العباس قراءة من جانب آخر |
القراءة الأخرى ليست لتخطئة غيرها بالضرورة، ولكنها دلالة على إن الموضوع محل القراءة أعمق وأوسع مما قد يتصوره البعض، وإن هناك جوانب أخرى مهمة فيه لم لتلحظ جيداً أو ربما لم تلحظ أصلاً، وكذلك فإن موضوع العباس عليه السلام إذا من قرأناه من وحي عاشوراء -ووفقاً لما تحدثنا عن فيه محاضرات سابقة حول شروط القراءة الصحيحة لعاشوراء وقلنا إنها ينبغي أن تنطلق من أهل البيت عليهم السلام وليس منا، أي مما قاله وفعله أهل البيت عليهم السلام ومن مقاماتهم- فإن ذلك بالتأكيد سينتج قراءات مختلفة مفيدة.
قلنا إن عاشوراء طلب اصلاح مستمر، ودروس عاشوراء في الاصلاح عديدة ومتنوعة بتنوع شخوصها وأحداثها، فمن كل شخص يمكن أن تستفيد دروس عدة وكذلك من كل حدث.
العباس عليه السلام ليس اسماً عادياً في عاشوراء فهو الرجل الثاني-إن صح التعبير- بعد الإمام الحسين عليه السلام فيها، فهو حامل الراية، وساقي العطاشا، وأخو الإمام، وقراءتنا له في الغالب لا تتعدى العناوين التالية:
1-الأخوة، ولذا نركز على عبارات مثل قول الإمام الحسين عليه السلام "الآن إنكسر ظهري ... ينقلها مقتل الحسين للخوارزمي وتفرد بها" من هذا المنطلق وحسب!
بينما سنرى إن للأخوة قراءات أخرى.
2-الشجاعة، فالعباس سبع القنطرة-هذا الموضوع محل جدل-، وبطل العلقمي، والبطل الذي يهابه الجميع، والذي أخاف الألوف على المشرعة، ولا شك في ذلك، ولكن الشجاعة ليست رسالة عاشوراء الأهم.
3-الجمال، فالعباس قمر العشيرة، وقمر بين هاشم، رغم إن الحديث عن ذلك بحسب تتبعي لم يكن صادراً من أهل البيت عليهم السلام فهم لا يركزون على هذه الأمور.
4-الكفالة، فالعباس كفيل زينب عليه السلام، وهذا المعنى يأخذ الكثير من كلامنا دون أن نخوض في تفاصيله، وماذا تعني الكفالة؟ وهل زينب سلام الله عليها كانت خائفة ومترددة في الحضور لكربلاء فتحتاج كفيلاً ضامناً؟! أم ماذا؟
ولي بحث منشور عن هذا الموضوع بعنوان "هل كان العباس كفيلاً؟".
5-قطع الكفين، وهو موضوع بارز بلا شك، علماً إن عدد من المصادر منها كتاب المناقب والمثالب لأبي حنيفة النعمان المغربي ذكرت بأنه تم قطع رجليه أيضاً.
6-السقاية: وقد عرف العباس عليه السلام بعدة ألقاب متعلقة بهذا الأمر ساقي العطاشا أو الساقي، ومنها أبي قربة، علماً إنه طلب الماء عدة مرات-لعلها ثلاثة- أولها كان يوم السابع مع عدد من اصحاب الامام وحصل عليه ومنها في يوم العاشر.
في الغالب بحسب تتبعي لا تتعدى أغلب قراءاتنا للعباس عليه السلام ودوره في عاشوراء هذه الصور وهي صحيحة-إذا استثنينا الرابعة منها والمبالغات والفهم السلبي لبعضها- و لننطلق مما قاله الأئمة عليهم السلام بحق العباس عليهم السلام ونرى إن تصورنا وقراءاتنا لا زال فيها مجال للمزيد:
1-يقول الإمام زين العابدين عليه السلام، كما ينقل عنه ثابت بن أبي صفية في كتاب أمالي الصدوق ص547: " ... رحم الله عمي العباس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه، ...".
