رواية بيروت تل ابيب .. د. افنان القاسم |
الأعمال الكاملة الأعمال الروائية (21) بيروت تل أبيب BEYROUTH TEL-AVIV رواية إلى عموس عوز إلى أمين معلوف القسم الأول
بيروت الفصل الأول
كانت الحرب على وشك الوقوع في لبنان، وكان ذلك يسلينا كثيرًا نحن الصغار والكبار. كنا ننتظر، كلنا، بفارغ الصبر، أن يتفجر الوضع. كان ذلك رد فعلنا على حياة البؤس التي نحياها أكثر من استخفافنا بالموت، فالحرب كانت شغلنا مثل باقي أشغالنا، وكانت تجعلنا نقضي وقتنا، فما قيمة الوقت في أعيننا؟ لم نكن نتعلق بالآمال الكاذبة، فلم تكن لنا آمال، وهكذا كان كل شيء ذريعة لتسليتنا، أتفه الأشياء وأخطرها. ربما كان ذلك لأننا لم نكن لا من بيروت الغربية ولا من بيروت الشرقية، ولأننا لم نكن نعتبر لا مسيحيين ولا مسلمين، فحينا يقع على الخط الفاصل بين البيروتين، في قلب العاصمة. كنا، نحن السكان الملعونين، الأكثر شطارة، فلم نكن نقول لأحد إلى أية طائفة ننتمي، "انتهازيون أبًا عن جد"، كما كانت تقول العمة مريم. لتخلط عالمها، كانت العمة مريم تضع حول عنقها الصليب وآية الكرسي، فيعتبرها المسيحيون مسيحية عندهم، ويعتبرها المسلمون مسلمة عندهم. كمُلابَسة ليست مؤسفة، كان اسمها اسمًا للطائفتين، ولو لم تكن تُسَمَّى كذلك لاخترعت اسمًا موافقًا للظروف، لتخدع الجميع. بالمقابل، كان الكل يحاول خداعنا. كان كل طرف من أطراف النزاع يحاول كسبنا إلى جانبه، بما أن لا هوية محددة لنا، وللمصلحة الاستراتيجية التي كان يمثلها حينا. كان تقي الدين الشيعي كما يدل اسمه عليه أول من جاء يعظ عندنا، مع أنه لم يكن إمامًا. كانت العمة مريم تعرفه –ونحن كلنا- منذ كان طفلاً صغيرًا. في ذلك الوقت، كان يأتي عندها مع أمه، عندما لا تجد أمه ما يأكلونه، فتذبح لأم تقي الدين الدجاجة التي يعطيها إياها كتائبي كبير لخدمة تقدمها له تعبيرًا عن تشكراته الحارة، فالدجاجة بالنسبة لهذا الكتائبي البخيل أرخص من كيلو لحم بكثير. كان عليها أن تبقي لنا بعضها نحن أبناء إخوتها وأعمامها الذين كنا نعيش عالة عليها وكنا كثيرين. وكما كانت عادتنا عندما نشبع، كنا نلعب ببنادقنا الخشبية لعبة الحرب، وكان تقي يخسر دومًا لكثرة ما كان خوافًا. في خطابه إذن، كان تقي العظيم يعدنا بالثروة والعدالة إن وقفنا إلى جانبه، فكانت العمة مريم تقول له إن كل الحي معه. لكن ما أن كان يذهب حتى كانت تسخر منه. كنا نسخر منه كلنا. خواف الزمن القديم هذا يريد أن يجعل من نفسه علينا زعيمًا في الوقت الحاضر! وعن أية عدالة كان يتكلم؟ عن أية ثروة؟ كانت العمة مريم تسأل. بالنسبة لها العدالة والثروة لا تعيشان بوفاق. بعد تقي الدين كان يأتي دور بطرس الأحمر. كانت العمة مريم في الزمن الماضي تنظف بيتهم ثلاثة أيام في الأسبوع في بيروت الشرقية، وكانت كذلك تذهب لإحضار بطرس من مدرسة الراهبات على الساعة الرابعة عندما تكون أمه مشغولة مع صاحباتها في جمعية "خبز ورحمة"، حتى أنها كانت تصحبه إلى الكنيسة يوم الأحد إن فضلت أمه الذهاب "لتناضل". كان الصغير بطرس يذرف دموعًا حارة إذا ما فاته القداس. الآن، وقد صار أحمر، كان يعدنا هو أيضًا بالثروة والعدالة إن وقفنا إلى جانبه، وكانت العمة مريم تقول له ما تقوله لتقي، إننا أزلامه. بعد ذهابه، كانت تحكي كيف كان هذا الشيوعي، وهو صغير، يبكي ليذهب إلى القداس! وكانت تحكي كذلك عن قسوة أمه، وتضحك. كانت تتذكر عندما عملها تحته في جناح الكنيسة، لا لسبب إلا لأن الخوري، مخطوفًا بوحي رباني، قد رفع صوته. كنا نبكي من الضحك. أبو أرز، القيادي الكتائبي، لم يكن أبدًا يخلف موعدًا معنا. كان يزورنا هو الآخر، فلم يكن يشك، بما أن حينا يقص بيروت من وسطها، في أن أولى الطلقات ستنطلق منه. كان يقرر، دون أن يأخذ رأينا، أننا كلنا مسيحيون، كلنا كتائب. لم يكن يتكلم عن ثروة وعدالة، لكن عن واجب ونظام. كانت العمة مريم تصفق له، كنا كلنا نصفق له. كانت العمة مريم تعلم أنه سيوزع ظرفًا من النقود، وكانت الثروة من المحتمل أن تكون معه، ويا لها من ثروة! لم تكن تتجاوز بضع ليرات لبنانية لكل واحد منا. أما العدالة، فلم تكن تهمنا. منذ وجدت بيروت، والحي يتعامل هكذا مع أبي أرز وأبي أبي أرز وأبي أبي أبي أرز، وسيتعامل في المستقبل مع أرز، ابن أبي أرز. وما أن كان يدير لنا ظهره حتى تصف العمة مريم القيادي الكتائبي بالغبي، غبي وغني فضلاً عن ذلك، فكنا ننفجر كلنا ضاحكين. برفقة أبي المشارق، لم يكن كمال الدرزي يتأخر عن الظهور عند العمة مريم، كان يعتبرها زعيمة كل الحي. بعكس الآخرين الذين كانوا يأتون ليتأكدوا من دعمنا إياهم، كان يريد أن يثبت لنا أنه سيبقى إلى جانبنا مهما حصل. هكذا هو يفهم "الاشتراكية"، كما كان يقول الدرزي، معتقدًا أنه هكذا يؤدي رسالته على أكمل وجه كما يدل عليه اسمه. "اشتراكيتك أنت، يرد الآخر باحتقار، أنا ماوي." "نعم، لكن الماوي من المشرق عليه أن يدين لي بالولاء." كان الاثنان يبدآن بالجدل في هذا الأمر النافل، فتهدد العمة مريم بعدم دعمها إياهما. كنا نبلع اعتراضاتنا عليها بصعوبة، ونحن نفكر فيما سنخسره، فتجاملنا العمة مريم، وتقول إنها ستدعم الاثنين. منذ أجيال، وهما هكذا، الواحد تطرفي والثاني اشتراكي، على الطريقة