قد يعتقد بعض في العلم أنه وسيلة لنيل المرامات، وكسب المقامات، وحيازة الكرامات. لكن هل يصح ذلك في البحث، ويستقيم في الطلب، لاسيما إذا كانت الرغبة تغشى مواطن النزوات، ومواقع الشهوات، ومرافئ الصبوات.؟ ربما قد نرى ذلك جميلا في الصياغة، ومثيرا في الصناعة، خصوصا إذا شممنا رائحة الظاهر، وتجلى عليه لونه الباهر، وبريقه الكاسر. لكن، أنى له أن يكون موصوفا بما وصفناه، أو أن يكون موشوما كما رسمناه، لأن الوصف يضاف إلى الذات في ماهيتها، قبل أن يتبدئ فيض أثره على تقليدات الظاهر. إذ الظاهر كما يبدو للنظر، ليس إلا تقليدا للباطن، وانعكاس له. ولذا، فالوصف هنا، هو مما ليس له حد يجوز لنا أن نضيفه إلى الجوهر الذي به قيام الكيان، بل هو شيء معنوي، لا يضاف إلا إلى المعنى، ولو ظهر لنا أن له أثرا في المادي المحصور في بناء الأجساد. لأن العلم، ولو لم يستدل عليه بالمعلوم في الممكن الوجود، لا يمكن لنا نفي وجوده في حوزة الذات. لأن نفيه مما هو مكروه قولُه عند العقلاء، ومنبوذ عند من أيقن بكمال محله به. إذ التصديق يقتضي التصور للأشياء، وسواء انفطر ذلك عن الداخل، أو مما له ماهية في الخارج. ومن هنا، فصفة العلم، ليست كصفة الكرم، لأنها ولو ألحقت بالذات، فلا مسمى لها في الظاهر إلا بالعطاء، والبذل، والندى. لكن العلم، يمكن الوصف به، ولا يتطلب ارتباط مفهومه بالخارج الذي لا يتجسد عليه إلا بآثاره المتشملة على الغايات، والقصود. وعلى هذا، لا بد من التمييز بين الصفة التي لا وجود لها إلا بآثارها الواجبة في وجودها، وبين الصفة التي لها وجود مستقل، من غير أن يحتاج إلى ظهورها على المسمى والموصوف الخارجي. وإذا ميزنا بين ضربي الصفتين، فإن ذلك مما لا يصرف وجود العلم عن الخارج، بل هو إلى جانب ذلك مكنون في الباطن، ومحزون في المعاني التي تكون بها الذات كلية في ماهية الهوية. وإذا أحكمت الطوق، وحصل العشق، تاق الإنسان إلى إبداء زينته على ظاهره، وإظهار جمال حليته على نظيره في الخلقة، والفطرة. لأنه لا تُرى للنعمة منة، إلا إذا عرف الناس جميعا قيمتها، وأيقنوا بأنها سبب في حدوث اللذة المفترضة في الأشياء الجميلة. وعلى هذا، كيف يمكن للعلم أن يعتلي القمة، وهو لم يُشاهد مترنحا في دورانه على قبة الصفاء.؟ شيء مخز للعلم أن يطلب منه بالحيازة ما يبديه على أجسادنا من حلل، وبهاء، وشيء مضر بالكون أن يهان المعلوم في الدائرة البشرية، فيستقوي به من خاله وسيلة للجبروت، والطغيان. أجل، لو لم ترتكب جريمة إهانة العلم، لما توسط به كثير إلى أطماع حقيرة، وأغراض خسيسة. لكن غياب الخشية عنه، وحقه أن يخشى منه، لأنه صعب المراس، فإما أن يكون مصارما، وإما أن يكون مطاوعا، هو الذي هيأ بيئة قابلة الكساد، والفساد، وغير كثيرا من المعاني التي ترتجى في المرامات، والغايات، وصير فئاما لا فتوة لهم أهل صولة، وجولة. وكأني بهذا العلم الذي هو الشيء الدقيق في الأشياء، والمعنى المستور في الحقائق، لا يستوهب من هذه الذوات الملتبسة المعاني، إلا ما يغدو مع صيغ التحريف للحقائق دليلا على التماس غمرة اللذات، والشهوات. فهل ضاع أصل العلم، وحاله، ومقامه، فانبث من وراء الأستار صوت ينادي به، ويجادل فيه، ويعادي له.؟ إن رجعة العزم إلى أصله، لن يُخرج به عن معناه الإلهي، لأنه العليم بما خلق، وفطر، والحكيم فيما عقد من عقود الإلزام، والالتزام. فلا غرابة إذا عدنا به إلى أصله الموجود به في الأزل، لكي نستمنح منه الخشية، والأوبة. وسواء نظرنا إلى أصله بالحد، أو بالبرهان، أو إلى ما تضمنته ماهيته من حقائق لا يستغنى عنها في التكليف، والتأليف، فإن مضمونه مستوجب لذلك الوجل الذي يغمره بالأمل الجميل، والعمل الجليل، والقصد النبيل. لأن نيله في باطنه مستلزم لذلك أصالة، وكسبه في الخارج مستوح لتلك الهمم العالية، وهي التي تنفق في نقائه أجود السبل، والأنفاس. ولذا استحق التعظيم المفضي إلى الخشية منه، وفيه، وبه، وعليه. لأن العلم إن لم ينتج مقام الخشية، أوقد في هشيم الذوات خوفا ضاريا. إذ الخشية تتضمن الهيبة، والحب، بينما الخوف يستدعي القوة، والكره. ومن هنا، لا تكون الخشية إلا مع تمام العلم بالمعلوم. وهو مقام العلماء، ولا يكون الخوف إلا مع طغيان الجهل، وهو حال الأوغاد الذين فقدوا قوة المعرفة، فخاضوا في بحار الفزع، والحزن، والقلق، وكان منهم صوت الخراب، والدمار، والهلاك. وعلى هذا تكون الخشية يقينا، لا توقعا، وشكا، وتحيرا، ويكون الخوف موردا لمن بنى أس بنائه على الرهبة من شيء مجهول، لا حدود له في حصول أثره، فينضبط به طول أمده، واستمرار بقائه. وإذا كانت الخشية تحوي معنى الحب، والخوف ينطوي على معنى الكره، فإن آثارهما تنجلي على صورة الكيان البشري المتغير بين مسالك الحياة المتشعبة. إذ يفيض كل واحد منهما على الظاهر، لكونهما ممتدين من عالم الإنسان إلى عالم الطبيعة، وبهما يتم التوصل إلى دائرة الأسرار، والمعاني. فالذي منحته الألطاف سر ذاته، ومعنى طبيعته، لا يتأتى منه أن يخالف القصد، والغاية، بل لا ينتظر منه أن يكون متهاونا في قلب قوته، وعقل أمله، لأنه ضنين بما حاز، وبخيل بما نال، فكيف يبذر ما له قيمة في ذاته، وكسبه.؟ ومن هنا، فإن العلم الذي لا يقدس ذاته، لا يدل على علته التي وضعت له حقيقته. ومتى قدس غيره بالامتزاج، أو الاتفاق، صار صفة تزول بزوال الذات، لا معنى خالدا يتميز به الناس في موارد التكاليف، والمسؤوليات. ولذا، افترق الناس في فحوى العلم إلى طوائف متباينة، وإن اتفقوا على قيمته، وجدواه، لأن بعضهم تذوق فيه معنى الوجود، وتشرب منه حب الخلود، وبعضهم رأى في غيره ما هو أكمل منه كسبا، ورياشا، وشهد في حيازة ما عداه سعادة، وأملا. وبعضهم رأى فيه آراء مختلفة، قد تتآلف، وقد تتنافر. لكن العلم لا يستغنى عنه إلا إذا كان في ضرورته محتاجا إلى غيره، ومفتقرا إلى ما سواه. لأنه لا يتخلف عن مرتبته الإلهية الكاملة، إلا عند من لمس المعاني في الماديات، ونسي ما كمن فيها من روحيات. ولا غرابة إذا اختار الإنسان المال بديلا عن العلم، لأنه هو الذي يعود إليه إذا تخلى عن بزة العلماء، وكسوة العقلاء. إذ المال في تطوره مع الحياة الطبعية، هو الشيء الوحيد الذي استطاع بعد العلم أن يضع لكل شيء في الموجودات قيمة، ومعنى. وعلى هذا، فإن العلم والمال يشتركان في الحكم على الأشياء، ويتحدان في كل واحد منها يقدس معنى من