نقاش مفتوح حول اللبرالية واللبرالية الجديدة وواقع العراق؟ الحلقة الأولى: ما هي اللبرالية؟

 

كتب الزميل الدكتور بارق شبر نقداً موجهاً إلى الزميل الدكتور حيدر سعيد حول موقف الأخير من نقد فكر وممارسات النيوليبرالية في العراق والذي نشر في موقع العالم الذي نشر قبل ذاك مقال الدكتور حيدر سعيد، متهماً إياه وبعض المثقفين بأنهم لم يفهموا هذه المدرسة الفكرية بشكل صحيح وعلى هؤلاء دراستها، إذ يقول " لست بصدد الدفاع عن النيولبيرالية ولكني اعتقد بأنه ينبغي على بعض المثقفين العراقيين فهم أفكار المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية بشكل صحيح، سيما وان كانوا لم يتعمقوا في دراسة مبادئ الاقتصاد الكلي الحديث وسياساته المتعددة الجوانب وفي مقدمتها المالية والنقدية، بالتأكيد لا تعني المدرسة النيوليبرالية اضعاف الدولة او تهميشها كما يفترض الكاتب حيدر سعيد وإنما إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الانشطة الانتاجية والتي غالباً ما تتسم بانخفاض الكفاءة الاقتصادية وهدر الموارد، وهذا واضح في حالة العراق وفي وضع المؤسسات العامة المملوكة للدولة والتي تشكل عبأً كبيراً على الموازنة العامة".

ثم يورد الزميل نموذج العراق في عهد البعث ليبرهن على فشل مشاريع الدولة إذ كتب الزميل د، شبر ما يلي: " من الواضح ان كاتب المقال يخلط بين حجم الجهاز الاداري للدولة العراقية والذي هو متضخم ومترهل بجميع المقاييس وبين الوظيفة الاقتصادية للدولة والتي يجب ان تقتصر من منظور المدرسة النيولبيرالية على بناء وتطوير الاطر (المؤسسات) الملائمة والمساعدة على الانشطة الاقتصادية للقطاع الخاص بما في ذلك الطبقات الوسطى المنتجة وليس طبقة البيروقراطية الطفيلية التي تعيش على الريع النفطي من دون انتاج او خدمات ملموسة للمواطن العراقي، وتجدر الاشارة الى ان الطبقات الوسطى تلعب دوراً محورياً في اقتصادات الدول الرأسمالية والتي تتبنى فلسفة المدرسة النيوليبرالية، من ذلك يبدو لي ان استنتاج الكاتب بأن النيوليبرالية اضعفت الطبقات الوسطى في العراق بعيد جداً عن الواقع، ما حدث فعلاً في الواقع هو عكس ذلك، حيث ان الطبقات الوسطى في العراق وبمفهوم الكاتب المختزل على موظفين جهاز الدولة ازداد عددها الى اكثر من 3 مليون موظف اي ما يعادل حوالي 40% من قوة العمل في العراق، كما تحسن مدخولها بشكل واضح للعيان منذ التغيير في 2003،"

كما ترون فأن الدكتور شبر لا يريد أن يدافع عن النيوليبرالية ولا يرى أنها تريد إلغاء دور الدولة الاقتصادي أو تهميشه، وإنما "إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الأنشطة الانتاجية". [انتهى تعليق الزميل د، بارق شبر، الخبير الاقتصادي الدولي].

كم كان جديراً بالصديق الدكتور بارق شبر أن يرى في ما طرحه الزميل الدكتور حيدر سعيد اختلاف في وجهات النظر وليس "عدم فهم لنظرية اللبرالية الجديدة بشكل صحيح"، إذ أنه في هذا يجافي الواقع ومستوى معارف ووعي الدكتور حيدر سعيد. طبعاً ليس بودي أن أفقد التواضع وأقول للزميل د، شبر، يبدو لي أنت الذي لم تفهم طبيعة هذه المدرسة بكل أبعادها وخاصة الاجتماعية والسياسية والبيئة والعسكرية منها، إضافة إلى الاقتصادية، كما قال هو ذلك بحق جمهرة من الزملاء المثقفين العراقيين المطلعين جيداً على المدرسة اللبرالية واللبرالية الجديدة، بل أتمنى عليه أن يكون في المستقبل أكثر تواضعاً مع المثقفين الاقتصاديين العراقيين، فهم مثقفون حقاً ويدركون جيداً ما يكتبونه، وأن من المفيد للزميل نفسه إعادة النظر برأيه وموقفه من هذه النظرية الاقتصادية وأتمنى له الابتعاد عن محاولة الانسجام مع التيار الرأسمالي النيولبرالي المتوحش الذي ألحق ويلحق أفدح الأضرار بالاقتصاد العراقي وبالفئات الكادحة من المجتمع وخاصة تلك المنتجة للدخل القومي، المدرسة اللبرالية الجديدة، التي هي بالأساس ذات المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية اللبرالية القديمة التي ساد تطبيقها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى حلول الأزمة العالمية الأولى التي فرضت على الرأسماليين والمنظرين الاقتصاديين تعديل بعض أهم جوانبها برؤية كينزية، (جون مينارد كينز John Maynard Keynes، اقتصادي إنجليزي 1883 - 1946)، لدور الدولة وقضايا التشغيل ودور النقود والفائدة، والتي استمرت طوال الفترة الواقعة بين نهاية الكساد العظيم، والتي تجلت حينذاك في سياسة العهد الجديد New Deal لروزفلت، وبين تبني اللبرالية الجديدة في الستينيات من القرن الماضي، التي اقترنت بالتخلي عن النظرية الكينزية والعودة إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ذاتها مع بعض الرتوشات التي زادتها قسوة وظلماً وجوراً على الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل وزادتها شدة في ممارسة الاستغلال على المنتجين الكادحين من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والعسكرية، والتي تجلت بشكل خاص في سياسات رونالد ريگن وإليزابيث تاتچر، وقبل ذاك في سياسات الجنرال أوغستينو بينوشيت في شيلي بعد الانقلاب على حكومة سلفادور الليندي في العام 1973، وفي سياسات المكسيك وأزمتها المالية المدمرة، ومن ثم في سياسات جورج بوش الأب وجورج دبليو بوش الابن وبشكل أخص أضرارها الفادحة على شعوب البلدان النامية في ظل سياسات العولمة التي تفاعلت مع سياسات اللبرالية الجديدة في الولايات المتحدة والعديد من الدول الرأسمالية الأخرى، 

والآن من المفيد أن نتبين بوضوح ما هي اللبرالية وما هو الفرق بينها وبين اللبرالية الجديدة، ثم نتطرق إلى مخاطر اللبرالية الجديدة على اقتصاديات العراق بشكل ملموس، وما هو مفهوم سياسة السوق الاجتماعية التي هي من حيث المبدأ اشتقاق نمساوي-ألماني من نظرية اللبرالية الجديدة التي طرحها بشكل خاص فون هايك والتي مارسها بحدود معينة المستشار الألماني السابق لودفيگ ايرهارد في ألمانيا التي هي تختلف عن مدرسة "أولاد شيكاغو" ميلر وفوكسلي الأكثر تشدداً. تؤكد النظرية اللبرالية الكلاسيكية على ثلاث مسائل جوهرية، كما وضعها أدم سميث (1723 - 1790) باعتباره أول من صاغ مبادئ الليبرالية الاقتصادية، وهي:

حرية التجارة 2، حرية كاملة لكل أفراد المجتمع في نشاطهم الاقتصادي، 3، الالتزام بنظام السوق الحر. ويفترض الالتزام بهذه المبادئ من أجل تحقيق الرخاء والرفاهية.

ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني الكثير من النتائج في ضوء التجارب الفعلية لسياسات اللبرالية في العالم الرأسمالي المتقدم والتي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:

سيادة الملكية الفردية على وسائل الإنتاج، وخاصة رأس المال.

انقسام المجتمع إلى طبقة مالكة لوسائل الإنتاج وطبقة غير مالكة لوسائل الإنتاج بل مالكة لقوة عملها التي هي مجبرة على تبيعها في سوق العمل، رغم ما يبدو من حقها في بيعها أو عدم بيعها والموت جوعاً.

تحقيق أقصى الأرباح الممكنة عند توزيع الدخل القومي بين العمل ورأس المال، بين الأجر وفائض القيمة أو الربح.

حرية التجارة ورفض جميع أشكال القيود.

ممارسة سياسة مالية ونقدية تتناغم مع الأهداف الاقتصادية للرأسمالية، إذ أن السياسات المالية والنقدية هي الأدوات التنفيذية للسياسة الاقتصادية.

عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وما عليها إلا العمل في مجال الرقابة العامة والدفاع عن هذا النظام وحمايته وإصدار التشريعات التي تساهم في استمراره وتطبيق القوانين ضد من يتجاوز على هذا النظام ويطالب بتغييره.

عدم الاهتمام بالمسائل الاجتماعية التي تمس قوة العمل وسبل تجديدها وإعادة إنتاجها.

8. الالتزام بحرية حركة السوق وفعل قوانينه بالنسبة لرأس المال والعمل.

9. عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو الأجور أو ساعات العمل.

وتقدم لنا الدراسات الغنية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين صورة حية وواقعية عن حياة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة حينذاك، وبشكل خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ،،، وغيرها، حيث تجلى في بشاعة وبؤس حياة ومعيشة وشروط عمل الطبقة العاملة والكادحين من جهة والاستغلال البشع الذي كانت تمارسه الطبقة الرأسمالية التي كانت تجد الدعم والحماية من جانب الدولة والتي أطلق فلاديمير إيليچ إليانوف لينين على الحياة الفعلية وانقسام المجتمع البريطاني إلى مجتمعين أو إلى عالمين مختلفين، إلى طبقتين، عالم وطبقة الأغنياء مالكي وسائل الإنتاج، وعالم الكادحين الفقراء المنتجين للخيرات المادية والمالكين لقوة عملهم الفكرية والجسدية، وعلينا أن نتذكر الأسباب التي دعت العمال في الولايات المتحدة إعلان الإضراب في الولايات المتحدة في العام 1886 والذي أقر في الأممية الاشتراكية الثانية في العام 1889 باعتباره يوماً عالمياً لتوحيد لنضال الطبقة العاملة في سائر أرجاء العالم، وكيف جوبه نضال عمال أمريكا من جانب الشرطة وكاسري الإضرابات حينذاك، ويمكن العودة لكتابات ماركس وإنجلز، على سبيل المثال لا الحصر، للتعرف الدقيق على حياة عمال المصانع في بريطانيا، ومنها مانشستر، لنأخذ صورة حقيقية عن تلك الفترة.

لقد أدى تطبيق النظرية اللبرالية الكلاسيكية إلى تعميق الفقر وتوسيع قاعدته وتوسيع الفجوة الطبقية بين المنتجين والرأسماليين ولأنه أهمل كلية الجانب الاجتماعي ودور الدولة الاقتصادي الذي يفترض أن يسهم في تعديل الكثير من قوى السوق الحر، أو قوانين السوق الرأسمالية أو آلية حركة قوانين السوق الحر غير المقيدة، في حين يدعي آرثر لويس (1915-1991) أن العامل الاجتماعي لتعديل البرامج التي تهدف إلى تقليص الفقر وعدم المساواة يجب أن ينبع من السوق بدلاً من أن يأتي من خلال تدخل الدولة، وهذا هو الخط العام للبرالية الكلاسيكية.

إن فشل نظرية اللبرالية الكلاسيكية في مواجهة أزماتها الدورية وأزمتها العامة التي حصلت في فترة الكساد العظيم (1929-1932) قد دفع بمنظري السوق الحر أن يجروا تعديلات مهمة على بعض آليات وأدوات عمل الرأسمالية والتي بلورها بشكل خاص كينز، ولكن لم تستمر هذه الفترة طويلاً حتى عاد منظرو الرأسمالية إلى اللبرالية الكلاسيكية محاولين تجديدها بإضافات على النظرية وممارستها، ولعبت المنظمات المالية والنقدية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة دورها في هذا المجال من خلال سياساتها المالية والنقدية، سياسات الإقراض للدول النامية بفرض شروط اللبرالية الجديدة على هذه الدول ومنها برنامجها المشهور تحت عنوان "سياسة الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي"، التي سنأتي على هذا البرنامج في حلقة لاحقة.