الدرزية طبعًا. وفي الختام، كانا يكافئان كل الحي بمئات صناديق السجائر التي كنا نبيعها في السوق السوداء. بالمقابل، كان القائد الفلسطيني عبد السلام يأتينا بمئات صناديق الأسلحة. عشية أمس، كانت العمة مريم قد شاهدته بين المدعوين عند أبي أرز، وهي تساعد في تحضير الوليمة. كان من المفروض أنهما ألد عدوين في الكون، هو وأبو أرز، وكنا نتظاهر بعدم معرفتنا ذلك، فأقل الأشياء أن تعرف كيف تغمض عينيك عما يتعارض عند واحد يوزع كلاشينكوفات بكل ذلك الكرم، كلاشينكوفات كنا مفتونين بها، فنلعب في الأخير لعبة الحرب حق اللعب. كانت العمة مريم قد خافت فجأة، تجهم وجهها، وانشغل بالها، عندما فكرت في تَبِعات هذه الحرب. لم يكن باستطاعتها ألا تحب عبد السلام، كنا كلنا نحبه، حتى ولو لم يكن يحبنا بالفعل. كان الأكثر ذكاء بين كل القياديين الآخرين، ولم يكن هناك غيره ممن يستوجب فخرنا. خلافًا لما كان يدل عليه اسمه، لم يكن عبد السلام يتمنى سوى الحرب. ولأنه كان ماهرًا في التخطيط، كان يدفع خصومه إلى الإطلاق أولاً، ليدَّعي أنه ضحية الرعب ونصير السلام في نفس الوقت. كان يعلم أن الحرب الأهلية تقترب، لأنه كان محركها بشكل من الأشكال. كان يستبق الأحداث، هدم بيروت، بناء بيروت، ارتفاع أسعار الإسمنت، ولهذا السبب عندما التقت بعيني برناديت عيناه، ابنة أكبر تاجر إسمنت في البلد، قرر إغواءها. لم يكن لزيارته لنا هدف آخر غير أن يطلب من العمة مريم مساعدته على إيقاع برناديت في شِباك العاشق الزائف الذي كانه، فلم تكن الكلاشينكوفات سوى وهمٍ خادعٍ لإلهائنا. العمة مريم، التي تعرف برناديت جيدًا، ابنة عم بطرس الأحمر، كانت قد دعتها عندها عندما كان عبد السلام يوجد "بالصدفة" هناك. ما أن رأت برناديت سلاحه حتى اختلجت، فلم تكن تعلم أنها على صلة برامٍ للنار، وخافت من وقوع حادث. أبعدت بأصابعها المرتعشة السلاح، واستأذنت الحضور بالانصراف، دون أن تبالي بنداءات العمة مريم. تذرعت بواجب حضورها القداس مع أسرتها، وغابت. لم نعد نراها خلال وقت بدا لنا طويلاً جدًا. أرسل عبد السلام في طلبها بعض الفدائيين، فذهبوا إلى الكنائس، وذهبوا إلى الشواطئ، تحدوا الموج، تحدوا القروش، تسلقوا حتى الصخور، بلا جدوى. في الليل، كنا نراقب، بصحبة عبد السلام، المكان الذي كانت تسكن فيه. كان يبدو أن برناديت قد اختفت تمامًا. الشيء المهم الوحيد الذي لاحظناه كان التصرف الغريب لأبيها. كنا نتساءل عما يمكن أن يكون قد وقع لها، كنا مستعدين لكل شيء لنعلم. في الصباح، عادت إلى الظهور أخيرًا. تقدمت مباشرة من عبد السلام بوجه شاحب، وأخبرته أن أباها كان على وشك الإفلاس، وأن أمها تقضي نهارها في الصلاة كآخر استجارة. كانت برناديت قد بادرت بالذهاب إلى قصر أبي أرز الجاثم في الجبل لتعرض وضع أسرتها. كان قد رفض استقبال أبيها، وفيما يخصها، كان قد احتجزها بضعة أيام. رغم التواطؤ الذي كان يربط أبا أرز بالعمة مريم، كان رئيس الميليشيا المارونية الأكثر بطشًا. هو أيضًا كان ماهرًا في التخطيط. كان يصل دومًا إلى إخضاع الجميع وضمان ظهره. هكذا كان قد نجح في نزع مِلكية أبي برناديت. كان يضارب كعبد السلام على تفجر سوق الإسمنت بعد الحرب. كان هذا المنافس الحقيقي لذاك. كانت برناديت تبكي. كانت تشد صليب المعمودية المعلق على عنقها. كان رجال أبي أرز قد رموها ساخرين أن تقترح على أبيها الصعود إلى نوتردام لبنان، فالله وحدة القادر على إخراجه من هذه الورطة. طمَّن عبد السلام خواطرها:
نظرت إليه. تابعت أنها قد حاولت تحذير أبيها من أبي أرز مؤكدة أنه لا يسعى إلا لاحتكار سوق الإسمنت. أبوها الذي كان مؤمنًا جدًا لم يكن يصل إلى أدراك أن الطيبة التي يُعَلِّمُهَا الإنجيل لم تكن لأبي أرز سوى وسيلة لدعم سلطته. إن كان قد تشوش من كلام ابنته، فهو لم يكن يصدقها. كان يفكر أنها تبالغ. سكتت، ثم أضافت موجهة الكلام إلى عبد السلام:
كانت مدينة بيروت صامتة. لم نكن نسمع سوى ارتداد الأمواج. كانت بيروت تكره الشتاء. كانت قد اعتادت على حرارة الرمل. أردنا أن نرافق برناديت حتى بيتها، فرفضت متذرعة بأن زعران أبي أرز إذا ما رأوها معنا قتلوها. لم نلح. قبل أن تصل إلى بيروت الشرقية، أشارت بإصبعها إلى أبي مزة، وهو مشغول ببناء سور في قلب حينا. كان في حوزته عدد كبير من أكياس الإسمنت.
ابتسمت:
كانت برناديت تريد أن تقول شيئًا، عتمت ملامحها، وسكتت. كانت تعرف أن العمة مريم وحدها من تستطيع التدخل، بينا العمة مريم لم تكن تريد أن تعرف شيئَا. كانت سياستها أن تترك منافسها يفعل ما يشاء. كانت تغمض عينيها لئلا تفسد الجو. ثم، بالنسبة لها، كان الكل يساوي الكل. لو كانت هي نفسها مكان أبي مزة لفعلت مثله. قرع جرس، فرفع أبو مزة رأسه من فوق سوره عاليًا، عاليًا، حتى أمكننا الاعتقاد بظهور رئيس الملائكة القديس ميخائيل. عندما مضت برناديت من أمامه، توقف عن العمل، فشعرت عليها بثقل نظرته المليئة بالغضب، حتى دخلت دارها. بعدما اطمأن عبد السلام على برناديت، ذهب عند أبي أرز. استقبله بحرارة، وقدم له كأس عرق من الصنف الفاخر. تبادل ومضيفه بعض عبارات المجاملة، وبعجلة كشف عن موضوع زيارته.
تظاهر عبد السلام بأنه لم يسمع شيئًا:
تردد متحيرًا، ثم قال:
قهقه.