2-يقول الإمام الصادق عليه السلام:، كما ينقل عنه المفضل عن عمر في كتاب سر السلسلة العلوية ص89: كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً،..."
3-اضافة لزيارة العباس عليه السلام المروية عن الصادق عليه السلام جاء في خاتمتها: "أشهد إنك لم تهن ولم تنكل، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيين،..."
من خلال النصوص المتقدمة ومن خلال استعراض النصوص التاريخية عن سيرة العباس عليه السلام يمكن أن ننطلق بقراءات أخرى عدة منها:
1-تكرر لفظ البصيرة في وصف العباس عليه السلام فتارة قيل إنه "نافذ البصيرة" وتارة "إنه مضى على بصيرة.." والأولى بحسب معاجم اللغة ذو ذهن وعقل ثاقب بتعبير آخر ذكي، والثانية كان على بصيرة من أمره، أي كان مدركاً له.
فالقراءة من جانب آخر هنا تعني دراسة مستوى العقلية التي يمتلكها العباس عليه السلام في المجالات كافة ومنها العسكرية والتعبوية وغير ذلك، وتعني إن العباس عليه السلام كان مدركاً لعاشوراء وما سيحدث فيها لذا لم نجد أي نص عنه يستفسر عن شيء متعلق بالحرب أو تفاصيل التحرك من أخيه الحسين عليه السلام كما فعل الآخرون!
ولاحظ إن الإمام أوصى الكثيرين بالصبر حتى أخته زينب عليه السلام ولم نجد نص يوصي فيه العباس بالصبر!
فالعباس مدرك لعاشوراء بحيث لا يحتاج للاستفسار ولا الوصية بالصبر!
2-عمره الشريف: إنه كان بعمر 34 سنة حين استشهد وهذا يستدعي النظر في قراءات مختلفة بخصوص ذلك منها:
أ-إن أكثر عمره كان مع أخوته الحسن والحسين عليهما السلام لأن كان حين استشهد الإمام علي عليه السلام بعمر ال14 أو أقل بقليل وهذا يعني إنه نتاج تعليم أخوته في الغالب بتعبير آخر هو مثال للتربية الحسينية.
فتحليل هذه التربية التي انتجت العباس يتطلب قراءات عدة.
ب-الفارق الزمني بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام كان بحدود 23 سنة وهو فرق ليس بالقليل.
ج-إنه كان شاباً حين استشهد-خاصة إذا ما قسناه بالإمام الحسين عليه السلام وأبرز اصحابه-ومع ذلك كان حامل اللواء والشخص الثاني بعد الحسين عليه السلام، ولم يصلنا أي نص يتحدث عن تحسس أصحاب الإمام الحسين عليه السلام من ذلك في حين كان شباب علي عليه السلام سبباً لدى البعض من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله في رفض إمامته!
فأي مستوى وصله العباس وأي أصحاب هم أصحاب الحسين عليه السلام!