ولا بد من ملاحظة أن تطور وتطبيق هذه النظرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد اقترن بالهيمنة الاستعمارية القاسية جداً لبعض الدول الاستعمارية على مناطق واسعة من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من أوروبا والتي عانت من الاستغلال البشع لشعوبها واستثمار مواردها الأولية على حساب فقر وفاقة وتجويع هذه الشعوب، وخلال هذه الفترة أيضاً انفجرت الكثير من الثورات الاجتماعية ضد الرأسمالية وبقايا العاقات الإقطاعية وانتصرت ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا القيصرية، كما فجرت الدول الاستعمارية الكثير من الحروب العالمية والإقليمية وبشكل خاص الحربين العالميتين الأولى والثانية لأهداف استعمارية استغلالية، 

لا شك في أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، وحاملها الطبقة البرجوازية، كانت الأداة التي أمكن بها التخلص من العلاقات الإنتاجية الإقطاعية ومن الطبقة الإقطاعية المالكة للأرض والفلاحين الأقنان، وهي خطوة كبيرة على طريق تقدم المجتمع البشري، رغم أن كلا العلاقتين الإنتاجيتين استغلاليتان.

 

الحلقة الثانية

ما هي الليبرالية الجديدة؟

أعطى انتصار التحالف الدولي في الحرب العالمية الثانية على دول المحور، ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، التي كانت تهدف إلى الهيمنة على مناطق كثيرة من العالم وإعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري القديم لصالحها وانتقاماً لخسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى التي بدأت الحرب الجديدة، زخماً جديداً وكبيراً لحركات التحرر الوطني في المناطق المستعمرة والتابعة في كل من آسيا وأفريقيا، إضافة إلى تنشيط جديد للحركات الديمقراطية والتقدمية في أمريكا اللاتينية، وقد وجدت حركات التحرر الوطني دعماً وتأييداً كبيرين من جانب الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية، التي كانت قد تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وشكلت سوية المعسكر الاشتراكي كنتيجة من نتائج تلك الحرب، وتحررت الكثير من مناطق العالم من الهيمنة الاستعمارية المباشرة وشكلت دولها الوطنية المستقلة ودخلت في عضوية هيئة الأمم المتحدة التي كانت قد تشكلت لتوها لتحل عملياً محل عصبة الأمم، وتلقى الاستعمار القديم الذي استند إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ضربات موجعة وسريعة خلال العقدين الخامس والسادس حتى منتصف السابع تقريباً من القرن الماضي، مما دفع بهذه الدول إلى التفكير بأساليب وأدوات جديدة لمواصلة هيمنتها واستغلالها لشعوب وثروات تلك البلدان الحديثة التكوين، كما لم تستطع المدرسة الكينزية إنقاذ الرأسمالية من أزماتها الدورية أو المظاهر الجدية التي برزتوشكلت بديايات أزمة هيكلية طويلة الأمد للرأسمالية على الصعيد العالمي، والتي أطلق عليها بـ “الموجة الطويلة” كما سميت بـ “موجات كوندراتيف” نسبة إلى الاقتصادي الروسي نيكولاي كوندراتيف Nikolai Kondratieff (1892-1938) الذي اكتشفها والذي صدر بحقه قرار الإعدام رمياً بالرصاص ونفذ فيه في العام 1938 على أيدي أجهزة أمن ستالين القمعية في إطار حملة “التطهير” الكبرى التي تعرض لها الكثير من الشيوعيين والمثقفين الروس المعارضين لسياسات جوزيف ستالين حينذاك، علماً بأنه كان من مؤيدي سياسة لينين التي أطلق عليها بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) التي بدأ بها في العام 1921، وتوقفت مع صعود ستالين إلى قيادة الحزب والدولة حتى قبل وفاة لينين في العام 1924،

لقد دفعت هذه الظواهر الجديدة بمنظري الرأسمالية للعودة والأخذ بمبادئ نظرية اللبرالية الكلاسيكية ضاربين عرض الحائط نصائح وسياسات كينز ومضيفين إليها بعض الرتوشات والسياسات مما سمح لهم بتسميتها بـ “النيوليبرالية” أو “اللبرالية الجديدة”، لقد بدأ منظرو الرأسمالية بالعمل منذ الستينات، رغم بروز بعض هذه الأفكار في الثلاثينات من القرن الماضي بالارتباط مع الكساد الأعظم حيث برزت النيوليبرالية من جهة، والنظرية الكينزية من جهة أخرى، ولكن الأولى لم تستطع فرض نفسها في حينها بل أخذ العالم الرأسمالي بنظرية كينز، وبقيت الأولى جنينية تبحث عن فرصة مناسبة للظهور إلى أن تبلورت أكثر فأكثر في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بعد أن بدا لاقتصاديي وسياسي الدول الرأسمالية المتقدمة بأن الكينزية لم تعد مناسبة لتحقيق المزيد من الأرباح التي كانوا يتوقعونها منها، فانتعشت أفكار اللبرالية الجديدة من جديد باعتبارها معارضة للكينزية مع بروز أزمة الدولة السوفييتية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الماضي ثم تسارعت مع سقوط الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان “الاشتراكية” في نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، وقد اقترن ذلك بانتشار سريع لفكر وممارسات العولمة الرأسمالية واستثمار ذلك من أتباع هذه النظرية لصالح الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى على نحو خاص، ولكن بشكل خاص لمراكزها الثلاثة: الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية أو الاتحاد الأوروبي واليابان من خلال ممارسة سياسات عولمية شديدة التطرف والاستغلال، فما هو جوهر هذه النظرية الاقتصادية (القديمة) الجديدة التي يطلق عليها أحياناً بالنظرية الكلاسيكية الجديدة   neoclassic؟

اللبرالية الجديدة شارع عريض للفكر البرجوازي في الدول الرأسمالية المتقدمة في مرحلة العولمة، إذ برز فيها العديد من الاتجاهات المتقاربة طبعاً مع وجود بعض الاختلافات، وقد لعب الصراع الفكري والسياسي والعملي مع الاتحاد السوفييتي دوره البارز في سرعة نهوض هذه النظرية، وبشكل خاص المدرسة الألمانية التي أطلق عليها أيضاً بـ Ordoliberalismus وهي التي سميت أيضاً بـ Soziale Marktwirtschaft  أي اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي بدا منظروه يسعون إلى تخفيف الصراع والنزاع بين العمل ورأس المال من خلال جملة من القرارات الإدارية والقوانين التي تضعها الدولة، أي محاولة السيطرة على الصراع الطبقي وتقليص النزاعات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال في مرحلة الصراع والحرب الباردة مع المعسكر “الاشتراكي”،

نحن أمام مدرستين أساسيتين أنبثقتا عن المدرسة الأنگلوسكسونية وهما: (مدرسة شيكاغو) كما يطلق عليها أحياناً (أولاد شيكاغو) ومدرسة فيينا أو النمساوية – الألمانية، وهي كلها تنطلق من حيث المبدأ من القاعدة الأساسية أو المبادئ المتحكمة باللبرالية والتي أشرت إليها في الحلقة السابقة، NÖRR، Knut Wolfgang/STARBATTY، Joachim (Hg،) ]

1999: Soll und Haben – 50 Jahre Soziale Marktwirtschaft، Marktwirtschaftliche Reformpolitik، Schriftenreihe der Aktionsgemeinschaft Soziale Marktwirtschaft، N،F، Stuttgart، S،3-5،[

كان أحد نماذج مدرسة شيكاغو المتشددة دولة شيلي في عهد الدكتاتور أوغستينو بينو شيت، في حين كان النموذج الألماني هو الأقل قسوة،

ومن الجدير بالذكر أن اللبرالية الجديدة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، كما يشاع في غالب الأحيان، بل تشمل الجوانب الفكرية والاجتماعية والنفسية والسياسية والعسكرية والبيئية التي كانت تتجلى بشكل صارخ في سياسات رونالد ريگن في الولايات المتحدة الأمريكية، ومارگريت تاتچر في بريطانيا، وهيلموت كول في ألمانيا وبينوشيت في شيلي على سبيل المثال لا الحصر، ومن ثم اتخذت مسارها الصارخ في سياسات بوش الأب والابن على حد سواء،

لخص الدكتور أشرف منصور في مقال له اللبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية المتقدمة على النحو التالي: ” … ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني، و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ “دعه يعمل” Laissez Faire، [راجع: أشرف منصور، الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي، موقع الحوار المتمدن، العدد 1787 بتاريخ 6/1/2007،]

ويفترض هنا القول بأن اللبرالية الجديدة تدعو من منطلقها الإيديولوجي البحت إلى الحرية المطلقة للفرد، والمساواة التامة أمام القانون الذي يقود تلقائياً، كما ترى، إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وقصر نشاط الحكومة على الحد الأدنى من المهمات، إذ يفترض أن يقتصر دورها على ضمان تكافؤ الفرص، حماية الفرد، منع التمييز، وضمان الشروط الضرورية لنجاح اقتصاد السوق الحر، وقد اعتقدت مدرسة أولاد شيكاغو (Chicago Boys  (، التي تبنت وعملت على تطبيق اللبرالية الجديدة في شيلي، إلى أن الدولة الاستبدادية أو التسلطية هي وحدها القادرة على تأمين حرية الفرد المطلقة وحرية السوق، (راجع: هريرت شوي، الليبرالية الجديدة : الأسس النظرية والسياسية، من كتاب له بعنوان:

Herbert Shui، Neoliberalismus: politische und theoretische Grundlagen Wollt Ihr den totalen Markt? Der Neoliberalismus und die extreme Rechte، München 1997،

وبدا هذا النهج واضحاً مع انهيار المعسكر الاشتراكي وغياب المنافسة السياسة والاقتصادية بين المعسكرين وتوقف الحرب الباردة مؤقتاً، كما يبدو، إذ اتخذت سياسة اللبرالية الجديدة مساراً رأسمالياً صارخاً أو ما يطلق عليه أحياناً من جانب النقابات(Pur Kapitalismus) في محاولة جادة لانتزاع كل المكاسب الاجتماعية والسياسية التي حققتها الطبقة العاملة وفئات المثقفين والفلاحين خلال العقود الثلاثة التي سبقت سقوط المعسكر الاشتراكي، وبدأ الجو الاجتماعي بالبرود والتوتر، وبدأ الرأسماليون الكبار وممثلو الشركات الاحتكارية والمتعددة الجنسية يرفضون المساومة التي كانت قد برزت في تلك العقود بين العمل ورأس المال وراحوا يشددون بالضغط على جملة من الأمور منها على سبيل المثال لا الحصر: الحد الأدنى للأجور، العمل من أجل العودة إلى ستة أيام عمل في الأسبوع، زيادة ساعات العمل اليومية، عدم دفع أجور عن ساعات العمل الإضافية، تقليص المكاسب الاجتماعية وزيادة الضريبة غير المباشرة المفروضة على السلع والخدمات وتقليص الضرائب عن الشركات وأصحاب رؤوس الأموال والأرباح العالية، ثم الضغط على دور النقابات في الدفاع عن مصالح العمال والموظفين والمستخدمين، وفرض تعريفات إضافية على الأدوية والطبابة والمعالجة الطبية في المستشفيات والمصحات، كما اتسعت البطالة وازدادت نسبة عدد العاطلين عن العمل إلى عدد القادرين على العمل وتقليص مقدار ما يدفع من تعويض شهري للعاطلين عن العمل أو لمستحقي المساعدة الاجتماعية التي تقدم للمعوزين شهرياً…الخ، وتقدم ألمانيا والكثير من دول الاتحاد الأوروبي نماذج صارخة في هذا الصدد، ولم يكن هذا وحده بل جرت عملية خصخصة للمشاريع الاقتصادية التي كانت بيد الدولة وكانت ناجحة وتحقق عوائد مالية جيدة لخزينة الدولة، وكانت في الوقت نفسه عوناً في إنتاجها وأسعارها للفئات الفقيرة والكادحة، سواء أكان في مجال الكهرباء أو الماء أو النقل أو الإنتاج السلعي وغيرها من مشاريع الخدمات العامة والإنتاجية، كما تراجعت أو انتهت مشاركة الدولة في المشاريع الاقتصادية الإنتاجية في عدد غير قليل من المجالات الاقتصادية والخدمية، إذ أن فلسفة اللبرالية الجديدة هي إبعاد الدولة عن كل نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي وجعلها تلعب دوراً رقابياً وإدارياً عاماً، وحتى هذا الدور لم تقم به كما يجب، كما رأينا في أزمة العقارات والبنوك في الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الأوروبية وفي دول جنوب شرق آسيا أو النمور الثمانية أو في أمريكا اللاتينية، وكذلك تفاقم عمليات المضاربات المالية الهائلة في العديد من البورصات التي أدت إلى انهيارات كثيرة في الكثير من دول العالم في الثمانينات والتسعينات وفي الآونة الأخيرة أيضاً، إن اللبرالية الجديدة تستخدم السياسات المالية والنقدية بما يخدم مصالح رأس المال وليست في صالح الكادحين والمنتجين الفعليين للثروة الوطنية وترمي بثقل المكاسب التي تقدم للشركات الكبرى البنوك وغيرها على عاتق دافعي الضرائب، كما حصل في محاولة معالجة الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة التي لا تزال مستمرة وستبقى لفترة طويلة، والإيذاء الفعلي لهذه الأزمة لا يشمل المنتجين والفقراء والعاطلين عن العمل في الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة حسب، بل وترهق كثيراً كاهل شعوب الدول النامية، وخاصة الفقيرة منها، إن بلداً مثل ألمانيا، باعتبارها واحدة من أغنى الدول الرأسمالية المتقدمة، يوجد فيه الكثير من الأطفال الفقراء، فوفق تقرير نشر في DW دويتشة فيله جاء فيه ما يلي: الجدير بالذكر أن عدد الأطفال الذي يعانون من الفقر يتزايد في ألمانيا سنة بعد أخرى، وتقدر كل من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) والاتحاد الألماني لحماية الأطفال أن 2،5 مليون طفل يعيشون في ألمانيا في ظروف مالية واجتماعية صعبة، أو ما يسمى بالفقر النسبي، وهو مصطلح ينطبق على الحالات التي يكون فيها معدل دخل عائلة ما أقل من نصف متوسط الدخل العام”، كما جاء في الدارسة التي قامت بها مؤسسة هانز بوكلر، المؤسسة التي تعمل بالتعاون مع النقابات العمالية في ألمانيا أوضحت أن هناك نحو 7،4 مليون موظف يحصلون على مساعدات من الدولة لانخفاض دخولهم، وهو عدد أقل من عدد الموظفين الذين يحق لهم الحصول على المساعدات وهو 10 مليون موظف، واتهمت المؤسسة الحكومة الألمانية بأنها لا تعلن إلا نصف الحقائق، وأنها بذلك تتسبب في أن تعيش ملايين العائلات في حالة من الفقر ويعاني معهم أطفالهم، [راجع موقع DW بتاريخ 7/2/2010 مقال تحت عنوان “رعاية الأطفال أولى ضحايا ظاهرة الفقر في ألمانيا”، رغم أن ألمانيا تمارس ما يسمى بسياسة السوق الاجتماعي التي بدأ نسف الجانب الاجتماعي منها تدريجاً مع سقوط الاتحاد السوفييتي على نحو خاص، كما بدأت الحياة الديمقراطية العامة والاستفتاءات الشعبية بالتقلص لصالح التمثيل البرلماني حيث بدأت الفجوة تتسع بين النواب والمجتمع، كما بدأت مصداقية السياسيين والسياسة بالهبوط الشديدين.