نهض، وليختم اتفاقهما، أمر ميليشياه بذبح عشرة خراف على شرف عبد السلام. قامت العمة مريم وعشر نساء بالطبخ، وأمضينا، نحن مرافقو عبد السلام وعبد السلام وأبو أرز، المساء، ثم الليل، ونحن نأكل، ونشرب، ونضحك، ونغني. في الغد، فعل أبو أرز عكس ما اتُّفِقَ عليه، استولى على دكاكين إسمنت أخرى لم تكن لأبي برناديت. أشرف أبو مزة على العملية، بينما واصل أبو برناديت الصلاة والابتهال. لم تكن برناديت قد أرادت الانضمام إليهما، ذهبت إلى الكنيسة، وأخذت تقرع أجراس الاحتجاج. تبعها أبو مزة، نزع صليبها، وخمشها. شاهدت العمة مريم كل شيء هادئة الأعصاب. أما عنا، فكنا ننظر من بعيد، ولا نفعل شيئًا. لحسن الحظ أن الفدائيين لم يكونوا موجودين، وإلا فتحوا النار قبل الوقت المقدر للحرب. على أي حال، لم تكن العمة مريم تريد المشاركة في هذه الحرب. لن تكون هذه الحرب أبدًا حربها. أما نحن، نحن الذين وُلدنا في الشارع، فستكون الحرب حربنا. لكننا لم نكن نعلم في أي جانب. أنا شخصيًا كنت أعلم، لكن ليس أبناء أعمامي، ليس جيراني. بالنسبة لهم، كانت الصدفة هي التي ستقرر. بانتظار ذلك، ذهب أبو مزة ببرناديت إلى حيث لا يعلم أحد، واثقًا من أننا سننساها بسرعة. مع ذلك، أعلم أبو أرز عبد السلام أن المصير الذي تنتظره برناديت وأبوها، مهما كان، لن يمنعهما من اقتسام سوق الإسمنت بعد الحرب. جمع رجال أبي أرز كل ناس الحي، وخطبوا فيهم قائلين إذا دخل الشيطان في قلب أحدهم، حلت اللعنة عليهم كلهم. أشاروا بإصبعهم إلى ناحية عبد السلام جاعلين منه المسئول عن الشيطان الذي أقام في قلب برناديت. طلبوا منهم أن يشكروا الرب الذي أنقذهم من الشيطان. ثم ذهبوا كلهم، مسيحيون ومسلمون، إلى الكنيسة، وليس هذا من العجب في شيء. كما سبق لي وقلت لكم، على شاكلة العمة مريم، لم نكن لا مسيحيين ولا مسلمين، ويمكننا أن نكون الاثنين على أحسن وجه. قضينا وقتنا في ملاحقة أبي مزة الذي كان ينهب كل دكاكين الإسمنت، الواحدة بعد الأخرى. كان عبد السلام يحلم بامتلاك بعضها، لكنه طرد بسرعة هذه الفكرة. كان أبو أرز موافقًا على اقتسام السوق معه بعد الحرب لا قبلها. كان هامش التدليس الوحيد الذي بقي لعبد السلام أن يمسك بأبي أرز غير مباشرة، بإثارة رجاله على أبي مزة. كان أبو مزة قد عاد إلى بناء السور، وكان يتباهى بالكشف عن عضلاته الموشومة بعظمتين وجمجمة. كان رجال عبد السلام يريدون قتله، هدم السور، والعثور على برناديت. قالت لهم العمة مريم إن الوقت لم يحن بعد لمهاجمته. لم تقل لهم هذا لانتهازية، ولا لبعد نظر، وهدأتهم ببعض قناني العرق من الصنف الرديء. لم تعد لدينا أخبار عن برناديت، وكان بناء سور أبي مزة يتواصل. رغم ما يبديه أبو أرز من أحسن حال بخصوص عبد السلام، لم يعد سور ابن "الأَحْبِة" هذا يمثل تهديدًا لعبد السلام فقط بل ولنا كلنا كذلك، على الأقل للذين كانوا يأملون بالانضمام إليه. عاد أبو المشارق لرؤية العمة مريم برفقة كمال الدرزي، تقي الدين، وبطرس الأحمر. كان عبد السلام قد سبقهم عندها. رغمًا عن تحفظات أبي المشارق، اتفقوا على أن يردوا أبا مزة إلى الصواب محاولين الحوار، لأن "لغة السلاح مدمرة"، أقام تقي الدين الحجة بحكمة.
لم تكن العمة مريم موافقة. بالنسبة لها، لم يكن غريمها خطرًا إلى هذه الدرجة. كانت تعرفه جيدًا. كان يريد أن يبدي فقط ما هو قادر على فعله، وسيقف الأمر عند هذا الحد. لن يقسم الحي أبدًا، ولا المدينة، ولا البلد. لن يهاجم أبدًا طالما هو يعرف أنها هنا.
الفصل الثاني
رفض أبو أرز كل حوار. كانت أم مريم على حق. كان منافسها يبحث قبل كل شيء عن إظهار قوته. لكنها كانت تبخس قيمته بشكل فظيع. نحن الذين دفعتنا الصدفة إلى التحالف مع عبد السلام، كنا نعرف أن سلاحنا فقط من سيسمح بتدمير سور ابن الأًحْبِة هذا، وسيكون نفس الشيء لتدمير مدينة بيروت. فكر عبد السلام طويلاً: كان هذا ينسف تقسيم سوق الإسمنت المتفق عليه مع أبي أرز. كان يعتبره قادرًا تمام القدرة على تدمير ليس فقط بيروت لكن كل لبنان أيضًا. غير أنه بقي كثير الحذر منه، وقرر أن يمتحنه. إذا كان أبو أرز يحلم بامتلاك العاصمة اللبنانية وحده، فسيكون من واجبه أن يدمر كل أوهامه. عندما دفع حلفاءه، سكان الأحياء الفقيرة، إلى النزول إلى الشوارع مطالبين بالخبز، وهم يهتفون الشعارات المعادية لأبي أرز، راق لعبد السلام تَخَيُّلُ أنه سيأخذ مكانه قريبًا، وأنه لن يتأخر عن السيطرة على الجميع سيدًا مطلقًا. كان أبو أرز يخاف من مظاهرات الجماهير، فأمر أبا مزة بوقف بناء السور حالاً، ووضع قواته في حالة استنفار. يوم الأحد، انتظر أن يشكل فيض الناس الذاهبين إلى الكنيسة في بيروت الشرقية تجمعًا يعقب هذا الفيض ليخاطبهم. قال لهم إنهم يستطيعون القيام بواجبهم الرباني بكل اطمئنان، لأن رجاله على استعداد لتقديم حياتهم لأجلهم. تأثرت العمة مريم بهذا الخطاب. لم يكن هناك أحد في الوجود يقول لها إنه مستعد للموت لأجلها. عندئذ، خبأت آية الكرسي، وأظهرت صليبها قبل الدخول في الكنيسة، وروحها تفيض حبًا وصفاء. كان الأمر بوقف بناء السور قد أغاظ عبد السلام كثيرًا. هذا الحائط الصغير الذي لا قيمة له كان يمكنه أن يكون حجة ممتازة ليشن حلفاؤه الحرب. كان يأمل أن توقظ تعبئة قوات أبي أرز الغريزة القتالية عند حلفائه. هذا ما أخبر العمة مريم به حال خروجها من الكنيسة، اعتمادًا منه على ما تكنه له من عاطفة. عندئذ، خبأت الصليب، وأظهرت آية الكرسي. طمنته عن دعمها إياه ودعمنا كلنا، فطلب عبد السلام من تقي الدين أن يهدئ مظاهرات المغضوب عليهم من المحرومين. أفهمه أن أحسن حل، في الأخير، هو القتال. منذ أن استنفر أبو أرز رجاله، أصبحت الحالة لا يمكن انعكاسها. طلب منا بطرس الأحمر بصوت يغلب عليه الحزن ألا ننسى ابنة عمه برناديت. حض أبو أرز ناسه على الذهاب إلى الكنيسة من جديد. خلال ذلك، ذهب إلى أقرب بنك ليسحب بعض النقود. لما رأى أن موظف الشباك وحده، سدد سلاحه عليه في اللحظة التي فتح فيها الصندوق، وجعله يقسم ألا يقول لأحد ما جرى، وإلا أرسله إلى العالم الآخر. عندما خرج من البنك، لم يكن بإمكان أحد أن يشك في أن هذا الرجل المحترم كان يحمل في حقيبته مبلغًا معتبرًا حصل عليه تحت تهديد السلاح. كان نصف المبلغ المسروق لدفع ثمن شحنة صغيرة من الأسلحة الأمريكية، والنصف الآخر له. وهذا ما كان قد أغاظ أكثر ما يكون العمة مريم. عند انتهاء القداس، خرج المؤمنون من الكنيسة، والأحاديث تدور حول الهولد-أب الذي انتشر خبره بسرعة على إيقاع التساوق الموسيقي النهائي لِتَتَابُعٍ لباخ. رفع القيادي الكتائبي إصبعه باتجاه عبد السلام، باتجاه حلفائه، وحتى باتجاهنا، العمة مريم ونحن. "اللصوص، هم، رمى، المجرمون، المسئولون عن كل عمل سيء." كان عبد السلام ساخطًا من الطريقة التي يحرض فيها أبو أرز الناس ضده. كان أكثر سخطًا لاتهامه بالهولد-أب، دون أن يقبض أقل فلس. وهي تفكر في حصتها، هي كذلك، وشت العمة مريم بهوية الساطي.
