض عنها، رغماً عنكَ كبديلٍ عنهم، بالفاسدين والفاشلين وعديمي الخبرة والتجربة والمهنيّة، وهذه من أَبرز علامات زوال الدُّوَل، كما ورد ذلك عن أَميرِ المؤمنين (ع) {يُسْتَدَلُّ عَلى إِدْبارِ الدُّوَلِ بِأَرْبَعٍ؛ تَضْيِيعِ الأُصُولِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْفُرُوعِ وَتَقْدِيمِالأَرَاذِلِ وَتَأْخِيرِ الأَفَاضِلِ}. ولهذا السّبب نجدُ أَنَّ القرآن الكريم عندما يُحدِّد معايير مسؤوليةً من المسؤوليات لا يُخصّصها بالانتماءِ او يشترط فيها الانتماءِ أَبداً، وإِنّما من باب حاجةِ الموقع للمعايير المطلوبة، فمثلاً؛ عندما يجري الحديث عن الاقتصاد والمال يذكر القرآن الكريم معيارَين أساسيَّين هما {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. وعندما يجري الحديث عن الحربِ والقيادةِ والخُطط العسكريّة يذكر القرآن الكريم معيارَين آخرَين بقوله {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. أَمّا عندما يجري الحديث عن الحماية الأمنيّة فهو يذكر معيارَين آخرَين بقولهِ تعالى {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}. وهكذا، فلكلِّ موقعٍ يخصُّ الشَّأن العام ومصالح العامّة، الأُمّة، معاييرهُ، ولكلّ مسؤوليّة معاييرها، ليسَ من بينِها معيار القبيلةِ او الولاءِ للزّعيم والقائد الضّرورة ابداً!. وكذا الأَمر بالنِّسبةِ الى الامامِ أَميرِ المؤمنينَ (ع) فكلّما تحدَّث عن معايير المسؤولية أَطلقها وأَشار اليها كقِيَمٍ إِنسانيَّةٍ وحضاريَّةٍ لا علاقةَ بها بالانتماءِ والهويَّةِ والولاءِ الشّخصي وما الى ذلك. يَقُولُ (ع) في عهدهِ الى مالك الأشتر لمّا ولّاهُ مِصر؛ ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَتوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الاِْسْلاَمِالْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً، وَأَبْلَغُفِي عَوَاقِبِ الاُْمُورِ نَظَراً. ولا أَكشفُ سِرّاً هنا اذا قلتُ انَّ العمل الحزبي في العراق تراجعَ بشَكلٍ كبيرٍ جداً عمّا كان عليهِ في العهودِ السّابقة منذ تأسيس الدّولة العراقيّة الحديثة عام ١٩٢١، ففي تلك العُهود كانَ المعيار الوحيد للانتماءِ للأَحزاب هُوَ المُواطنة وَلَيْسَ أَيِّ شَيْءٍ آخر، ولذلك كان مُؤَسِّسوا وقادةُ الاحزابِ السّياسية ينتمونَ الى أَديانٍ ومذاهبٍ وإثنيّاتٍ عدّةٍ، تُمثّل التّنوّع والتّعدديّة في المجتمع العراقي، القاسم المشترك بينهم هُوَ المُواطنة كونهُم عراقيّونَ فحسب، من دونِ أَن يعني ذلك عدم وجود النَّفس الطّائفي والعُنصري عند بعضهم! أَمّا اليوم فانّ المعيار ضاقَ بِشَكلٍ مُخيف ومُرعب وصلَ الى حدِّ الأُسرة والمحلّة والمنطقة والعشيرة والفُخُذ! وهي الظّاهرة التي إِعتمدها وكرّسها أَوّل مَن إِعتمدها وكرَّسها بشكلٍ واضحٍ وعلنيٍّ الطّاغية الذّليل صدّام حسين الذي لخَّص (حزب البعث) في نهاية المطاف بأُسرتهِ فقط! وأَنا على يقينٍ مِن أَنّنا بإِزاء تكرار الحالة لكلِّ الأَحزاب السّياسية الموجودة حالياً اذا استمرَّ معيار الانتماء الحزبي في الهبوط والانهيار ليصلَ بها الأَمر الى أَحزاب [لصاحبِها] عاجلاً أَم آجلاً! وكلُّنا على اطِّلاعٍ على ما يهيِّئهُ عدد من قادةِ هذه الاحزاب ليُوَرِّثَ الحزب الى إِبنهِ أو بنتهِ أو إبنِ أخيهِ أو بنتِ أُختهِ! وهكذا!. وَمِنَ المعروفِ والواضح انّ الحزب يربي عناصرهُ ومريديه ويُثقِّفهم بالدَّرجة الأولى على معايير الانتماءِ وأُسُسهِ، فاذا كان معيارهُ [دينياً] أَو [مذهبيّاً] أَو [إِثنيّا] فانَّ تربيتهُ للقاعدةِ ستكون على هذه الأُسس والمعايير، وفي هذه الحالة هو يكرِّس الانتماءات الضَّيِّقة في مجتمعٍ مُتعدِّد على مُختلفِ الاصعدة، وبذلك سيُساهم في قلعِ جُذور المُواطنة والوطنيَّة من حيثُ يشعر أَو لا يشعُر. أَمّا عندما يكون معيار الإنتماء هُوَ المواطنة فانَّ كلّ ثقافتهِ وتربيتهِ الحزبيّة وإعلامهِ ودعاياتهِ ومشاريعهِ وحَمَلاتهِ الانتخابيَّة وغير ذلك، كلُّها ستكون بصبغةٍ وطنيَّةٍ وبذلك سيُساهم في إِثارةِ وتنشيطِ وتكريسِ الحسِّ الوطني في المُجتمع. |