إن السياسات التي تمارسها المراكز الأساسية للدول الرأسمالية الصناعية ومؤسساتها المالية والنقدية والتجارية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية) موجهة بالأساس ضد اقتصاديات الدول النامية ولصالح الدول المتقدمة، ويمكن للتقارير السنوية لهذه المؤسسات أن تكشف عن حقيقة تلك الأوضاع وحقيقة زيادة واتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية وبين الأغنياء والفقراء واتساع قاعدة الفقراء والجياع في العالم، والأهم من كل ذلك هو اتساع الفجوة في مجال العلم والتعليم والبحث العلمي ومستوى تطور القوى المنتجة والتقنيات المستخدمة في الإنتاج وحجم الإنتاج الإجمالي ومعدلات الإنتاجية السنوية ومعدل حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي أو الدخل القومي.

إن سياسة اللبرالية الجديدة التي التزمت بها قوى المحافظين الجدد ومارستها بإصرار وتشديد تجلت في الجانب السياسي، أي في سياسة توجيه ما يسمى بـ “الضربات الاستباقية” والعقوبات الردعية والمقاطعة والحصار الاقتصادي بدلاً من المفاوضات والتحري عن حلول سلمية تفاوضية، فالقوة العسكرية هي اللغة المفضلة والعامل الحاسم في حل الخلافات من وجهة نظر اللبرالية الجديدة وقوى المحافظين الجدد، وهو الدور الذي تعطيه هذه النظرية للدولة على نحو خاص، وكان العقدان التاسع والأخير من القرن العشرين وكذلك الفترة الأولى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نموذجاً لممارسة هذه السياسة المتوحشة،

يشير الكاتبان “تيمونز روبيرتس” و “أيمي هايت” في كتابهما المشترك الموسوم “من الحداثة إلى العولمة” بشأن التوجه الشديد في أمريكا اللاتينية للأخذ بنظرية السوق التي أطلق عليها بسياسة “التعديل اللبرالي الجديد” بصواب إلى أن الوصفة قد تكونت من “سبع خطوات أساسية:

1 – انفتاح من جانب واحد على التجارة الخارجية.

2 – خصخصة شديدة لمشاريع الدولة.

3 – تحرير السلع والخدمات وأسواق العمل من القيود.

4 – تحرير السوق الرأسمالي مع خصخصة شديدة لأرصدة المعاشات الحكومية للتقاعد.

5 – تعديل مالي مرتكز على تقليص شديد للنفقات العامة.

6 – إعادة تشكيل وتخفيض معدل البرامج الاجتماعية المدعومة من قبل الحكومة والتركيز على خطط تعويضية للفئات الأكثر حاجة.

7 – نهاية “السياسة الصناعية” وأي شكل آخر لرأسمالية الدولة، والتركيز على الإدارة الاقتصادية الضخمة، (دياز 1996 Diaz)” [راجع: “تيمونز روبيرتس” و “أيمي هايت، “من الحداثة إلى العولمة” ترجمة سمر الشيشكلي، سلسلة عالم المعرفة 310، أيلول سبتمبر 2004، ص 263.

ويستكمل الباحثان الفكرة فيشيران إلى التغييرات الاجتماعية التي احدثتها هذه الوصفة النيوليبرالية كما يلي:

1 – إعادة تقييم للربح الرأسمالي كأمر مرغوب به ومتطابق ومنسجم مع المصالح الوطنية.

2 – تلازم التقليل من قيمة العمل التنظيمي والصناعة المحلية على أنها “ملاجئ حماية مستأجرة” معادية للكفاءة الاقتصادية.

3 – دعم الاستثمارات الأجنبية كضرورة من أجل تنمية مدعومة ومحمية.

4 – تجديد الثقة بالسوق عبر تقليل التأثيرات من أجل تقليص اللامساواة الاجتماعية.

5 – إعادة توجيه مصادر الفخر والثقة الوطنية بعيداً عن مقاومة التسلط الأجنبي بالتوجه نحو معاودة الدخول بتأهيل جيد في مجالات التجارة العالمية (كاسلز ولاسيرنا 1989و ايفانو 1995، مالك مايكل 1995)”. [نفس المصدر السابق].

لا شك في أن انتهاج هذه السياسة أمكن بها السيطرة على بعض حالات التضخم والارتفاع الشديد في الأسعار، ولكن هذه “الوصفة السحرية!” عجزت عن تحقيق التنمية المنشودة والتشغيل ومكافحة البطالة ومكافحة الفقر والحرمان في تلك الدول التي مارست هذه السياسة بل اتسعت كل تلك المظاهر السلبية فيها، كما عجزت عن إيقاف أزماتها ومنها الأزمات المالية، ومنها ما حصل في المكسيك مثلاً، رغم أن النتائج كانت متباينة نسبياً في هذه البلدان، ولكنها على العموم لم تكن إيجابية، كما إنها حققت بالأساس، وهذا هو الجوهري في اللبرالية الجديدة، الكثير من الأرباح للرأسمال العالمي وللشركات الرأسمالية الاحتكارية المتعددة الجنسية وللبرجوازية الكبيرة في كل دولة من هذه الدول.

إن سياسة اللبرالية الجديدة الموجهة للدول النامية في المجال الاقتصادي تتجلى في وصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تسعى إلى فرضها على جميع الدول النامية على حد سواء والموسومة بـ “الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي”، فماذا يعني ذلك بالنسبة للكثير جداً من الدول النامية؟ هذا ما سنعالجه في الحلقة الثالثة.

 

الحلقة الثالثة

ما هي مضامين برنامج “الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي”؟

وماذا يراد منه للدول النامية؟

حين انتصرت ثورة تموز 1958 في العراق وثورة كوبا في العام 1959، وقبل ذاك كانت قد برزت حركة الحياد الإيجابي ومن ثم دول عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ في إندونيسيا، ومعركة تأميم قناة السويس والعدواني الثلاثي على مصر، وتصاعد حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وتحقيقها نجاحات متميزة، برز اتجاه واضح صوب كسر الطوق المضروب على البلدان النامية، أي على الدول المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة، في علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية وتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية معها، كما برز اتجاه صوب الأخذ من بعض تجارب هذه الدول في مجالات القطاع العام والتصنيع والإصلاح الزراعي …الخ، يضاف إلى ذلك بروز حركة تضامن بين قوى وشعوب ودول حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث.

شكل هذا الاتجاه الجديد خطراً جدياً على العلاقات والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الرأسمالية الأكثر تقدماً، إذ بدأ يعزز دور وتأثير قوى دول عدم الانحياز واتساع تعاملها مع الدول الاشتراكية على حساب العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى، كما أضاف وزناً جديداً في الحرب الباردة لصالح دول المعسكر الاشتراكي حينذاك، مما دفع بمنظري هذه الدول والعاملين منهم في الحقول والعلاقات الاقتصادية الدولية إلى التفكير بوضع أسس جديدة للعمل والتعامل مع الدول النامية والتي تبلورت باتجاهات خمسة، وهي:

تقديم مساعدات مالية إلى الدول النامية في إطار ما أطلق عليه بمشروع التنمية العالمية، وقدرت تلك المساعدات بحدود 0،7 % من إجمالي الناتج المحلي للدول الغنية.

تقديم المزيد من القروض الميسرة إلى الدول النامية لشدها اقتصادياً إليها وزيادة تأثيرها في وجهة تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

ربط تقديم تلك القروض بشروط اقتصادية وسياسية واضحة لا تقبل الخطأ في ما تسعى إليه.

إبعاد هذه البلدان قدر الإمكان عن الأخذ ببعض جوانب النموذج السوفييتي في التنمية ودفعها لانتهاج سياسة السوق الحر، إضافة إلى كسبها إلى جانبها في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.

العمل من أجل تفتيت قوى حركة التحرر الوطني باتجاهين ملموسين، وهما:

أ. رفع شعار محاربة الشيوعية وتعبئة القوى حوله، باعتباره الخطر المباشر على الدين وعلى القيم والتقاليد السائدة في تلك المجتمعات، وكانت تهمة الشيوعية تلصق بكل الوطنيين الديمقراطيين والتقدميين واليساريين من غير الشيوعيين أيضاً.

ب. تشجيع نشاطات القوى القومية اليمينية وقوى الإسلام السياسية المناهضة للشيوعية لتعزيز مواقعها الاجتماعية والسياسية وتبني نهجها الاقتصادي ومواقفها السياسية، في مقابل تقديم دعم متنوع لها، وكان هذا يتم في العالمين العربي والإسلامي، في حين كانت تستخدم أدوات دينية أخرى في العالم غير الإسلامي.

وانسجاماً مع هذا التوجه وتأكيداً له صدر في العام 1969 التقرير الذي أعده لستر بيرسون، رئيس وزراء كندا الأسبق، تحت عنوان “شركاء في التنمية Partners in Development”، فتبنته الأمم المتحدة وتضمن قاعدة اقتطاع 0،7 % من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الغنية لصالح التنمية العالمية في الدول النامية لعقد السبعينات من القرن العشرين.

وقد اقترن هذه التوجه بعدة ظواهر مهمة، وهي:

تفاقم غير منظور للرأي العام العالمي، ولكنه كان ملموساً للخبراء الدوليين في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الاشتراكية منذ منتصف السبعينات، خاصة وأن الحرب الباردة كانت تستنزف إمكانيات الدول الاشتراكية مالياً من خلال توجيه الكثير من الموارد المالية والتقنيات الحديثة صوب الصناعة العسكرية وإهمال تحديث القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والحياة الاجتماعية المدنية، إضافة إلى تنامي علاقات التبادل التجاري في مجال السلاح على الجوانب الاقتصادية الأخرى مع الدول النامية، ويمكن التعرف على  ذلك من خلال كتابات الكاتب الأمريكي ألفين توفلر، في كتابه (الموجة الثالثة) الصادر في العام 1980، وكتابات زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في فترة رئاسة جيمي كارتر، على سبيل المثال لا الحصر.