أيد تقي الدين عبد السلام، ليس دون وضع كشرط أن تكون أكبر حصة من الغنيمة له، ليوزعها على الفقراء. أخبر أبو المشارق وكمال الدرزي أنهما مع السرقة، حتى إذا ما لم يشاركوا فيها. عاند بطرس الأحمر. وعده عبد السلام أن يجد برناديت إذا ما أعطى موافقته على العملية. وافق، لكنه كأبي المشارق وكمال الدرزي لن يشارك في الهولد-أب. أعلمنا أن حزبه يعد إضرابًا في معمل البسكوت، ضد شروط العمل ورفع الجدار. كان في تقديره أن قرار أبي أرز بوقف بناء السور لا يكفي. بالنسبة له، كان يلزمنا الذهاب حتى النهاية، فندمر الجزء الذي تم بناؤه بيننا وبين بيروت الشرقية. كالعمة مريم، لم يكن عبد السلام يعير اهتمامًا لما يقوله. كان يفكر في السطو القادم، ويعد خطة الهجوم. اقترب من تقي الدين، وقال له:
نرفز القيادي الشيعي:
هدأ الآخر:
عند هبوط الليل، كنا نتقدم برفقة تقي الدين وبعض من رجاله في نتانة مجاري بيروت. كان تقي الدين يرغي ويزبد في كل مرة تنزلق فيها قدمه في الكنز الغائطي. كان يخاف من جراذين بيروت التي حتى مشاعلنا لم تكن تخيفها. ونحن ندخل في حرم البنك، هاجمنا مجهولون. كانوا يأتون من الخارج. كان علينا استخدام أسلحتنا للقيام بهجوم مضاد. سقط عدد منا ومنهم. كان ذهولنا أكثر ما يكون عندما رأينا كمال الدرزي مع المقتحمين. انفصل أبو المشارق عن مجموعتهم، وجاء ليتفاوض معنا. لم يكونا، لا هو ولا كمال الدرزي، يثقان بتقي الدين. كانا يحقدان عليه، لا علينا. بشكل من الأشكال، كانا قد قاما بهذا الهجوم للدفاع عنا، ليتفاديا أن ينقلب تقي الدين علينا، ويقتلنا، كي ينعم وحده بالغنيمة. صفرت الطلقات من جديد، فهدَّأت العمة مريم تقي الدين. اتفقت مع أبي المشارق وكمال الدرزي أن ندخل كلنا معًا الحجرة المصفحة. على مرأى الغنيمة، نسينا كل شيء، النزاع الذي كنا قد دفعنا ثمنه باهظًا، الأسلحة التي كنا نريد شراءها، الدموع التي كان المحرومون قد ذرفوها، حتى يأس أمهاتنا، آبائنا، وكل أجدادنا، كنا قد نسينا أنفسنا. كانت الدولارات ترقص. قرأنا في عيني تقي الدين الأحلام الأكثر جنونًا، في عيني كمال الدرزي ابتسامات أحيائه وأمواته، في عيني أبي المشارق حمائم السلام المغتالة. وهم يضمون الذهب، كانوا يعبِّرون بالإيماء عن الارتعاشات الدَّنِفَة لرجل يداعب امرأة. الفكرة المضحكة عن هذا الجماع مع النقود جعلتهم من بعد يصرخون من الضحك. قهقه عبد السلام، هو كذلك. كان سعيدًا أن يرى الرجال يضحكون. عندما مضت لحظة المرح هذه، انسحبنا من حرم البنك، وضميرنا مثقل بكوننا ساهمنا بِهِمَّة في السطو على مدينة كانت تتألم منه بما فيه الكفاية.
الفصل الثالث
لم يحرك أبو أرز ساكنًا، لأن القتلى كانوا قتلانا، والهولد-أب كان نتيجة لهولد-أب آخر. لستر الفضيحة، شاركنا كلنا في التحضير لإضراب معمل البسكوت المزمع شنه، وأقنعنا العمال أن كرامتهم وأجورهم معرضة للخطر. قرر رب العمل، السني علاوة على ذلك، أن يفصلهم كلهم، ويطلب من أبي أرز نجدته. هرع أبو أرز طالبًا مساعدة أبي مزة، فأشرق وجه أبي مزة عند هذا الطلب. كان يتخيل كيف سيضرب، وفي حالة ما ستتعقد الأمور، بأية مذبحة سيكلف نفسه دون ما عقاب. كانت العمة مريم تجهل كل شيء عن هذه الناحية الدموية في شخصيته. في نهاية الأمر، كانت العمة مريم هي أيضًا من السذاجة بما فيه الكفاية، رغم حِذْقِها. كانت تخطئ في كل شيء في موضوع أبي مزة الذي لم يكن يطلب شيئًا أفضل من تكليفه بالأعمال القذرة. كشف عن ذراعه الموشومة بعظمتين وجمجمة، ورمى في الهواء رشقة من الطلقات. كان أبو أرز يعرف جيدًا ما يجيش في صدره من رغبات، فقال له مهلاً، لكن الآخر فهم بالإشارة كل شيء. أولاً وقبل كل شيء كان يلزم حل مسألة الأمن. كان وجه أبي مزة يعكس فرحًا يزداد شراسة، فالمهمة التي كُلِّفَ بها كانت أهم من قمع العمال، قمع آه ما أسهله! أومأ أبو أرز برأسه في اتجاه عبد السلام.