المعاني. إلا أن العلم له طور الباطن، والمال له صوغ الظاهر. وكلاهما مما يجلي الأشياء، ويمنحها أثرا، وكلاهما مما تكسب به مراتب الجمال، والكمال. فلا ضرر إذا احتاج أحدهما إلى الآخر، ما دام معنى المال خاضعا لغايات العلم. وإلا، فإن الانفصال بينهما، يؤدي إلى أن تنتهك حرمات الأشياء، وإذ ذاك يصير العلم فقيرا، والمال جاهلا. إذ في تقابلهما يكمن السر، لأن العلم يضر به الفقر إذا كانت الإرادة فاشلة، والهمة كاسدة، والمال يضر به الجهل إذا كان الشره رغبة، والطمع فتنة. وإذ ذاك، سيكون لنا علم أو مال بلا أذواق، ولا أخلاق. إذا كانت العلاقة في السياق الطبعي تقتضي أن ينزل المال عن مرتبة العلم، لكونه لا يشتري المعاني، وإنما يقتني ما ينكشف فيه الظهور، والبروز، فإن المال في كثير من أحواله، قد عادى ضرورة العلم في الحياة البشرية، لأنه يراها في ذاته، لا في ذات غيره. بل استحال مع مرور زمن طويل على صراع الإرادتين معنى يستحوذ على الأشياء بقوة، وأداة ينتزع بها حق الامتلاك من يد الإنسان، لكي يوضع في أيد تدبره بعنف، وطيش. ولذا، لم يفلح العلم في كسب الصراع إلا في بعض الأبواب التي يلجها نوع الإنسان بلا لحوق الصفات، والألوان. لأن كسب الصفات التي يمنحها العلم، قد خسفها ما قدمه المال من أجل شرائها، والاكتفاء بها. والعجب أن كل ما يطيق المال أن يمنحه من تلك الصفات المحبوبة في المطلوب، هو موجود في العلم بلا تفاوت، ولا تفاضل. فلذا، إذا طلب العلم المال، فإنه لا يطلبه إلا لرغبة في الجاه، والحظوة، والتميز. لأنه أجلى ما يتحقق به ذلك بعد انتهاء صولته. وهنا نزل العلم بمرتبة إلى ما دونه، وقد كان له ذلك المقام الأعلى بلا منازع. ولذا، فإن العالم تابع لعلمه، وما نراه عليه من ظاهر، هو سر مكنون في باطنه، لأنه لا يرتقي به علوا إلا لشرفه عنده، ولا يركب به صعبا إلا لقوته عنده، ولا ينبطح به إلا لرؤية ما يفيده غيره أقوى فيه، وأوفر له. وإذا حدث هذا، فإن العلم سيتحول إلى تابع للمال، إذ به تتحقق الرتب المادية، الظاهرية. ولا عجب إذا انغمس العلم في الماديات التي تتجسد كبرى معالمها في رغبة المال الأكيدة، وأولى ملامحها في النزوع نحو القوة الضارية. إن النزوع نحو الماديات في مسمى العلم، ومقتضاه، هو الذي يحجب الإنسان عن رؤية الحقائق بأرواحها، وأجرامها، وأشكالها، وألوانها، ويمنع ورود المعنى فيما هو موجود عن أداء دور الحركة في الكون، والطبيعة، والحياة. وعدم فهم ذلك، هو الذي يفضي بنا إلى عالم يرفع شعار المعرفة بحمولة الجهل. إذ هو أمل كل من رام حظوظه بأنجس السبل، وأنتن الوسائل. بل التسلق إلى المراتب العليا في السلم البشري، والاجتماعي، لا يتم في الغالب عند من ليس مناسبا لتلك المقامات إلا بإحداث هذه الطرق الفارغة من الأخلاق، والقيم. ولذا، يكون من لازم إعادة الاعتبار لدور العلم أن تكون له آداب تنجلي على الباطن، والظاهر. وإلا، ساند الظلم، والطغيان، وأعان على الفساد، والرداءة، وأقام في المجتمعات فواصل تمنع عن التصافي بين الأفراد، والتحابب بين الشعوب. ومن ثم، يصير العلم بفقدانه لدوره أمام ما يؤدي إليه المال من مركز، ورتب، غير مهيأ لامتلاك
|