تراجع جدي في المضمون التقدمي والديمقراطي لحركة التحرر الوطني في غالبية الدول النامية، والتي تجلت في بروز نظم استبدادية وشمولية مما أضعف التفاعل بين هذه النظم ومجتمعاتها وقاد تدريجاً إلى عزلتها بسبب إهمالها لمصالح شعوبها ايضاً.

ونتيجة لسيادة مثل تلك النظم المستبدة، سواء أكانت تحت تسميات مغرية ولكنها مضببه، مثل “الدول ذات التوجه الاشتراكي”، أم “الدول ذات التطور اللارأسمالي”، أم “حكومات البرجوازية الصغيرة الثورية”، فإنها فشلت في تحقيق عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وأساءت لدور وسمعة قطاع الدولة وموارد البلاد وتوجهاتها الخاطئة نحو التسلح، مما جعل تلك النظم مرفوضة من جانب شعوب بلدانها.

تشديد الهجوم الرأسمالي وتقديم نماذج رأسمالية ناجحة في عدد من الدول في جنوب شرق آسيا والتي أطلق عليها بالنمور الأربعة ثم النمور الثمانية، وقاد هذا الواقع إلى اختلال في العلاقة بين الدول الاشتراكية والدول النامية لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة، ر غم أن تلك النجاحات جاءت على حساب الفئات الأكثر فقراً وكدحاً.

وقد أعطى هذا الواقع الفرصة للمؤسسات المالية والتجارية الدولية لتلعب دورها في طرح أو استكمال المشروع السابق الذي طرحه لستر بيرسون بمشروع جديد من جانب جون ويليمسون نائب رئيس البنك الدولي في العام 1989، أي بعد عشرين عاماً عل المشروع الأول، أطلق عليه وثيقة “توافق واشنطن” (Washington Consenus) التي ادعى فيها أنها يمكن أن ” تطبق على أي فترة تاريخية ، وأي اقتصاد ، وأي قارة ، وباستهداف التوصل بأسرع ما يمكن إلى تصفية أي هيئة أو تنظيم من جانب الدولة أو غيرها ، والتحرير الأكمل بأسرع ما يمكن لكل الأسواق، الثروات، رؤوس الأموال، الخدمات، البراءات، ،، الخ”، وفي النهاية إقامة حكم كسوق بلا دولة، وسوق عالمي موحد ومنظم ذاتياً تماماً “. [راجع: عبد المجيد راشد، سياسة الإصلاح الاقتصادي و فخ العولمة المتوحشة، الحوار المتمدن، العدد: 1744 في 24/11/2006].

ولكن ما هو مضمون هذه الوثيقة، وبتعبير أدق ما هي المبادئ التي اعتمدتها هذه الوثيقة الأخيرة للتعامل مع الدول النامية وتقديم القروض المالية لها؟ إنها جاءت على النحو التالي:

” 1 ـ من الضروري – في كل بلد مدين – البدء في إصلاح المالية العامة وفق معيارين: تخفيض العبء الضريبي على الدخول الأكثر ارتفاعاً، لحفز الأغنياء على القيام باستثمار إنتاجي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وبوضوح، منع الإعفاءات الضريبية للأفقر، من أجل زيادة مقدار الضريبة.

2 ـ أسرع وأكمل تحرير ممكن للأسواق المالية.

3 ـ ضمان المساواة في المعاملة بين الاستثمارات الوطنية والاستثمارات الأجنبية من أجل زيادة مقدار – وبالتالي ضمان – هذه الأخيرة.

4 ـ تصفية القطاع العام بقدر الإمكان، وتخصص المنشآت التي تملكها الدولة أو هيئة شبيهة بالدولة.

5 ـ أقصي حد من إلغاء الضوابط في اقتصاد البلد، من أجل ضمان الفعل الحر للمنافسة بين مختلف القوي الاقتصادية الموجودة.

6 ـ تعزيز حماية الملكية الخاصة.

7ـ تشجيع تحرير المبادلات بأسرع الوسائل الممكنة، بهدف تخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 10 في المائة كل سنة،

8 ـ لما كانت التجارة الحرة تتقدم بواسطة الصادرات فينبغي في المقام الأول تشجيع تنمية تلك القطاعات الاقتصادية القادرة على تصدير منتجاتها.

9 ـ الحد من عجز الميزانية.

10 ـ خلق شفافية الأسواق: فينبغي أن تمنع معونات الدولة للعاملين الخاصين في كل مكان، وعلى دول العالم الثالث التي تقدم دعماً من أجل إبقاء أسعار الأغذية الجارية منخفضة أن تتخلي عن هذه السياسة، أما عن مصروفات الدولة فينبغي أن تكون للمصروفات المخصصة لتعزيز البني الأساسية الأولوية على غيرها، [راجع: نفس المصدر السابق].

من خلال هذه النقاط نستطيع أن نتبين الوجهة الطبقية الصارخة التي يراد دفع الدول النامية إليها، إنها باختصار ضد فئات المجتمع المنتجة والكادحة والفقيرة وإلى جانب أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء والمتخمين، وهو برنامج يقود دون أدنى ريب إلى ما يلي:

إنه يقود إلى منح الدولة الحد الأدنى من القدرة على الحركة والنشاط في مختلف المجالات فيما عدا حماية القطاع الخاص والملكية الخاصة ونظام السوق الحر.

وأنه يقود إلى خلق مجتمع طبقي شديد التمايز بين طبقة المنتجين والفقراء، وبين طبقة مالكي وسائل الإنتاج أو رأس المال والأغنياء والمتخمين، والذي يقود بدوره إلى تشديد الاستغلال وبالتالي الصراع الطبقي.

ولا شك في أن مثل هذه الدولة التي تأخذ بهذا البرنامج ستمارس سياسة الدفاع عن مصالح أصحاب رؤوس الأموال من خلال السماح لهم بتحقيق المزيد من الأرباح على حساب خزينة الدولة والمجتمع من خلال تخفيض الضرائب على الدخل (الضريبة المباشرة) وفرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات مما يحمي أصحاب الدخول العالية من ضريبة تصاعدية عادلة وضرورية ويجهد أصحاب الدخول الواطئة.

كما أن هذه الدولة ستقوم بحرمان الفئات الكادحة والمنتجة من أي دعم حكومي للسلع والخدمات ذات المساس المباشر بمستوى حياة ومعيشة تلك الفئات، ولكنها ستمارس باستمرار تخفيض الضرائب على أرباح رؤوس الأموال بذريعة توفير الفرص للاستثمار وإعادة التوظيف وتوسيع عملية إعادة الإنتاج وعدم فتح باب تهريب رؤوس الأموال.

وأن هذا البرنامج لا يقود إلى حرمان الدولة من إقامة المشاريع الاقتصادية، الإنتاجية منها والخدمية، حسب، بل ويطالب الدولة بخصخصة مشاريعها الاقتصادية القائمة فعلاً.

وأنه يقود إلى منع الدولة من إقامة مشاريع صناعية أو تحديث الزراعة، بل جعلها معتمدة على التجارة الخارجية المستنزفة للدخل القومي والتي تحرم البلاد من إمكانية تحقيق التراكم الرأسمالي وتنمية الثروة الوطنية.

ويقود هذا الاتجاه إلى تفاقم البطالة في المجتمع وإلى تنامي التوتر الاجتماعي والصراع الطبقي، والذي يقود بدوره إلى نزاعات سياسية واجتماعية لا مفر منها.

وتهمل الدولة، التي تأخذ بهذا البرنامج، مهماتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، والتي تؤدي بدورها إلى بروز الكثير من المشكلات التي يعجز المجتمع على حلها وتغوص الدولة في وحل المشاكل العويصة.

إن اعتماد الدولة على التجارة الخارجية يقود إلى انكشاف صارخ للاقتصاد الوطني على الخارج، أي التبعية للخارج والاستيراد من جهة، كما يعتبر تفريطاً بأموال الدولة التي يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي وزيادة التراكمات الرأسمالية لإغناء الثروة الوطنية.

إن تطبيق سياسة الباب المفتوح ليس أمام التجارة الخارجية حسب، بل وأمام حركة رؤوس الأموال والأيدي العاملة والابتعاد عن تطبيق قوانين ملزمة لحماية العمل والعمال وسياسة جمركية عادلة لحماية الإنتاج الوطني من المنافسة الحادة، وضمان الحد الأدنى للأجور.. الخ ستقود إلى عواقب وخيمة من النواحي الاجتماعية والثقافية والنفسية على الفرد والمجتمع.

ومن هنا يمكن القول بأن السياسة المالية والنقدية، بما فيها سياسة المصارف الاستثمارية ودور ونشاط شركات التأمين والسياسة الضريبية والجمركية والأسعار.. الخ، التي تضعها الدولة في هذا النموذج ستكون موجهة لمصلحة أصحاب الاستثمارات الأجنبية والنشاط الاقتصادي الأجنبي وسياسة الاستيراد المفتوحة، وكذلك في مصلحة الفئات المستغِلة في المجتمع وضد المستغَلين.

إن المهمة المركزية لهذا البرنامج هي ربط العملية الاقتصادية لاقتصاديات الدول النامية بالاقتصاد الرأسمالي العالمي عبر عملية إعادة الإنتاج بمراحلها المختلفة من جهة، وتوسيع الفجوة الفاصلة بين مستوى تطور الدول المتخلفة والدول المتقدمة لصالح الأخيرة من جهة أخرى، وتبدو هذه اللوحة أكثر وضوحاً في ظل ممارسة سياسات العولمة في العلاقة بين المجموعتين في عالم واحد منقسم على نفسه: عالم التخلف والفقر وعالم التقدم والغنى، إنها مهمة الحفاظ على بنية وطبيعة التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل، أي أن تبقى الدول النامية استهلاكية وريعية بما تصدره من موارد أولية كالنفط مثلاً ومستهلكة لدخلها القومي بما تستورده من سلع استهلاكية وتدور في محيط المراكز المتقدمة، في حين يتواصل التطور في مراكز الدول المتقدمة باعتبارها دولاً منتجة ومصدرة للسلع والخدمات والتقنيات ومغنية ومنمية بمعدلات جيدة لدخلها القومي، ويتجلى ذلك بوضوح كبير في الاختلال الصارخ في المؤشرات الإحصائية وأرقام التجارة الخارجية ونسب المشاركة في الإنتاج الصناعي أو الإنتاج الزراعي، وكذلك الاختلالات في الموازين التجارية وموازين المدفوعات وتفاقم الديون الخارجية للدول النامية والفوائد السنوية المترتبة عليها.

إن إشكالية التقدم والتخلف لا تبدو في الدخل القومي ومعدل حصة الفرد الواحد منه سنوياً فحسب، بل وبالأساس في بنية هذا الاقتصاد ودور القطاعات المختلفة في تكوين الدخل القومي وفي مستوى تطور القوى المنتجة والتطور العلمي والتقني التي هي نتاج لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة، وكذلك مستوى ونسب البطالة إلى القوى القادرة على العمل وتوزيعها الإقليمي ومستوى البحث العلمي ومستوى التعليم والأمية وبراءات الاختراع ،، الخ، والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والبيئية في هذا الصدد كثيرة جداً وصارخة في التمايز بين المجموعتين من الدول، فعودة سريعة إلى التقرير السنوي للتنمية البشرية خلال السنوات المنصرمة مثلاً، أو حتى تقارير البنك الدولي السنوية والكثير من التقارير السنوية الأخرى، بما فيها التقرير الاقتصادي العربي الموحد، يستطيع كل متتبع إدراك واقع هذا البون الشاسع والآثار السلبية الحادة جداً لتلك السياسات النيوليبرالية، التي يقترحها لنا البعض، على حساب اقتصاديات ومستوى حياة ومعيشة شعوب الدول النامية.

إن 80 % من شعوب العالم، وهي الدول النامية، تستهلك 20 % من الكثير من المواد الخام والطاقة وتنتج أقل من 20 % في الصناعة والزراعة وتساهم بتلويث البيئة بنسبة 20 % من غاز ثاني أكسيد الكربون تقريباً، في حين أن 20 % من شعوب العالم، وهي الدول المتقدمة، تستهلك 80 % من تلك المواد الأولية أو تساهم بهذه النسبة في التجارة الدولية أو في الإنتاج الصناعي والزراعي، كما تشارك في تلوث البيئة بنسبة 80 % بثاني أكسيد الكربون، على سبيل المثال لا الحصر. [راجع في هذا الصدد:

]Stiftung Entwicklung und Frieden، Globale Trends، Fakten Analysen Prognosen: Für die Jahre 2000، 2002، 2003، 2004 / 2005، Fischer Taschenbuch Verlag، Frankfurt am Main،[

إن انتهاج سياسة اللبرالية الجديدة في الدول النامية لا تقود إلا إلى تعميق هذه الفجوة وزيادة عدد فقراء العالم وتقود إلى تركيز ومركز الثروة في العالم بأيدي مجموعة قليلة من دول العالم المتقدمة، وهو ما يفترض ألا نقبل به، بل نرفضه بحزم وصرامة ونسعى إلى تغييره.