نزل أبو مزة إلى الشارع الممتلئ بالمتظاهرين. كنا مُهَيَّجِين كلنا، عبد السلام، كمال الدرزي، أبو المشارق، تقي الدين، بطرس الأحمر الحزين، وأنا. كنا نريد أن ينجح الإضراب لنقنع الناس أن الهولد-أب لم يكن من فعلنا. كنا نريد كذلك أن يقرع دعمنا للمضربين جرس التحدي في آذان أبي أرز وأبي مزة. الشيء الذي ارتعدت له فرائص الأول وعمل على تراجع الثاني.
ولم يتوقف الإضراب. تلفن أبو أرز لفرنسا ليخبر أنه يخشى العمال في سعيهم إلى قتله. بعد عدة أيام، ذهب أبو أرز إلى جُونْيِه. كنا نعلم أن شحنة هامة من الأسلحة ستصل، وأن برناديت ستكون في تلك النواحي.
غضب بطرس الأحمر. إن لم نفعل شيئًا لتحرير ابنة عمه، تَرَكَنا، وأبلغَ عن القائد الفلسطيني الذي نحبه كلنا. أخذنا نفكر في أحسن طريقة لاختراق الباخرة الفرنسية لنحرر برناديت. ذهب عبد السلام ليرى قائده "أبو الدميم" الذي كان اسمه على شكله. وجده على البلكون، يهدد الجيران. كان دميمًا بالفعل، وكريهًا بلا نزاع.
أخذ يطلق الرصاص على غير هدى، والصرخات تصل من البلاكين الأخرى. أمسكنا أبا الدميم من ذراعه، وأدخلناه، وهو يواصل سب الجيران. كان مخدرًا. كانت ثلاث عاهرات من أجمل عاهرات بيروت عنده. اعترف بكونه صار يسأم من مضاجعة عاهرات العمة مريم. يريد عذراوات يزيل بكارتهن بنفسه.
كنا نعلم أن عبد السلام لم يكن صادقًا فيما يقول، أنه كان يحترم العمة مريم. كان يطبخ شيئًا ما على نار خفيفة، كانت تلك طريقته فيما يفعل. قَبَّله أبو الدميم من جبينه، وأمر عاهراته أن يرافقنه. عند تلك اللحظة، وصل الأخوان التوأمان مصطفى ومصطفى. كانا ضد كل تدخل في الشئون اللبنانية. لم يكن لبنان لهما سوى قاعدة لتحرير فلسطين والقيام بأفعال ضد المحتل والمستعمر الإسرائيلي. قال لهما عبد السلام إن هذه العاهرات سيساعدنه على تحرير برناديت. مصطفى ومصطفى، أو ميم وميم كما كان من عادتنا أن ندعوهما، رفضا رفضًا قاطعًا. عاهرات لتحرير القدس نعم، لكن برناديت، كانت لهما مشكلاً لبنانيًا خالصًا. على اللبنانيين أن يحلوه. صفقا الباب، وهما يقسمان أنهما سيهدمان على رؤوسنا كل شيء إن علما أن برناديت كانت قد تحررت بفضلنا.
كان أبو الدميم يسترخي في أريكة، ذراعاه تتأرجحان، ولسانه يتدلى كالكلب. حاله حال من لا يصدق، وعلى وجهه يُقرأ النفور والاشمئزاز. عندما ذهب ميم وميم، أقسم أنه سيذبحهما يومًا بيديه. جعل عبد السلام يعلم أنه رغم كل "الميمات" في العالم عليه أن يأتيه بعذراء يزيل بكارتها.
وضع مرسيدساته تحت تصرفنا، وجعلنا نذهب مع عاهراته.
العاهرات، وخاصة العاهرات الجميلات، كن شأن العمة مريم. أتينا بهن من حَيِّنا، لنرى عمتنا. بعد عدة دقائق، غادر موكب مرسيدساتنا باتجاه جُونْيِه مع "البضاعة" التي نريد وبركة العمة مريم.
لطم الأحمر نفسه. كان خائفًا على حياة المومسات.
كانت السماء تتلبد بالغيم كمعطف قاتم ترتديه النجوم، وكانت الرطوبة تزحف كوحش شرس يلتهم الليل. كشف عبد السلام أثداء العاهرات، ثم أفخاذهن، أكفالهن. كن يضحكن في الوقت الذي كانت فيه أسنانهن تصطك من البرد. كان يعيد عليهن أنه سيدفع لهن بالدولار، دولارات كثيرة، شرط أن يتمكنَّ من الصعود إلى سطح الباخرة. تركناهن على الرصيف، وذهبنا إلى أماكننا نرصد من بعيد. اخترقت العاهرات الباخرة دون صعوبة. لم تتأخر الموسيقا عن الانطلاق، تتخللها الضحكات المخلة بالحياء. كان علينا أن نتصرف. زلقنا في دهاليز المركب بحثًا عن برناديت التي وجدناها عارية تحت الجسد الضخم للكابتن. أراد عبد السلام قتله في الحال، فمنعه بطرس الأحمر. اكتفى بضرب الكابتن بسلاحه على رأسه، وخَلَّصَ برناديت. رمت بنفسها على صدره باكية، وابن عمها كان يبكي معها. ترك القائد الفلسطيني لها الوقت لتلبس، وخرجنا حذرين كما دخلنا.
تردد بطرس الأحمر. أخيرًا أقنعه عبد السلام بتركها تمضي الليل في شقة قائده، وغدًا سيكون نهارٌ جديد. كان يعلم أن أبا الدميم لن يتردد لحظة واحدة عن النوم مع برناديت. كان يتمنى أن يقضي غرضه مع العذراء التي يريد، فتمشي الأمور من حسن إلى أحسن بينهما. بعد أن "عهد" عبد السلام برناديت إلى أبي الدميم، ذهب عند أبي أرز. وكالعادة عندما يلتقيان وجهًا لوجه، كان الاستقبال حارًا. أخبره عبد السلام أنه كان على علم بشحنة الأسلحة الفرنسية، وأن برناديت لم تعد على المركب.
قايض معه. بعد مناقشة طويلة، اتفقا على اقتسام شحنة الأسلحة الفرنسية بينهما. كان أبو أرز يريد أن يكون أزلام عبد السلام مسلحين أحسن من غيرهم ليسيطروا أحسن على المعارضة في حالة ما اندلعت الحرب، بما أن عبد السلام المفاوض الوحيد ذو المصداقية حسبما يرى. ثم، هناك كذلك سوق الإسمنت الذي يرمي إلى اقتسامه معه. بالمقابل، سيعيد برناديت إليه. اتفقا أيضًا على ألا يبدأ أحدهما الحرب دون أن يخبر الآخر.
الفصل الرابع
عثرنا على برناديت ذبيحة في منطقة المصانع الواقعة قرب مخيم تل الزعتر. أنكر أبو الدميم كل مسئولية. "إنهم رجال أبي أرز، ادعى. جاؤوا، وأخذوها." منعنا بطرس الأحمر من قتل أبي الدميم، كان الجاني في عينيه على التأكيد.
لم تكن العمة مريم تصدق كلمة واحدة. نحن كذلك، إلا أن أبا المشارق أيده:
من ناحيته، بكاها أبو أرز، مع العمة مريم، ومعنا كلنا. لكنه صار يأخذ حذره منا، نحن سكان الحي. لم يكن هذا يسعد العمة مريم إطلاقًا، جففت دموعها، وأمرتنا أن نذهب لنسرق لها في بيروت الشرقية.
