في بداية القرن العشرين وأثر أندلاع الحرب العالمية الأولى وأنكاسار الدولة العثمانية التي كانت تمثل أخر تجربة للخلافة الإسلامية، وبأعتبارها شكل حقيقي مجسد لرؤية فرع (إسلامي) من فروع الفكرة التي أستولدها الواقع من الإسلام الرسالة خارج المنطقية العقلية، وأستجابة لضغط الواقع البيئي وأحكامه المادية المتجذرة فيه على الدين بعد مرحلة التشتت والتفرق، خرجت مجموعة كبيرة من الدول التي تعرف اليوم بالعالمين العربي والإسلامي من منظومة الحكم الخلافي، وهي محملة بإرث سلطوي ديكتاتوري متفرد بصناعة الرؤية وتنفيذها وثقافة أستبدادية أمتدت لأكثر من الف وثلاثمائة سنة متواصلة من الخلاف والأختلاف والتقاتل والقهر والأستلاب، لتواجه حضارة مادية جديدة بقوة لم تألفها من قبل بسلاحي النار والمال وأستخدام العلم والتقنية. والتي بدأت معها تلك البلدان والمجتمعات أشبه بقطة صغيرة أمام أسد متوحش وكلاهما يحمل في ذاتياته الواعية والعميقة فكرة الكراهية للأخر، كراهية مزمنة ذات الجذور الدينية المتأصلة وعيا وممارسة ونتائج الصراعات التاريخية الطويلة بين أتباع الأديان الإبراهيمية، هذا الواقع الجديد لم ينجح في جمع وجلوس الأطراف المتناقضة على مائدة الحوار في ظل عالم جديد على أنقاض عالم الحكم الثيوقراطي القديم كما يزعم البعض، عالم منطور يحمل قيم إنسانية وفكرية وفلسفات متعالية ومفاهيم أخرى عن الوجود وعن الإنسان، وعن رؤية العالم من خلال مفهوم المصلحة وقاعدة العيش المشترك في عالم ممتد لا حدود له إلا حدود القانون والحقوق. خرجت هذه الدول والمجتمعات من دهاليز الحكم الإسلامي العنصري في أداءه وجوهره لتقع فريسة حكم أستعماري أستحلالي لا يعبأ بالإنسان العربي والمسلم ويساهم في إنقاذه وإعادته للسيرورة البشرية، بل حاول بأقصى ما يمكن أن يستغل الواقع الجديد لبناء عالم ثنائي القطبية البشرية بين مستغلين وأستغلاليين وبين فاتحين وعبيد، لم يدرك الأستعمار الغربي حقيقة دور الدين كسلاح في مواجهة حالة الأحتلال والأستعمار الأجنبي ولم يعتمد سياسة مدنية توازن بين مصالح الشعوب المفتوحة أراضيها بالقوة وبين الفاتحين الجدد، هنا جمع الإسلام السياسي مبرراته ونهض بقوة ليقود المواجهة وينتصر بقوة النقطتين الأولى والثانية التي ذكرناهما في مقدمة البحث، مثالية عالية في المعالجة والنخبة القائدة التي لها ملامح الفضيلة والمثالية المطلقة. لم يكن هذا الخروج ناجز وحقيقي من ربقة الاستعمار الغربي ولم ينجز الإسلام السياسي مشروعه بالكامل الذي سرعان ما تبدل وتحول أمام مغريات وبرغماتية السلطة ومغانمها، وفي تحالف غير معلن بين المستعمر القديم والسلطوي الجديد تحولت عمليات التحرير والثورة إلى مجرد تغيير في عناوين وشكل السلطة الظاهري، وبقي الحنين إلى فكرة الخلافة والحكم المطلق، عزز الفكر الإسلاموي المنحاز للماضي في تبلور النزعة القومية التي شعرت فيها الشعوب إنها الملاذ الأمن لها والذي عده الكثير هو الطريق الأمثل للعودة للماضي المصور تأريخيا إنه النجاح الفريد للإسلام، فولد المد القومي من رشح المد الإسلامي كنقيض لمفهوم العنصرية العثمانية وتقليدا للقومية التي قادت الغرب إلى تحدي الخلافة وإسقاطها. ما لبث أن أشتد الصراع بين القوميين والإسلامين ليس على شكلية السلطة وطريقة الحكم فكلاهما أقصائي وعنصري، وكلاهما لا يؤمن بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، ولكن الصراع كان مفتعلا لإشغال الجماهير عن المأزق الفكري والحضاري المتمثل بعجز كلا الفكرتين من الأتيان بالحل، الفكر القومي لم يحمل مشروعا أقتصاديا محددا ولم يتبنى فلسفة أجتماعية للنهوض سوى شعارات وأهداف لم تنجح في تثبيت واقعها على الأرض، بسب سرعة تحولها من شعارات إلى قوانين متحجرة لم تعي أشتراطات التطور والملائمة مع الزمن، وكونها كانت أفكار حالمة أكثر من كونها مناهج واقعية، يشاركها في العلة رؤية العقيدة الإسلامية المطروحة كمشروع للحل وهي تحمل ذات التناقضات التي أطاحت بها في كل التجارب السابقة. في منتصف القرن الماضي ونتيجة للصراعات السياسية والأجتماعية بين القومية والمشروع الإسلامي وإنشغال المؤسسة السلطوية في تثبيت أركان حكمها، بعيدا عن مستلزمات البناء الأجتماعي الحقيقي والشامل، حدثت نكبة فلسطين في عام 1948 وكانت تتويجا لسلسة من النكبات والإنتكاسات المتلاحقة التي ضربت الواقع العربي في الصميم، أذهلت أنظمة الحكم ولم يعد لها مبرر تواجه به الجماهير، فعادت للتاريخ ولشعارات المواجهة وبناء منظومة جديدة لعلها تكون بديلا عن الحلول الواقعية للإشكالات الوجودية، رافق ذلك طغيان سلطوي في مواجهة النخبة المتنورة سياسيا وفكريا قادها الجناح العسكري من السلطة في تبادل للأدوار داخل المنظومة الفاسدة الحاكمة بنظرية الوكالة عن الله. نجح بعض اليسار السياسي العربي في قلب أنظمة الحكم وحاول اجنحة أخرى وفشلت وتدرعت بعض الأنظمة بالمؤسسة الاستعمارية وبتحالف معلن مع المؤسسة الدينية العتيدة، أنقسم المجتمع العربي والإسلامي عموما إلى معسكرين وأنتقل الصراع من داخل المجتمعات ليصبح أمتداده أوسع، بين معسكرات وتحالفات تغذيها السياسة والمصالح الفئوية الضيقة بدلا من المصالح الكبرى والأهداف الجامعة، أشتد الصراع وتداخل الخنادق وأصبح الخلاف والشقاق بين هذه المجتمعات والكتل الدولية سياسة يومية يدعمها الغرب الأستعماري ويغذيها لمصالح أستراتيجية وتعبويه تتعلق بالصراع الأساسي بين الشرق والغرب، صراع المصالح الدولية الكبرى أو ما يعرف بالحرب الباردة.
|