 

الحلقة الرابعة

دور الدولة في العراق حتى انقلاب البعث الثاني

تأسست الدول العراقية الملكية في العام 1921، نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية وبدء الاحتلال البريطاني للعراق في العام 1917، وفي أعقاب انتفاضة السليمانية 1919 ومن ثم  ثورة 1920، وهي نتاج مركب ومعقد من الذهنية التي سادت العراق في العهد العثماني والتحديث البريطاني للعراق الذي جاء به الاستعمار البريطاني وتجلى ذلك في الدستور الحديث الذي لم يتخلص من مسألتين: التأثير الفكري والسياسي  للعهد العثماني وطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت العراق في تلك الفترة أولاً، والديمقراطية البريطانية التي جاء بها الحكم البريطاني للعراق ولكن قرمتها كثيراً الذهنية الاستعمارية البريطانية ذاتها وممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة والسفير البريطاني في بغداد ثانياً.

كان يراد إقامة دولة مدنية تستند إلى الدستور والسماح لعلاقات رأسمالية تهيمن في مجال التجارة والعقار ولكنها لا تقترب من التصنيع وتحديث الزراعة وفي ظل “الإسلام” دين الدولة وقانون دعاوى العشائر العراقية بجوار الدستور الحديث، وكان يراد إقامة دولة وفق سمات حديثة مأخوذة من الدول البريطانية على أرضية فكرية إسلامية يلعب شيوخ الدين في المجتمع دوراً كبيراً وفي ظل استمرار وجود علاقات إنتاج متخلفة، أي أن الأرض لم تحرث لصالح الوطن والمواطنة، بل استمر ما كان يطلق عليه الأمة الإسلامية ورعايا الخلافة الإسلامية عملياً، لقد كانت ثورة العشرين تجسد صراعاً بين الطموح إلى بقاء الوضع على حاله خشية التغيير من جانب شيوخ الدين وفقدان مواقعهم الدينية والاجتماعية والسياسية ومواردهم الاقتصادية، وبين تطلع ذلك الجزء من المثقفين والتجار صوب التغيير وتحديث العراق وفق منظور خليط بين الوطنية والرؤية البريطانية الجديدة.

نشأت في ضوء ذلك علاقات رأسمالية مستوردة في قطاع التجارة وفق ذهنية لبرالية، ولكنها مقرمة ومحصورة في القطاع التجاري وفي صالح المصالح والهيمنة الاستعمارية البريطانية على العراق، وبجوار الدستور المدني أقر قانون دعاوى العشائر وعملا جنباً لجنب في حياة المجتمع العراقي في الريف والمدينة، وبمرور الزمن اتسع النشاط اللبرالي للدولة العراقية بفضل نضال قوى المعارضة الديمقراطية من أجل التصنع وتطوير الزراعة ومعالجة مشكلات الأرض ومن أجل قطاع اقتصادي بيد الدولة وبناء جهاز كبير يمسك بزمام الأمور لصالح النظام السياسي القائم. لا بد لنا أن نلاحظ هنا بأن السلطات البريطانية كانت تسعى إلى بناء دولة سياسية الذي يحتاج بدوره إلى شعب أو أمة، وبين الممارسة العملية المناهضة لمفهوم الدولة وبناء الأمة الذي يفترض أن يجد له أساساً اقتصادياً واجتماعيا وكسر مفهوم الرعية بالمواطنة. هذا التناقض أعاق عملياً تسريع عملية بناء الوطن والمواطنة لحساب الإحساس بالأمة الإسلامية والرعايا، ومن هنا كان دور الدولة مطلوباً، ولكنه معطلاً لدوره في تكون فكر وثقافة الوطن والمواطنة.

وبعد إنهاء الانتداب المباشر ودخول العراق عصبة الأمم الذي سبقته الموافقة على عقد امتياز استخراج وتسويق النفط العراقي مع الشركات البترولية الأجنبية العملاقة وبدء تدفق موارد مالية من النفط الخام إلى الحكومة العراقية تزامن ذلك مع نهاية الأزمة العامة التي شملت العالم كله وبدء تطبيق نظرية كينز في السياسات الاقتصادية الغربية، ولذلك وجد ذلك تعبيره في السياسة الاقتصادية العراقية حين بدأت الدولة  بوضع برامج اقتصادية لعدة سنوات، ثم بدأ الضغط عليها للتصنيع، صدر قانون حماية الصناعة  في العام 1929 مثلاً، وفعّل لاحقاً ونشط دور الدولة وفيما بعد، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، دفع الدولة بإقامة مشاريع صناعية كما في صناعة الاسمنت مثلاً.

وأمكن في ظل انتعاش الكينزية أن توافق الحكومة العراقية على مشاريع صناعية لصالح قطاع الدولة، وخاصة مع المناصفة في عوائد استخراج وتصدير النفط الخام العراقي مع شركات النفط الاحتكارية الأجنبية ونشوء مجلس الإعمار ومن ثم وزارة الإعمار، فالدولة العراقية كانت قد بدأت بإرساء أسس أولية لدولة مدنية مؤسساتية قائمة على منهج لبرالي، ولكنها في الممارسة العملية كانت الحكومة ذاتها تنتقص من هذه الدولة في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والمجتمع المدني.

لقد أخذ النظام الملكي من تاريخ العراق في العهود القديمة بعد تشكيل الدولة المركزية، أي بعد توحيد دويلات المدن القبلية، ومن العهود الأموية والعباسية والعثمانية، بعض مهمات الدولة الشرقية وسمات النمط الآسيوي المركزي، إذ كانت طبيعة النظم وواقع المنطقة الجغرافي والمناخي قد فرضا قيام الدولة بمجموعة من المهمات ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكنها أخذت في الوقت نفسه من المدنية والدولة الحديثة بعض ملامحها.

لقد مارست الدولة العراقية الملكية مجموعة من المهمات الخدمية بعد انتهاء الانتداب وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومنها خدمات التعليم والصحة والنقل العام (السكك الحديد والطيران ومن ثم حافلات نقل الركاب في بغداد، وكذلك الري والبزل، كما شيدت جهازاً كبيراً جداً تابعاً للدولة ويعتمد في تدبير لقمة عيشه على الحكومة، وأصبحت الدراسة متجهة بالأساس صوب تكوين موظفين للدولة، رغم التحسن النسبي الذي طرأ في الخمسينات على وجهة التعليم والتخصص والتعليم المهني.

حين سقط النظام الملكي في العراق لم تكن البلاد قد استطاعت تكريس الحياة الدستورية والديمقراطية المؤسساتية، رغم وجود المؤسسات، كما لم تستطع تعزيز وتكريس النهج اللبرالي في الاقتصاد، إذ أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية لم تكن هي السائدة، بل كانت إلى ذلك الحين تترافق مع وجود العلاقات الإنتاجية شبة الإقطاعية في الريف وأحياناً وجود العلاقات الأبوية القديمة في الريف والمستندة إلى العلاقات العشائرية ذات المضمون الأبوي، كما أن البرجوازية الوطنية، وخاصة الصناعية، لم تستطع احتلال موقع مهم في الاقتصاد العراقي، إذ أن القطاع العام كان أقوى من القطاع الخاص في قطاعات مختلفة من الصناعة العراقية بفضل نشاط مجلس ووزارة الإعمار والمشاريع الصناعية المهمة نشأت في الفترة بين 1951/1952 حتى سقوط الملكية في العام 1952، إضافة إلى وجود قطاع صناعي مختلط اهتم بتكوينه المصرف الصناعي العراقي.

بعد سقوط الملكية في انتفاضة الجيش وسعي الشعب إلى تحويلها إلى ثورة بأمل أن تجري تغييراً في علاقات الإنتاج وتطلق العنان لتطور القوى المنتجة المادية والبشرية وتطلق الحريات الديمقراطية وتعزز الهوية الوطنية العراقية والمواطنة العراقية، وكانت فرصة ثمينة لتحقيق الدولة المدنية القائمة على المؤسسات التي تستند إلى دستور ديمقراطي وحياة مدنية ديمقراطية وحياة اقتصادية جديدة تهشم علاقات الإنتاج القديمة عبر تنفيذ صارم لقانون الإصلاح الزراعي وبناء علاقات إنتاجية رأسمالية على أنقاضها وتدفع بالبلاد على طريق التطور الرأسمالي الذي يفرضه واقع العراق حينذاك، وكان هذا التوجه مقروناً بثلاث سمات ميزت العراق على امتداد قرون طويلة مع ملامح حديثة لبعض تلك السمات، وأعني بها ما يلي:

اعتماد المجتمع على الشخصية الكارزمية، على الشخصية الحكومية التي تقف على رأس الدولة، المنقذ من أوضاع المجتمع البائسة وغير الديمقراطية، ونجده شاخصاً في حياة القبيلة وفي دور الخليفة أو السلطان أو الوالي، كما نجده في الميثولوجيا الشعبية وبصور شتى ابتداء من العراق القديم إلى الوقت الحاضر، وقد برزت بشكل صارخ في فترة حكم عبد الكريم قاسم، حيث ارتفع الصوت الصارخ: ماكو زعيم إلا كريم، وعاش الزعيم الأوحد، وأصبح لفترة غير قصيرة معبود الملايين، بل هو لا يزال كذلك، وهو مأخوذ إلى حد ما من الهتاف المعروف لدى الكثير من الشيعة: ماكو ولي إلا علي ونريد حكم جعفري!!

اعتماد المجتمع على حكومة مركزية لتأمين جملة من القضايا التي كانت مسؤولة عنها في السابق أيضاً، ومنها الري والبزل والخدمات الاجتماعية والتوظيف في جهاز الدولة والاعتماد عليها في الحصول على الرواتب والأجور.

الدعوة إلى إقامة قطاع عام تديره الدول ذاتها، إلى جانب الدعوة لإنعاش نشاط القطاع الخاص، وهذه المسألة ترتبط بالتوظيف في جهاز الدولة الاقتصادي من جهة، وبالرؤية الحديثة لدور قطاع الدولة في توفير سلع وخدمات رخيصة للسكان وغالبيتهم تعاني من التخلف والفقر والبطالة والتي لم تعارضها النظرية الكينزية بل ساندتها حتى في المستعمرات أو الدول التابعة أو المستقلة حديثاً.

في هذه الفترة بدأ جهاز الحكم بالتضخم، وكذلك قطاع الدولة الاقتصادي وتفاقم دور البيروقراطية في حياة المجتمع، وعجز النظام الجديد عن حل المعضلات الأساسية التي واجهت المجتمع: ومنها وضع دستور ديمقراطي للبلاد، بناء حياة ديمقراطية ومؤسسات دستورية، الفصل بين السلطات الثلاث، تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، تراجع المجتمع المدني وتنامي ممارسة القوة والعنف في المجتمع وعجز عن حل مشاكل القوميات في العراق، كما سادت الفردية في الحكم وفي اتخاذ القرارات بما فيها تلك التي تمس مصير المجتمع والدولة، ومنها الحرب في كردستان والمطالبة بالكويت على سبيل المثال لا الحصر، لم يكن المجتمع بمستواه الفكري والاجتماعي أو الثقافي العام قادراً على الدفع بالاتجاه الصحيح، بل بحكم تربيته وأسلوب تفكيره قد ساهم في دفع عبد الكريم قاسم إلى تكريس حكمه الفردي والذي انتهى إلى النتيجة المعروفة.

لقد أخذت الدولة باللبرالية الكينزية إلى حدود بعيدة، رغم أنها لم تكن واضحة لمن مارسها في العراق، ولكنها كانت ضعيفة التطور ومتخلفة، وأعني بذلك الدمج بين الاعتماد على الدولة تنشيط القطاع الخاص لمعالجة مشكلة البطالة والتشغيل ومنح الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً بعض المعونات التي تساعد على تحسين ظروف حياتهم، إضافة إلى مشاركة الدولة في الخدمات الاجتماعية، ومنها الحياة الصحية والتعليمية والحياة الثقافية.. الخ.

لم يتسن لهذا الاتجاه أن يستقر فقد سقط بانقلاب نفذه البعثيون وسانده بعض الدول الكبرى على الصعيد العالمي والجمهورية العربية المتحدة والسعودية والأردن وتركيا وإيران على صعيد المنطقة.