بالفعل، أيد أهل الجنوب بكافةِ نِحَلِهِم الفلسطينيين وحلفاءهم. نزحت عشرات العائلات لتنضم إليهم بسبب غارات "تساهل". التفوا كلهم في جبهة واحدة حول عبد السلام، كمال الدرزي، بطرس الأحمر، أبي المشارق، تقي الدين، والمضربين. أما نحن، فبعد أن سرقنا الأغنياء المارونيين قليلاً، كما طلبت منا العمة مريم، التحقنا بهم.
كان عبد السلام الوحيد الذي يعرف أن أبا الدميم بعد أن اغتصب برناديت قَطَّعها إرْبًا. التاث، وَنَفَذَ جسدها الجميل بطعنات سكينه. نادى عبد السلام عندما ذهب أثر الأفيون عنه، وأمره أن يتدبر الأمر، فتدبر الأمر. رمى أشلاءها في المنطقة الصناعية، قرب مخيم تل الزعتر، ولم يكشف من القصة شيئًا لحلفائه. صار أبو الدميم الآن خاتَمًا في إصبعه. عوى ميم وميم كثيرًا، لكنَّ أبا الدميم بقي عند كلامه. على أَثَر هذه الحادثة، لم يتقاسم أبو أرز شحنة الأسلحة الفرنسية مع عبد السلام، وكان لزامًا على القيادي الفلسطيني أن يحصل على أسلحة بأية طريقة. كان واثقًا من أن أبا أرز سيتعاون مع الإسرائيليين بعد الفرنسيين، وكان من الصعب أن يفعل مثله. ربما في المستقبل، لا الآن. لم تكن الشروط الحالية مناسبة لهذا النوع من الصفقات مع "العدو"، لكن في حربنا لا شيء نهائي، كل شيء يتوقف على الظروف. كان الذهاب لشراء أسلحة من الصين أو من أوروبا المركزية أرخص بكثير من الاتحاد السوفياتي (الذي كان يرسل كلاشينكوفاته إلى الأحمر بدون مقابل) أو من أوروبا الغربية. لم تكن نفس النوعية، لكن لا بأس. كان ما يهم بالنسبة لنا أن نحصل على أسلحة، وبالنسبة لهم أن يقبضوا نقدًا، وبالدولار. وفي ذلك الوقت، دولارات السعودية وبلدان الخليج لم تكن تكفي، يا الله تكفي ملء جيوب هذا القائد أو ذاك، فأخذ عبد السلام معلومات من القادمين من الجنوب، بخصوص حقول الحشيش. كانت هذه الحقول مِلكًا للوزراء وأمراء المال اللبنانيين، وكانت تمتد على عشرات الكيلومترات. تحت حجة الدفاع عن الجنوب من الغارات الإسرائيلية، أرسل رجاله ليستثمروها. أبدى بطرس الأحمر عدم اتفاقه معه، وأبدى أبو المشارق تأييده له. وصف هذا الإجراء "بالثوري"، وأرسل بعضًا من رجاله لمساندته. استنفر كمال الدرزي جماعته ضدنا، تقي الدين ضد كمال الدرزي، وكانت الحرب ستندلع بيننا لولا توصل عبد السلام إلى اتفاق يوافق الجميع: سنزود بأموال الحشيش (أموال كثيرة في الواقع) أسلحة للكل، وهذه الأسلحة سنشتريها من ألمانيا.
في تلك الليلة، احتفلنا بالحدث حتى انبلاج الفجر. لم نكن قد بعنا بعد عشب الخراء هذا، لم نكن قد قبضنا بعد النقود القذرة هذه، لم نكن قد اشترينا بعد الأسلحة التي من المفترض أن تكون أحسن الأسلحة هذه، ومع ذلك، كان احتفالنا أشد ما يكون عليه. كان أبو المشارق يعزف على الجيتار، ويغني أغاني ثورية. كنا نطلق في الهواء، نشرب، وندخن. كنا نطلق، كنا نطلق. كنا نفرغ كلاشينكوفاتنا. على مثل هذا الصخب، لن يتأخر أبو أرز عن الاعتقاد أن عبد السلام قد شن الحرب ضده دون أن يخطره، فكلف العمة مريم بالذهاب إلى طمأنته. بعد أن وضع عبد السلام يده على "محاصيل الذهب"، كما كان يقول عن محاصيل الحشيش، اتصل بأتباعه في ألمانيا، هيبّي مدينة بون. كلفهم بالبيع في السوق السوداء، وبوضْع النقود في بنك سويسري كان مديره من معارفه القدامى. كان هذا المدير هو من سيدفع لمصانع الأسلحة الألمانية. أتاه بطرس الأحمر لاهثًا:
أخيرًا، ستكون العمة مريم الرابحة الكبرى، بالنظر إلى العمولة التي ستتقاضاها من الطرفين. حتى أن هناك شائعة عملوا على ترويجها مفادها أن العمة مريم ستعقد صفقات أسلحة مع الأنظمة التوتاليتارية العربية، وبما أنها كلها كانت توتاليتارية، ستغدو العمة مريم ثرية جدًا. عمل عبد السلام كل ما في وسعه كيلا يترك رجاله أنفسهم يسقطون في هذه الحلقة المفرغة. وعلى العكس، سرق رجال أبي المشارق صناديق المتفجرات، القنابل، الصواريخ، القاذفات، الشَّدِّيدات، الديناميت، وتكلف أولاد العمة مريم ببيعها في نفس الوقت الذي يبيعون فيه باكيتات السجائر والشوينج-جم. بعد ظهر أحد الأيام، وصلتنا طلقات من المنزل الباذخ المجاور. ثم، بداية سوناتة غريبة على البيانو، ثم حط الصمت. ذهبنا لنجد مراهقًا جمد على مرآنا. كان قد أفرغ الكلاشينكوف الذي اشتراه في صدور أفراد أسرته. لاحظ أبو المشارق أن البيانو قد أصابته الطلقات، فأخذ يلعن الصبي، يهزه، يعنفه، لأنه أتلف "تحفة نادرة". ثم، بأصابع مرتعشة لمس الثقوب، وقال للقائد الفلسطيني:
أمر أبو المشارق رجاله أن يحملوا البيانو، وخرجنا دون أن نبالي بالجثث. ونحن نقطع الشارع، سمعنا رشقة كلاشينكوفية لم تكتمل في المنزل الباذخ. ركض أحد رجال أبي المشارق ليرى ما حصل. ألقى نظرة من النافذة، وقال بلامبالاة:
حذرنا كمال الدرزي من هجوم مباغت لأبي أرز خلال الليل انتقامًا للمجزرة، فذكره عبد السلام أن هذه العائلة، ثرية حقًا، لكنها مسلمة. مسلمة أم غيره، أكد أن أبا أرز ينتظر أقل انزلاق لتفجير الوضع. لكننا لسنا نحن الذين قتلوا أفرادها. على عكس الدرزي، كان تقي الدين يجدها فرصة لا تعوض لبدء الأعمال الحربية ضد رئيس الكتائب.