3-علاقة الاخوة:
قلنا إن علاقة الأخوة مما يجري الحديث عنه مطولاً بخصوص العباس عليه السلام ولكن بمفاهيم تتجاهل بعض الجوانب الواقعية، وتصور البعض كل التحركات والتعاطف وغيرها بمنظار الاخوة فقط، ولسنا نريد نفي تأثير الأخوة فهذه مشاعر إنسانية لا يمكننا تجريد أحد منها، ولكن مما نتغافل عنه كثيراً أمران:
أ-إن الطاعة للإمام الحسين عليه السلام ونصرة الدين هي هاجس العباس عليه السلام وليس الأخوة فقط ، لاحظ ماذا يقول في أشعاره:
لما مضى لطلب الماء :
لا أرهب الموت إذا الموت رقى..... حتى أوارى في المصاليت لقا
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا.....إني انا العباس أغدوا بالسقا
ولا أخاف الموت يوم الملتقى
وقال عندما قطعت شماله:
يا نفس لا تخشي من الكفار ...وأبشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار....قد قطعوا ببغيهم يساري
فأصلهم يا رب حر النار
وقال عندما قطعت يمينه:
والله إن قطعتمُ يميني....إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين...نجل النبي الطاهر الأمين
فالنبي محمد صلى الله عليه وآله هو الحاضر الأبرز في شعر العباس، وكذلك الدفاع عن الدين والإمامة، وليس معاني الأخوة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى إنه وبحسب المروي عن الإمام الصادق عليه السلام فإن شعار الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء كان "يا محمد" فلاحظوا مدى إدراك العباس ونفاذ بصيرته.
بل إنه حتى عندما يذكر الحسين عليه السلام في أول بروزه لهم يربطه بالإمامة بوضوح حيث يقول:
أقسمت بالله الأعز الأعظمِ.... وبالحجون صادقاً وزمزمِ
وبالحطيم والفنا المحرمِ.... ليخضبن اليوم جسمي بدمي
دون الحسين ذي الفخار الاقدم...إمام أهل الفضل والتكرم
بل إنه حتى الإمام الحسين عليه السلام لم يركز على مفهوم الاخوة في شعره فهو عندما رأى العباس مصروعاً على شط الفرات وهي أهم لحظة ممن أن تبرز فيها مشاعر الأخوة بوضوح بكى وأنشأ يقول:
تعديتم يا شر قوم بفعلكمُ.... وخالفتم قول النبي محمدِ
أما كان خير الرسل وصاكم بنا...أما نحن من نسل النبي المسددِ
أما كانت الزهراء أمي دونكم...أما كان من خير البرية أحمدِ
لُعنتم وأُخزيتم بما قد جنيتمُ....فسوف تلاقوا حر نار توقدِ
ب-العباس عليه السلام لم يكن الأخ الشقيق للإمام الحسين عليه السلام وهذا درس نغفل عنه كثيراً، فالصورة المعروفة لدينا عن الأخ غير الشقيق والعلاقة معه هي صورة العلاقة المتوترة التنافسية ونحن نتعاطى معها في الغالب على إنها أمر لا مفر منه فكل علاقة من هذا النوع محكوم عليها بذلك، وهنا أهل البيت عليهم السلام كالعادة يعطونا الدرس تلو الدرس وليس درساً نظرياً فقط بل درس عملي.
فأم البنين أم العباس لم تعمل كما تعمل كل النساء فتخلق جواً تنافسياً بين أولادها وبين أولاد ضرتها "الزهراء عليها السلام" بل ربت أولادها ليكونوا في مقدمة المضحين من أجل أخيهم غير الشقيق، فأي مستوى من التربية هذا الذي عكس حالة غالبية تنافسية إلى حالة تضحية؟
وأي أمرأة عظيمة هي أم البنين؟ وأي شخص عظيم هو العباس عليه السلام؟
3-اتباع القيادة والحرص عليها:
يروى عن علي عليه السلام في وصفه لعلاقته بالرسول صلى الله عليه وآله قوله: كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه.
وروى صاحب كتاب الاخبار الطوال كم ينقل عنه الريشهري في موسوعة الإمام الحسين عليه السلام ج4 ص331: وبقي العباس بن علي ع قائماً أمام الحسين ع يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال، حتى قتل رحمة الله عليه.
لاحظوا كيف هو اتباع العباس عليه السلام لقائده يميل معه مال!
هذا باختصار ما أردنا قوله وهو لا يعكس كل الصورة بلا شك فهناك قراءات أخرى للعباس عليه السلام وأقواله وفعاله منها القراءة العرفانية والقراءة التربوية والقراءة الشعرية وغير ذلك. |