والنظام الجديد في الجمهورية الثانية كان نظاماً شمولياً فاشياً في ممارساته السياسية والاجتماعية وفي ساديته ونرجسية قادته وبؤس ثقافتهم وغياب وعيهم الوطني واعتماد موقف عروبي يميني وشوفيني متخلف بعيداً كل البعد عن المدنية وعن اللبرالية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي، وعن مفهوم الوطن والمواطنة المتساوية، إذ سادت الفوضى وعم الفساد والقتل بالجملة والحرب في كردستان وغياب دور الدولة المؤسسية.

لم يعرف في العراق في هذه المرحلة دولة مدنية مؤسساتية، بل كانت عصابات منفلتة من عقالها سيطرت على الحكم بالقوة، ولكنها سرعان ما سقطت تحت حراب حلفاء الأمس.

برز في فترة حكم الأخوين عارف اتجاه نحو تخفيف الضغط على المجتمع والاعتماد بقدر ما على القوى القومية اليمنية التكنوقراطية ذات الانتماء القومي الناصري، فسعت إلى توسع جهاز الدولة السياسي والإداري والاقتصادي والخدمي وإلى محاولة امتصاص الكثير من العاطلين من الخريجين فيه، كما عمدت إلى الاعتماد على قطاع الدولة الرأسمالي، وإهمال نسبي للقطاع الخاص في حقول الإنتاج والنشاطات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، ولكنها تركت له المجال في المقاولات والمضاربة بالعقارات، كان التركيز على قطاع الدولة قد انطلق من محاولة التماثل والوحدة مع مصر، إضافة إلى اعتماد سياسة تقليم أظافر البرجوازية الصناعية، التي رفضت حكمها وطالبتها بدستور دائم وإقامة دولة مؤسسية حرة والفصل بين السلطات، بتأميم مشاريعها الاقتصادية في المصارف والصناعة والتجارة والتأمين، ولم يكن للدولة أي وجهة مدنية عقلانية، بل كانت دولة استبدادية قائمة على حكم الفرد ووفق أسس قومية عروبية وأسس طائفية بغيضة عجزت عن تحقيق أي مهمة سياسية أو اقتصادية أو حل مشكلات اجتماعية، ولكنها كانت أقل شراسة في القتل والسجن والتعذيب من سابقتها، عطلت تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وغيرت من محتواه في غير صالح التقدم في الزراعة والريف وسعت إلى تنشيط قطاع النفط الخام ولكنها عجزت عن عقد اتفاقيات مناسبة لصالح الاقتصاد العراقي واستفادت من موارد النفط الخام المصدر لأغراضها الاستهلاكية والعسكرية وحربها المتقطع ضد حركة التحرر الكردية وفرطت في تلك الموارد ولم تنفذ إلا القليل من برامج التنمية الاقتصادية التي وضعتها خلال الفترة 1963-1968.

لقد كانت دولة انتقائية وحكم قائم على الانتقاء في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون أي فلسفة في الحكم أو منهج يضيء لها الطريق فتعثرت كثيراً رغم الانفتاح السياسي النسبي في نهاية حكم عبد الرحمن محمد عارف الذي تسلم الحكم بعد موت أخيه عبد السلام محمد عارف في حادث طائرة في سماء جنوب العراق، لقد سقط النظام الذي انتشر فيه الفساد ودور المضاربة بالعقار والاغتناء على حساب سرقة قطاع الدولة ونهبه من الباطن والاستيراد المفتوح لمن يبني الجوامع والمساجد في العراق، وخاصة من البطانة والمحيطين بالنخبة العسكرية الحاكمة، كما لعب العسكريون والمتقاعدون منهم على نحو خاص دوراً مهماً في الحصول على إجازات استيراد وبيعها لآخرين وفق عمولة، إذ أصبحت باباً رحباً ومفتوحاً للاغتناء على حساب الشعب ومالية الدولة، سقط هذا النظام ومعه الجمهورية الثالثة تحت وطأة ضعفها والتآمر من داخل الحكم والقصر على النخبة القومية اليمينية والشوفينية الحاكمة، وبدأت الجمهورية الرابعة، جمهورية الرعب، على حد التعبير الدقيق للدكتور كنعان مكية، وخلال حكم الأخوين عارف ازداد دور الدولة وازداد الاعتماد عليها، وادعى العاملون في هذه الدولة أنهم يسعون إلى بناء الاشتراكية العربية، وهي في الحقيقة لم تكن سوى لبرالية كينزية مشوهة وانتقائية وثأرية في الممارسة.

ولا بد من الإشارة إلى أن ما تحقق في ظل النظام الملكي من خطوات على طريق التمدن وبناء الدولة المدنية قد انقطع، وكان المفروض أن تواصله ثورة تموز 1958، إلا أنها عجزت عن ذلك بفعل عوامل داخلية وخارجية، مما فسح المجال لتراجع عما تحقق من خطوات على طريق تمدن الدولة والمجتمع وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية والقائمة على الدستور والتقاليد المؤسساتية حتى نهاية حكم العارفين، فماذا حصل لدور الدولة في ظل حكم حزب البعث والطاغيتين أحمد حسن البكر وصدام حسين، وما هي طبيعة النهج الاقتصادي الذي مورس في هذه الدولة الاستبدادية المشوهة، هذا ما سأحاول التعرض له في الحلقة الخامسة.

 

الحلقة الخامسة

دولة البعث والاقتصاد العراقي

من المعروف أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، فحزب البعث حين وصل إلى السلطة عمد إلى استكمال بناء دولة الرعب البعثية التي بدأ بها في العام 1963 وانقطعت لعدة سنوات عبر ذهنية القوى القومية الناصرية القلقة والمترددة بين الاستبداد واللبرالية،  بناء جمهورية الرعب السياسي والاجتماعي والثقافي، جمهورية الأيديولوجية القومية الشوفينية الواحدة، التي كانت ترفض بقسوة وغلو بقية الإيديولوجيات وتسعى إلى وأدها وتصفية أصحابها فكرياً وجسدياً، الدولة التي كان يقول حاكمها بعنجهية المستبد المطلق والظالم: “أن العراقيين بعثيون وأن لم ينتموا”، شاءوا ذلك أم أبوا! وأن الدولة البعثية باقية وإلى الأبد!!

لقد مارس رأس النظام البعثي كل المجون والعهر السياسي والقهر في التعامل مع الإنسان العراقي ومع الأحزاب والأيديولوجيات الأخرى وسعى بكل السبل المتاحة لديه إلى ضربها وتصفيتها وإسقاط أو قتل المنتمين إلى الأيديولوجيات والأحزاب الأخرى، أياً كان الآخر ما دام غير بعثي بسلوك صدامي، أو غير ملتزم بصيغة ما بالولاء “للقائد الضرورة” و“القائد التاريخي للأمة العربية”، بل قام بقتل جمهرة كبيرة من البعثيين من رفاقه القادة لاختلاف في الرأي أو منافسة في المواقع أو خشية من أمر ما.

لقد سيطر حزب البعث على السلطة وسخر الدولة كلها بما فيها من أدوات قمع للإجهاز على الآخرين، واستثمر لهذا الغرض طاقات الدولة المالية الكبيرة المتأتية من قطاع النفط الاستخراجي على نحو خاص، وبما فيها من أدوات حراسة له ولنظامه، إذ أن الدولة التي عرفناها حتى الآن كانت ولا تزال تمارس مهمتين: مهمة قمع معارضي النظام وحراسة من بيدهم الحكم.

حين استولى حزب البعث على السلطة السياسية عمد إلى اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتأمين هيمنته الكاملة على الحياة الاقتصادية وعلى منتج الثروة في البلاد، على الإنسان، وعلى مصدر الثروة في العراق، النفط الخام، ومن أجل تحقيق ذلك عمد إلى مجموعة من السياسات الملموسة، منها في مجال بحثنا:

توسيع جهاز الدولة بالمزيد من البشر، الناس الذين يعتمدون في عيشهم وتدبير أمور حياتهم اليومية ومصدر أجرهم أو راتبهم على الدولة مباشرة، مثل الجهاز الإداري، وأجهزة القوات المسلحة، بما فيها الجيش والشرطة والأمن الداخلي والخارجي والوكلاء والعيون الساهرة على مراقبة حركة الشعب وشرطة الحدود والأجهزة الخاصة.

توسيع قاعدة نشاط قطاع الدولة الاقتصادي في مجال الإنتاج والخدمات ووضع قطاع النفط الخام بكامل ثروته وعوائده بيد هذه الدولة البعثية، والذي تم بقرارات التأميم في العام 1972.

توسيع دور الدولة في الحياة الثقافية والخدمية بحيث تهيمن على القطاع التعليمي بكل مراحله وبصورة كاملة وعلى أجهزة الإعلام بشكل مطلق وكذلك على مجرى الحياة الثقافية التي صبغت بلون وفكر حزب البعث إلى ابعد الحدود الممكنة، إلا من فلت منها بطريقة “كليلة ودمنة”.

تقليص دور ومكانة القطاع الخاص وجعله خاضعاً لجهاز الدولة البيروقراطي من خلال علاقاته الباطنية أو ما يمنحه من إمكانيات مقيدة برغبة الدولة، فهي التي تمنحه أو تمنع عنه ما تريد، وبالتالي فهو قطاع تابع لها وليس حراً بتصرفاته.

كان النظام ألصدامي انتقائي في تصرفاته وسلوكه الاقتصادي بما يخدم أغراض القائد الفرد، من هنا فأن الدولة البعثية التي نتحدث عنها لم تكن دولة تخضع لمعايير معينة غير معيار الاستبداد وممارسة القسوة والعنف إزاء الإنسان والمجتمع.

لقد أقامت دولة البعث قطاع دولة رأسمالي، ولكنه لم يعتمد على الربح في تسييره الذاتي، بل كان يعتمد على تحمل الدولة خسائر قطاعها الاقتصادي لأنها لم تكن بحاجة إلى أموال مشاريع الاقتصاد العراقي في ما عدا موارد النفط الخام التي تعاظمت منذ عملية التأميم وازدياد الطلب عليه وارتفاع أسعاره وبما أطلق عليها بالفورة النفطية.

سعى البعث إلى تكوين قطاع دولة رأسمالي يكون في خدمة الدولة البعثية وأهدافها وليس في خدمة المجتمع وتطور الاقتصاد الوطني وزيادة معدلات نموه، لقد أبدت قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة اهتمامهما الأكبر بالهيمنة على قطاع الدولة وجعله أداة بيد الحكم من أجل:

** السيطرة على وجهة تطور قطاع الدولة الاقتصادي والتحكم بالمشاريع التي يقيمها والوجهة التي يتطور نحوها.

** السيطرة على قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والمصارف وشركات التأمين، وبالتالي السيطرة على وجهة الاستثمارات ومن يحصل عليها وسبل استخدامها.

** التحكم بالبرجوازية الوطنية وفرض وجهة نظره علها.

** إخضاع المجتمع بأسره لإرادة قيادة الدولة ومصالحها والوجهة التي تسعى إليها.

** إخضاع جميع مكونات الدولة لها وجعل كافة السلطات بيد مجلس قيادة الثورة ومن ثم بيد الفرد القائد، وهي دولة استبدادية ولا تقوم على مؤسسات دستورية بل تنطلق من إرادة ورغبات القائد وممثلة له وليس للشعب.

لقد سادت في العراق في فترة حكم البعث بين 1968-2003 دولة فرضت على الشعب أن يستند إليها في عيشه، ولكنها لم توفر الحماية له، بل استخدمته في حروبها وأجزاء منه في تنفيذ سياساتها في الحروب الداخلية والقمع الداخلي، وكانت دولة الحروب والقمع والإبادة الجماعية وضد الإنسانية والمقابر الجماعية، فهي دولة استثنائية لا تندرج تحت باب من أبواب الدولة المعروفة، بل تمثل شكلاً من أشكال الفاشية السياسية.

لقد عارضت حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية، فتسببت بنشوء اختلالات استثنائية في الاقتصاد العراقي، كانت دولة ريعية، استهلاكية وبذخية متمردة على القيم الحضارية وعلى مصالح الإنسان العراقي، دولة عصابات منفلتة من عقالها لا قيم ولا معايير تسيّرها غير رغباتها الجامحة وأهدافها في الهيمنة والتوسع.