قهقه القيادي الشيعي بدوره:
بقي كمال الدرزي وتقي الدين في بيروت. ذهب عبد السلام مع بطرس الأحمر إلى مخيم تل الزعتر. عاد أبو المشارق إلى معمل البسكوت في سيارة لوكس. كان أبو الدميم من أعاره إحدى مرسيديساته، إحدى أجمل مرسيديساته. في تل الزعتر، أدركنا، وهذا للمرة الأولى، أننا نقف إلى جانب الفلسطينيين. لم يعجب هذا العمة مريم في البداية، ثم تعودت على هذه الفكرة، وفي حسابها أنها طريقة ممتازة للضغط على أبي أرز، الذي لن يكون له خيار آخر غير الإبقاء عليها في خدمته. من ناحية أخرى، وقف بعض أبناء أعمامنا إلى جانب القائد الكتائبي. هكذا انقسم حينا إلى قسمين دونما حاجة إلى سور أبي مزة. إذن أظهرنا آية الكرسي في تل الزعتر، وأبناء أعمامنا الصليب في المعسكر الخصم. العمة مريم وحدها التي احتفظت بالرمزين الدينيين. كانت الأكثر مكرًا من كل عباقرة الفهلوة في هذا البلد. في تل الزعتر، تعرفنا على الأبيض وأم الأبيض. تقابلنا مع أبي فريد وأم فريد وابنتهما فريدة. كانت للأبيض بشرة سوداء بسواد بشرة عنترة، وكان لأبي فريد فريد، ابنه الوحيد، تركه في الجنوب مع أخته الصغرى ثائرة ليصد هجمات "اليهود"، واليهود حسب مفهومه جنود "تساهل". أشار إلى فريدة:
تنهد ونظر إلى سماء بيروت، سماء تمتد إلى ما لا نهاية، وتسحب عن جسدها ثوب الغيم. لكننا كنا نفكر في العمة مريم. كانت تدَّعي هي أيضًا أن لها جمال نساء دمشق الذي يميزهن عن غيرهن من النساء، بل وأكثر، كانت غالبًا ما تقول إن جدة جدتها كانت سورية من اللاذقية، وإن جد جدها كان تركيًا من اسطنبول.
الفصل الخامس
وصل أبو المشارق إلى المخيم في المرسيدس. طلب من الناس أن يرفعوا المتاريس، ويقيموا الملاجئ، مثل عمال معمل البسكوت. تجند الكل بعد أن صادر القيادي اليساروي كل ما كان يشبه الكحول والمخدرات: "على هذا المخيم أن يشبه عرين أسد!" قال. لوَّح بكلاشينكوفه، وطرد العاهرات إلى بيروت الشرقية. "لا مكان هنا إلا للثوريين!" أضاف. كان بطرس الأحمر قد شمر عن ساعد الجد، وأخذ يساعدنا في حفر الخنادق. أبو المشارق وعبد السلام كانا يجلسان على منصة بكل راحة، وهما يراقبان القبضات الخشنة في أعمالها. ثم، ذهب القيادي اليساروي بحثًا عن كل ما هو "محرم" ليصادره. استحى عبد السلام، وهو يرى بطرس يعمل إلى جانب العجوز أبي فريد، وهو يرانا كلنا نكد، فذهب ليساعد الأبيض. أذهلته الندبات التي كانت تغطي جسده.
حكى كيف رماه أبو أرز في زنزانة الشياطين، الشيطان المسكين الذي كانه. كان ذلك قبل الثورة. عذبه أبو مزة، مرة بالسوط، ومرة بالحديد. ابتسم، وبإصبعه أشار إلى الأحراش التي على المرتفعات.
كانت أمه تشبه العمة مريم، كأنها أختها الكبرى أو ابنة عمها. كان لها وجهٌ بيضاويٌ وعينان واسعتان، حزينتان لكنهما واسعتان، تدور بهما التجاعيد الناعمة. وخاصة، على عكس ابنها، كان لون بشرتها أبيض، مما كان يدفع إلى احترامنا وإعجابنا.
تخيل عبد السلام المخيم تأكله النار كما تأكل النار الهشيم، ثم تنتشر في أحشاء بيروت، فشم رائحة شياط غابات الصنوبر. تنهد أبو فريد، وقال:
توجه أبو فريد بالكلام إلى عبد السلام:
تدخل بطرس الأحمر:
ابتسم أبو فريد، لأن أم الأبيض كانت قد فهمت. ابتسمنا نحن كذلك، لأن لها نفس لهجة العمة مريم. كانت تعرف أبا مزة، ولم تكن تعرف عمتنا. كيف كان هذا ممكنًا؟ قالت فجأة إنها من النادر ما تغادر تل الزعتر، لكنها تحب أن ترى بيروت، أن تزور أحياءها، أن تتعلم أشياء كثيرة. أضافت أنها لا تعرف أحدًا في بيروت، ما عدا العمة مريم، فاتسعت ابتسامتنا أكثر على شفاهنا. لم تتأخر عن إعلامنا أن العمة مريم غالبًا ما كانت تأتي لزيارتها. كانت الوحيدة بين اللبنانيين التي تدعمها في الأوقات الصعبة. كان أبو فريد يواصل عمله بنشاط غير بعيد هناك، وكنا نتابع بنظرنا قطرات العرق التي تزلق على عنقه. عنق برنزي بفضل شمس الجنوب الكريمة. حمل حجرًا ضخمًا كما لو كان شيئًا لا أهمية له. ابتسم له عبد السلام، ولاقى نظرته المفعمة بالزهو التي كان يبدو عليها تقول: "رغم أثقال العمر، لم يزل أبو فريد شابًا!" وكأن الأبيض قرأ أفكاره، هتف، وهو يربت على كتف العجوز الجنوبي:
ما لبثت ابتسامة عبد السلام أن امحت، وانقبض قلبه. ذهب بعينيه إلى أم الأبيض، وهي ترفع المتاريس، وهي تبني الملاجئ، وفي عينيها السوداوين كل الملاجئ. لم يكن ضميره مرتاحًا، وهو يراها تعمل، هي أيضًا، كشابة في العشرين. كان لقدميها لون الطين، لساعديها لون الإسمنت. ذكرته بأمه التي كانت تجبل التحصينات مثلها بالإرادة، والمتاريس بالحياة. من وقت إلى آخر، كانت ترفع رأسها، وتنظر إلى أحراش الصنوبر على المرتفعات.
عند ذلك، قرر سكان المخيم، كما قررنا كلنا، الانتهاء مما نعمل بأسرع ما يمكن. جذبت أم الأبيض عبد السلام عندما انتحى جانبًا، وتأوهت.
كان الضباب في عينيها، فلم ير القائد الفلسطيني بدًا من سؤالها عما يمسك قلبها.
قال أبو فريد المثل "في الصبر قوة"، لكنها صححته بحدة:
ثم سكتت. كانت تتابع بعينيها الأبيض، وهو يعمل بقدر عشرة أبناء، وأضاءت ابتسامتها أخيرًا وجهها. كانت الريح تعصف بطموحات عبد السلام، كان يخاف من ابتسامة أم الأبيض، وكان يريد الانسحاب، فمنعته صيحة أم فريد.
كنا نتأمل تلك الفلاحة التي تتصعَّد من جديلتيها رائحة الجنوب، وكنا نأمل أن يأتي بطرس الأحمر لنجدتنا، لأن هذه الرائحة الطيبة كانت تخنقنا. أخرجت من صدرها كيسًا من التبغ، وأخذت توزعه علينا. أشار أبو فريد بإصبعه إليها.
كانت تشع بنفس الزهو الذي لزوجها.