في الفترة الأولى من حكم البعث حيث تعاظم المورد النفطي توجهت السياسة نحو تنمية سريعة لقطاع الدولة وإقامة مشاريع صناعية وزراعية وري واسعة، إضافة إلى التوسع في الخدمات، فكانت السياسة مزيجاً من اللبرالية المنفتحة والتوجيه الحكومي المرتبط بإرادة مجلس قيادة الثورة أو المسؤول عن الاقتصاد العراقي حينذاك، صدام حسين، فانتعشت الفئات المتوسطة العاملة في مجالات الصناعة والمقاولات والصناعات الصغيرة الحرفية وفي قطاع التجارة والعقار، إضافة إلى الأجهزة المتنفذة العاملة في قطاع الدولة وتلك التي كانت تتعامل مع الشركات الأجنبية، وازداد البذخ في إقرار إقامة المشاريع الجاهزة وتسليم المفتاح وازداد عدد دورات الدينار العراقي السنوية وتحسنت السيولة النقدية مع ارتفاع سريع وتضخمي في الأسعار، وأطلق على هذه الفترة النفطية المنتعشة بالفترة الذهبية لعصر البعث، وكان الدكتاتور الأرعن والجاهل طه ياسين  الجزراوي يخطب بصوت مرتفع ويقول : “لدينا الأموال، نريد الأحسن” متجاوزاً كل أجهزة التخطيط التي كانت تحاول إعداد خطط اقتصادية عقلانية ومعقولة.

كتب الصديق الدكتور جعفر عبد الغني، الخبير الاقتصادي، معلقاً بملاحظات صائبة على ملاحظات الدكتور بارق شبر في ضوء تعليق الأخير على المقالة المختصرة للدكتور حيدر سعيد في موقع العالم، إذ كتب يقول فيها ما يلي:

“كنت قد أعددت دراسة تحليلية بعد الإحصاء العام لسنة 1975_1976 فقدت مسودتها مع الأسف الشديد يتبين من خلالها أن أكثر الفئات الاقتصادية استفادة في تلك الفترة كانت الطبقة الوسطى ليس من الموظفين بل من الصناعيين والمقاولين و التجار و الحرفيين، ففي الوقت الذي كانت استثمارات القطاع العام هي الطاغية كانت مؤسسات هذا القطاع تعاني من الخسارة المزدوجة أي كلفة رأس المال و كلفة الدعم المقدم للإنتاج و أن القيمة المضافة المتولدة في هذا القطاع لم تتعد أجور العاملين و حسب، أما القيمة المضافة المتولدة في القطاع الخاص فاغلبها الربح و اقلها الأجور، خطان متعاكسان تماما. ولكن الحكم الصدامي قضى على هذه الظاهرة في نهاية السبعينات عندما صادر مكتسبات هذه الطبقة وسلمها إلى وكلائه ومخبريه وأقاربه، هذه ملاحظة تصحيحية ربما تستحق الدراسة الجدية”. (الرسالة محفوظة في أرشيفي، كز حبيب).

واتسعت في هذه الفترة ظاهرة الفساد المالي على نطاق واسع وفتحت الكثير من الحسابات في الخارج لتحويل العمولات إليها لعدد كبير من المسؤولين وكبار الموظفين المتعاملين في إقرار وتوقيع العقود مع الشركات الأجنبية، وسيطر صدام حسين نفسه على ألـ 5% حصة كولبنكيان في عوائد نفط العراق في أعقاب التأميم، إضافة إلى الأموال التي تسربت إلى القيادة القومية لحزب البعث والقوى المساندة لحزب البعث في الخارج من عرب وأجانب على حساب خزينة الدولة ومصالح الشعب.

ولكن هذه الفترة تعطلت وتراجعت مع بدء حروب النظام وما اقترن بها من توقف للمشاريع الاقتصادية وتدمير البنية التحتية وخاصة في الحربين الأولى والثانية من حروب الخليج ثم غزو الكويت والحصار الاقتصادي.

ومع بدء تنفيذ قرار النفط مقابل الغذاء بحدود منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، بل حتى قبلها، ازداد اعتماد المجتمع على أرزاق الدولة، على كوبوناتها وعلى عطاءات القائد المتسلط، لقد انهار سعر العملة العراقية وانقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة غنية صغيرة جداً هي الفئة الحاكمة والمحيطين بها، والفئة الأكبر، الفقيرة، التي أصبحت غير قادرة على العيش دون تلك الحصة التموينية. وهنا كانت الدولة شراً لا بد منه حقاً لتلك الغالبية العظمى من المجتمع، إذ لم يكن في مقدور البشر العيش دون تلك الحصة التموينية ودون دعم الأسعار، إذ كانت حالة المجتمع قد بلغت الحضيض حين سقط النظام تحت أقدام قوات الاحتلال الأمريكية البريطانية بشكل خاص وحيث صدر قرار مجلس الأمن الدولي باعتبار العراق دولة محتلة من قبل القوات الأمريكية والبريطانية.

وحين ازداد الجرح نزفاً في المجتمع والأوضاع المالية تدهوراً عمد صدام حسين إلى ممارسة خمس مسائل متناقضة مع أوضاع المجتمع والفقر المدقع لنسبة عالية منه:

** زيادة الصرف على احتفالاته بأعياد ميلاده السنوية والعطايا التي يمنحها والهدايا التي يستقبلها من المجتمع وهي مقطوعة من ميزانية مؤسسات قطاع الدولة والدوائر الحكومية.

** زيادة عدد قصوره الرئاسية وقصور حاشيته التي تميزت بالفخامة والبذخ الكبير.

** زيادة عطاءاته من كوبونات لقوى خارجية من أجل كسب ودها ومساندتها لحكمه.

** زيادة مصروفاته على التسلح والتجسس وخنق صوت المجتمع المعارض له.

** زيادة المكاسب للأجهزة القريبة منه والحامية له بما يزيد من اعتمادهم عليه واعتبار مصيرهما مشترك.

من هنا يمكن أن نتبين بأن دولة صدام حسين لم تكن دولة للقانون بل دولة الفرد القائد وهو القانون، ومثل هذه الدولة البعثية لا يمكن أن توضع في خانة الدول اللبرالية أو النظم النيوليبرالية، أو أي شكل أخر من النظم السياسية، ولكنها كانت في كل الأحوال تشكل جزءاً من نظام العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية والرأسمالية الطفيلية والمتخلفة، إنها دولة عصابات شوفينية متمردة، دولة التجسس والبوليس، دولة الاستبداد الشرقي المستحدث بأساليب وأدوات قمعية حديثة. ولكن، في هذه الدولة الريعية، ازداد المجتمع اعتماداً على الدولة في الحصول على جزءٍ أساسيٍ من عمله وقوت يومه. لقد كانت الدولة شر لا بد منه، في حين أن الدولة بعمومها ليست الشر الذي لا بد منه ، بل هي الناظم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والبيئي الذي يمكن اعتماده بجوار المجتمع المدني الديمقراطي الحديث!

إن المحدد لطبيعة الدولة دستورها والقوانين التي توضع في ضوء الدستور والمؤسسات التي تنهض على أساسه، ومن ثم النظام السياسي الذي ينشأ في ضوء ذلك الدستور، وبتعبير أكثر قرباً للواقع وملموسية، في ضوء طبيعة القوى الطبقية التي تقود البلاد وترسم سياساته وتحدد المصالح التي تسعى إليها.

 

الحلقة السادسة والأخيرة

وماذا بعد البعث وإسقاط الدكتاتورية الغاشمة؟

جمعت الإدارة الأمريكية عدداً كبيراً من السياسيين العراقيين المرتبطين بأحزاب سياسية معارضة أو عناصر مستقلة بمستويات وخبرات متنوعة بهدف تأمين معلومات ضرورية للمسؤولين والقوات الأمريكية التي كانت تقود تحالفاّ دولياً غير شرعي، إذ لم يحض بتأييد مجلس الأمن الدولي، لشن حرب ضد النظام الدكتاتوري في العراق وإسقاطه، ولو كانت المعارضة العراقية قادرة ذاتياً على تحقيق هذا الهدف لما حل هذا التدخل الدولي، إذ أن أساليب النظام الفاشي في مواجهة قوى المعارضة لم تترك أي مجال في تحقيق هذا الهدف بقواها الذاتية، فكان التدخل الخارجي، ومن هنا يمكن القول بأن الظرف الموضوعي لم يكن متطابقاً مع الظرف الذاتي حين أُسقطت الدكتاتورية في العراق في التاسع من نيسان/ابريل 2003، إذ لم يكن في صالح العامل الذاتي. قدمت مجموعة الخبراء التي بلغ عدد أفرادها 132 شخصاً معلومات كثيرة وتقارير غنية عن سبل التعامل مع الظرف الجديد الذي سينشأ في أعقاب سقوط النظام، وأصبحت لديهم ملفات ضخمة في هذا الصدد وفي مختلف المجالات. ولكن على عادة قادة الولايات المتحدة المغرورين وكذلك أولئك الذين نسبوا للعمل في العراق، لم يبدوا أي اهتمام بتلك التقارير ولم يكن هناك من هدف مباشر أمامهم غير إسقاط النظام وتحويل العراق إلى ساحة قتال ضد قوى القاعدة وقوى الإرهاب، إضافة إلى الأهداف الأساسية الأخرى التي تقف وراء كل حرب من هذا النوع وفي منطقة الشرق الأوسط الغنية بخاماتها، وخاصة النفطية منها. ولكن ماذا بعد الإطاحة؟ ليكن الطوفان! وحصل الطوفان فعلاً!

كان بول بريمر يمثل الشخصية النموذجية الأسوأ بين المسؤولين الأمريكيين الذين أداروا دفة الحرب والعمل في العراق، لم يكن بريمر يعرف شيئاً عن العراق ولم يكلف نفسه مشقة قراءة تقارير الخبراء العراقيين، كما لم يبذل جهداً للاستفادة منهم في العراق، بل ضيق عليهم الخناق حتى تخلصوا منه أو تخلص منهم، وكان لرئيس هيئة إعمار العراق العراقي الدور المعلى في تقصير قامة هؤلاء الخبراء وفي هروبهم من العمل معه. جاء بمريمر إلى العراق وهو جاهل بكل معنى الكلمة بتاريخ العراق وأحوال شعبه ومشكلات المجتمع التي تراكمت عبر عقود من الاستبداد الدموي وبعيداً تماً عن وعي طبيعة هذا الشعب، وكان رأسماله الأول والأخير أنه من الجماعة المؤمنة بالنيولبرالية، ومن أتباع المحافظين الجدد في آن واحد، ومن المقربين للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، جاء الحاكم بأمره معتقداً بضرورة ممارسة السياسات التالية:

تدمير كامل لدولة البعث في العراق، دون أن يدرك دور الدولة وبعض مهماتها المشتركة في العراق، سواء أكانت بعثية أم غير بعثية، وكانت المصيبة أنه دمر جهاز الدولة العسكري والمدني وسمح للفوضى بالسيادة وللنهب والسلب بالسيطرة على الشارع.

تدمير قطاع الدولة والدعوة للقطاع الخاص دون أن يعمل على توفير مستلزمات نهوض قطاع خاص فاعل ومؤثر وقادر على أخذ مهمات إعادة البناء والتنمية في البلاد.

رفض عملية التنمية الاقتصادية ورفض التصنيع أو تطوير وتحديث القطاع الزراعي، بل ركز جل اهتمامه على قطاع التجارة الخارجية، أي تصدير النفط الخام واستيراد جميع أنواع السلع. إن تقسيم العمل الدولي الذي يؤمن به هو التصنيع والإنتاج عموماً يتم في الدول المتقدمة، والاستهلاك يتم في الدول النامية، إضافة إلى تصديرها للمواد الأولية دون استخدامها في التصنيع المحلي.

وكان يسعى لأن تدير الولايات المتحدة الشؤون العراقية لأطول فترة ممكنة بعيداً عن القوى والأحزاب السياسة، وحين عجز بريمر عن تحقيق ذلك، أُجبر على تشكل مجلس الحكم الانتقالي، وحين أقام هذا المجلس، أقامه على النمط الذي تبناه للعراق، على أساس نظام سياسي طائفي يستند إلى محاصصة دينية وطائفية وقومية مدمرة لمفهوم الوطن والمواطن، وكانت بداية الخراب الفعلي الذي عم العراق في السنوات السبع المنصرمة، والذي وجد التأييد والمساندة من الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، باعتبارها قد مسكت زمام الحكم بأكثرية أعضائها في مجلس الحكم الانتقالي، وفيما بعد ايضاً.

وخلال فترة حكمه المباشر، كدكتاتور صغير، ساعد بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الفساد والإفساد الذي كان قائماً أساساً وعلى انتشاره في سائر أنحاء العراق وبين كبار المسؤولين عبر الشركات الأمريكية بشكل خاص والشركات الأجنبية القليلة الأخرى التي عملت مع الشركات الأمريكية في العراق، وخسر العراق عبر النهب والاستخدام السيء مبالغ طائلة من الأموال العراقية والمساعدات الخارجية وكميات كبيرة جداً من النفط الخام.

ولم يستطع العراق التقدم خطوات إلى أمام في مجال تأمين إعادة البناء أو إعادة الخدمات أو تشغيل العاطلين عن العمل ومكافحة الفقر والبؤس والفاقة، حتى الإرهاب لم يستطع المساهمة في دحره،

هذه الوقائع يصعب على أي إنسان عاقل أن يشكك بها أو يتجاوزها في الحديث عن العراق في فترة حكم بريمر، وبعد حكمه واصل العراق مسيرته في مختلف المجالات وبشكل خاص في الموقف من الدولة ومن قطاع الدولة ومن الفساد المالي والإداري والمحاصصة الطائفية، كما تم تجميد المشاريع الصناعية التابعة لقطاع الدولة بهدف خصخصتها عملياً، ودفع الدولة أجور العمال والموظفين في تلك المنشآت لأن الحكم لا يريد أن ينشأ في العراق قطاع دولة، رغم أهميته في المرحلة الراهنة وضرورة وجوده،

لم يكن هناك أي تصور عقلاني وإيجابي لبريمر في تنمية الاقتصاد والمجتمع. ربما قد تصور بعض قادة الولايات المتحدة أن سقوط النظام وتدمير الدولة البعثية سيجلبان الحرية والديمقراطية ونشاط القطاع الخاص، ولكن عقليتهما لم تتسع لتدرك بأن سقوط النظام والدولة البعثية من جهة، ونشر الحرية والديمقراطية من جهة  أخرى لا يدخلان بعلاقة ميكانيكية، بل هي عملية معقدة ومركبة وطويلة الأمد، إذ لا يمكن تحقيق ذلك بالتصور والرغبات وبدون دولة مؤسسية تهيئ تدريجاً القاعدة المادية لسيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أن الدولة هي القادرة ولفترة طويلة حقاً على النهوض بأعباء الكثير من العمليات الإنتاجية والخدمية دون أن يعيق ذلك بناء وتطوير القطاع الخاص من خلال تهيئة مستلزمات نهوضه. إلا إن الولايات المتحدة لم تكن لها مثل هذه النية، بل كانت روح الانتقام تسيطر على جورج دبليو بوش وروح الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، والعراق في القلب من هذه المنطقة. إن تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث أو المعاصر يؤكد بشكل قاطع أهمية الدولة ودورها وجملة من مهماتها، إضافة إلى قطاعها الاقتصادي في مجال اقتصاد النفط والعديد من المشاريع الصناعية والمشاريع الخدمية في المرحلة الراهنة وفي المستقبل أيضاً. وأن نسيان ذلك يقود إلى عواقب وخيمة، تماماً كما حصل في فترة حكم بريمر، وكما هو الوضع الراهن الذي هو استمرار بائس لفترة بريمر.

إن الخطوات التي قطعت في مواجهة نسبية للإرهاب والمليشيات الطائفية المسلحة وفي إعطاء الوعود في توفير إمكانية للشعب على التحرك والتمتع بحرية نسبية وعلى المشاركة بنقد الأوضاع القائمة والدعاية الانتخابية، لم تنفذ، بل ارتد الوضع على أعقابه، واتسمت فترة حكم نوري المالكي بمزيد من الفساد الذي عم البلاد والمزيد من الإرهاب الحكومي والميليشاوي، إضافة إلى الاغتيالات الفردية وتحول العراق تدريجاً إلى أشبه بمستعمرة إيرانية، وانسياب الأموال والأسلحة والمخدرات منها وعبر جميع بوابات الحدود التي كانت ولا تزال مفتوحة لها. ولغيرها.

لا تزال الحكومة العراقية في الوقت الحاضر تمارس سياسة بريمر في مجال الاقتصاد، إذ لا يزال التفكير المهيمن نيولبرالي، ويتسم بالفاقة الفكرية، وخاصة في الموقف من دور الدولة وقطاعها الاقتصادي وسبل التعامل مع مكونات الاقتصاد الكلي، ومن التصنيع وتحديث الزراعة ومن إغراق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية التي تساهم اليوم في تدمير ما تبقى من إنتاج صناعي حرفي أو إنتاج زراعي، حتى لبن أربيل المشهور لم يعد قادراً على الصمود في المنافسة مع الألبان الإيرانية والتركية والسعودية والسورية وغيرها، ولم يعد يصل إلى بغداد لكي تعرّف به وزارة الدفاع العراقية، كما في السابق،

نحن أمام حالة مماثلة لما كان يقول به طه الجزراوي ولكن بصيغة أخرى: “نحن نملك الأموال النفطية، ومن حقنا أن نستورد كل شيء، ولسنا بحاجة إلى تصنيع أي شيء”.  فأغلب الذين يقودون القطاع الصناعي في العراقي اليوم يتبنون الفكر النيولبرالي، وكل المصانع التابعة لقطاع الدولة مجمدة بأمل بيعها بأبخس الأثمان، ولكن مجلس النواب هو الذي أوقف هذا المشروع الذي أراده بريمر للعراق، لقد كانوا يريدون تحقيق الخصخصة التامة قبل الانتخابات القادمة، إذ من الممكن أن يأتي مجلس جديد يرفض الخصخصة الكاملة لمشاريع الدولة، إلا أن المنافسة الانتخابية الراهنة ساعدت على منع بيعها وبالطريقة التي أرادت ممارستها وزارة الصناعة العراقية واستعجلت في تقديم المشروع لمجلس النواب،

نحن أمام نهج غير سليم ومضر بالاقتصاد والمجتمع في العراق، ليس هناك من يقف ضد القطاع الخاص، بل لا بد من وجوده ومساهمته وتطويره، وليس هناك من يريد منع وصول رؤوس أموال أجنبية للعراق، ولكن كيف وبأي شروط وعلى وفق أية معايير، ولكن هناك من يقف ضد قطاع الدولة وضد الدعم الحكومي للفقراء والمعوزين، بما فيها البطاقة التموينية،

العراق بحاجة إلى قطاع الدولة والقطاع المختلط، إضافة إلى القطاع الخاص، العراق بحاجة إلى الدعم الحكومي للفئات الفقيرة والمعوزة والبطاقة التموينية، ولكن ليس للجميع بل للفئات المحتاجة لهذه البطاقة وليس للأغنياء والمتخمين، هنا ينبغي التمييز بين المواطنين لصالح الفقراء والمحتاجين، وسيبقى دور الدولة قائماً ومطلوباً للمشاركة الفعالة في تنظيم الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وفي هذا التقي مع الأخ الدكتور حيدر سعيد حين يقول:

“لقد كانت التجاربُ الأساسية للتحديث في المنطقة، من قبيل تجربة تركيا، هي من صناعة الدولة، غير أن العقل الأميركي لم يستطع أن يفهم منطق الدولة هذا والأهمية التي تحتلها في منطقتنا، ولم ير من فائدة وضرورة لها سوى أنها شرطي يواجه التطرف الإسلامي، وهو الذي جعل الولايات المتحدة تدعم الأنظمة القائمة في المنطقة، بعدما تبيّن لها أن إسقاط نظام صدّام قد أطلق نزعات أصولية نائمة،

"لقد كان التفكير في الدولة في منطقتنا ينطلق من قدرتها على تمثيل المجتمع: هل هي تعبِّر عن أمة واحدة، أو مجتمع متعدد؟ نحن لا نفكر في الدولة، هنا، من حيث انها جهاز بيروقراطي (يبدو، للمفارقة، أن إصلاحه لن يتم إلا بضربة نيوليبرالية)، بل من حيث هي ناظم اجتماعي، وهكذا، يبدو أن السنوات المقبلة ستكون عملا لإعادة إنتاج وبناء وترميم النزعة الدولتية.” (راجع: الدكتور حيدر سعيد، الدولتية وسؤال التحديث، مجلة الأسبوعية، العدد 109 بتاريخ 14م2/2010، بيروت)،

ومن هنا جاء اختلافي مع ملاحظات الدكتور بارق شبر،

الدكتور بارق شبر يتبنى سياسة مقاربة من حيث المبدأ للسياسة التي مارستها ألمانيا الاتحادية، والتي تسمى باقتصاد السوق الاجتماعي، وهي سياسة منبثقة عن النيولبرالية، كما ذكرت في حلقة سابقة، ولكن العراق بحاجة إلى سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تتطلب مسائل أخرى غير التي مورست في ألمانيا، ومنها:

**تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي وكناظم سياسي واجتماعي وثقافي غير مؤثر سلباً على حرية الفرد وحركته الفكرية، بل منشطاً لها ودافعاً للمبادرة والإبداع.

** العمل من أجل توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وفق أسس عقلانية بين التراكم والاستهلاك، وكذلك بين الاستهلاك الفردي والاستهلاك الاجتماعي، وكذلك سبل توزيع الحصة الموجهة للتراكم، أي للاستثمار بين القطاعات الإنتاجية وتنشيط القطاعات الخدمية المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية.

** تنظيم السياسات المالية والنقدية باعتبارها الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية، وتنظيم سياسات الضريبة وفق أسس تصاعدية على الدخول المباشرة وتقليص الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات، والعودة إلى بناء وتنشيط قطاع التأمين وإعادة التأمين لدوره المهم في عملية إعادة الإنتاج وفي توفير الاستثمارات للتنمية الاقتصادية ومواجهة الكوارث المحتملة..

** مشاركة الدولة في العملية الاقتصادية من خلال قطاعها الاقتصادي، وكذلك تنشيط دور القطاع الخاص والقطاع المختلط ودعمهما ليساهما بالنهوض الاقتصادي العراقي.

**تأمين دور للدولة في التأثير على السياسة الاستثمارية والقروض والتسهيلات الائتمانية للمصارف العراقية بما يشجع على التصنيع وتحديث الزراعة وفرض الحماية للصناعة والزراعة الوطنية من خلال سياسات جمركية فعالة، إضافة على دعم تطوين وتطوير شركات التأمين وإعادة التأمين لتساهم بفعالية في دعم التنمية الاقتصادية وفهم دورها في مجمل العملية الاقتصادية.

** تأمين سياسة فعالة لمكافحة البطالة وتنظيم المساعدات الحكومية من جانب الدولة للعاطلين عن العمل والمحتاجين للمساعدة.

** إصدار القوانين التي تحمي الفئات الاجتماعية المنتجة للخيرات المادية والفكرية من شدة استغلال رأس المال وسوء استخدام الثروة والضرائب التي يدفعها المنتجون وغالبية المستهلكين، ويشمل هذا تنظيم الحد الأدنى للأجور وتحديد ساعات وأيام العمل الأسبوعية والعطل والضمانات الصحية والشيخوخة …الخ.

** تنشيط دور منظمات المجتمع المدني، بما فيها نقابات العمال والمستخدمين والموظفين…الخ، في الدفاع عن مصالح الأعضاء والمجتمع، كذلك دورها كرقيب على الحكومة وأجهزتها والسلطات الثلاث في الدولة والشركات العامة والخاصة في نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي …الخ.

إن هذه الاتجاهات وغيرها لا تلغي وجود الرأسمالية في البلاد وفي مرحلة التحول من علاقات متخلفة إلى علاقات إنتاجية أكثر تقدماً في مضمار التطور التاريخي للنظم الاجتماعية، ولكنها تسعى للحد من الجوانب السلبية الكبيرة في الاقتصاد الرأسمالي، سواء أكان على النطاق المحلي أم النطاقين الإقليمي والدولي.

إلا إن الحكم الحالي بعيد كل البعد عن فهم هذه المسائل، دع عنك فهم القوانين الموضوعية للرأسمالية وميكانزمات (آليات) عمل النظام الرأسمالي ببلد مثل العراق. ولهذا نجد عراق اليوم في وضع بائس جداً، يتجسد فيه الضرر الكبير في الاعتماد على قطاع النفط الاستخراجي وتصديره، وبسبب مكشوفيته على الخارج تصديراً واستيراداً، وللأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية التي عاش العراق في ظل حكومة المستبد بأمره رئيس الوزراء السابق، وفي ظل حكومة رئيس الوزراء الجديد التي تواجه عواقب النهج الطائفي المتشدد السابق وسياساته التدميرية للوحدة الوطنية وفساد الدولة الكاملة في تلك الفترة وحتى الآن، وما نشأ عن ذلك من اجتياح الموصل ونينوى ومحافظات أخرى عبر داعش والتدخل الفظ في الشأن العراقي من قبل دول الجوار. إن العب الأساسي يكمن في طبيعة النظام السياسي العراقي، النظام السياسي الطائفي الذي يغذي الفساد والإرهاب في آن واحد، وهما وجهان لعملة واحدة ويتبادلان الفعل والتأثير.