ضحك أبو فريد.
هزت فريدة رأسها موافقة، فباركها أبوها، ثم همهم:
عاد أبو المشارق من جولة "التنظيف". عندما رأى التبغ بأيدينا غضب وصادره. أتى شباب ليقولوا له إن صاحبًا في نوبة سُعْر، يطالب بجرعة مخدر، فطردهم.
اشتعل. كان عبد السلام يعرف أن لا فائدة من معارضته في تلك اللحظة.
كم كان يُخَرِّي عندما يلح، هذا الممحون الثوري! عاد الشباب راكضين. كانوا يبكون. أعلموا القائد الفلسطيني أن صاحبهم مات. حقن نفسه بالجير، فانسدت عروقه. لتأثير هذا الموت الغبي فيه، عزم عبد السلام على طرد أبي المشارق إلى حيث كان في معمل البسكوت. رفض أبو المشارق في البداية، وهدد بترك كل شيء، بالابتعاد عن هذه المخرأة. لم يكن ذلك من مصلحتنا. لكن لما تلاقت عيناه بعيني أم الأبيض، ظن أنه أمام العمة مريم، فأطاع. جذب بكاء الشباب ابنة أبي فريد الثانية، فاطمة، فنظر إليها أباها كما ينظر إلى شبح.
كان يظن أنه فريسة الهذيان.
عندما تأكد من أنها بالفعل فاطمة، طلب كأس ماء، وعاد إلى حفر الخندق بصمت. سقط عبد السلام بين براثن سحر فاطمة عليه، التهمها بعينيه، قامتها الرشيقة، وجهها الآشوري، عينا الحورية. كان يبدو عليه كل استعداد لمشاركتها حلمها الصعب. أخبرت أباها أن الشاب المدمن الذي مات كان مثل أخيها، وكانت تريد الصعود إلى الأحراش لتجمع أكواز الصنوبر التي ستحرقها لأجل أن ترقد روحه المعذبة في سلام. نصحها أبوها بصوت مثقل بالمُضْمَرات أن تأخذ حذرها من بنادق أبي أرز، فطمأنته، غير أن الشك كان قد نبت في نفس عبد السلام. وإذا ما كانت لعبة جديدة من أبي أرز؟ فاطمة بعد برناديت! فاطمة بأمره جاءت لتغريه، لتدمره؟ رمته بابتسامة قبل أن تصعد. ربما كان مخطئًا. كان عليه أن يصعد معها ليحميها من رجال أبي أرز. هكذا في حالة إذا ما لم يستطع الدفاع عنها، سيمكنه على الأقٌل إثبات أنها لم تنتحر، وسيشن الحرب دون أن يكون مضطرًا إلى إخطار أبي أرز. لكن مغادرة أبي المشارق جعلت الأمور تجري بشكل آخر. رافقه عبد السلام إلى معمل البسكوت. في المرسيدس طبعًا. وكانت المفاجأة الكبرى، عندما تشق القيادي اليساروي سطرًا من الكوكايين قبل أن يرتمي بين أذرع العمال. ليهبط عليه الوحي، قال. كان يريد الغناء ورفع معنوياتهم. معنويات من؟ معنوياتهم أم معنوياته؟ حك جيتاره، وانطلق في تحليق غنائي:
في نهر الشمس اغتسلي من عفن الأشواق المنتظرة بالريح اتشحي بالزمن الأحمر امتشقي سيف الثورة
أخبر العمال عبد السلام أن خسارة رب العمل كبيرة، وأنه هدد باستعمال القوة لفك الإضراب. رغم ذلك، لم يكونوا خائفين. كانوا مستعدين. أروه التحصينات. رددوا بلا كلل أنهم جوعى. ذهب عبد السلام ليرى أبا الدميم، قائد القادة. كان يريده أن يعوض خسارة رب عمل معمل البسكوت.
ومشى الأمر. توقف رب العمل عن التهديد، لكن ذلك لم يكن يلائم أبا أرز. أخبرنا تقي الدين وكمال الدرزي أن رئيس الكتائب قد عاد يلوح بمسألة الأمن كجواب لمسألة الجوع، حتى أنه ذهب إلى قول إن العمة مريم تؤيده. كنا نعلم أنه يكذب، إلا أن العمة مريم لم تفتح فمها، ولم تتفضل بالمجيء عندنا لتفند ادعاءاته أو لتؤكد أنها تلعب فقط دور "المسيحية" معه، وأن ذلك لن يذهب إلى أبعد، فواصل الرئيس الكتائبي حملته حول مسألة الخراء الأمني. لم يكن ذلك سوى غطاء يخفي تحته دوره في الحل الأمريكي: ضرب حركة المقاومة بيد الكتائب فيكون إنقاذ نظام الامتيازات.
رد الدرزي:
ذهبوا عند أبي الدميم بصحبة بعضنا. "الأحسن"، حدد عبد السلام. أخذ كل واحد منا عاهرة ونارجيلة، وانعزلنا واحدًا أو أكثر في غرفة من غرف حريم "السلطان" الثوري.
الفصل السادس
حرض أبو أرز رب العمل على استدعاء رجال الدرك: "الإضراب دام طويلاً، قال له، نقود أبي الدميم لا تعوض كل ما خسرت، يجب عليك التحرك." في صباح أحد الأيام، عندما نهض المعتصمون من نومهم، كانت الكِبَيَّات الزرق هناك. كانوا محاصرين. هدد "سلطاننا"، وهو يلتحف بكرامة الثوري المعتدى عليه، بالانتقام، وذلك بشن الحرب حالاً. أراد أن يذهب عبد السلام عند رئيس الكتائب ليبلغه تهديداته، فطلبنا منه الاعتدال في مواقفه طالما أن الأسلحة الألمانية لم تصل بعد. "اتصل بالشيطان، أمر عبد السلام، واحصل على أسلحة في الحال."
في اجتماع من حول أبي الدميم، كان الحلفاء يناقشون الوضع. لم يكن بطرس الأحمر مسرورًا. بالنسبة له، ارتكب المقاتلون خطأ استراتيجيًا خطيرًا ببيعهم الأسلحة في السوق السوداء.
قهقه كمال الدرزي.
انقض أبو المشارق على كمال، وأمسكه بخناقه.
كانت لغتهم العادية لهؤلاء القياديين غير العاديين. خَمْشات. كانت ردود فعلهم الأكثر بساطة، لهؤلاء الخرَّائين المعقدين. دفع تقي الدين عبد السلام إلى التدخل. وقف مع بطرس الأحمر، وفصلاهما.
فتح أبو الدميم قنينة عرق.
قهقه بطرس الأحمر.
نهض الشيعي، وأمسك الأحمر بخناقه. تضاربا، تشاتما. طلب أبو المشارق من عبد السلام أن يفعل شيئًا، فنهض عبد السلام مع الدرزي، وفصلاهما. هدد بطرس بالعمل وحده، فذكَّره القيادي الفلسطيني ببرناديت، تلك التي كانت تقرع أجراس الحقيقة، ليكون الناس على علم بتلاعبات أبي أرز، لنكون متحدين.
حقًا كان بطرس الأحمر "أحمر"، لكنه كان قبل كل شيء مسيحيًا وابن عم برناديت، فبرعمت الفكرة التالية في نفس عبد السلام: من اللازم أن يكون هو، بطرس الأحمر، من يذهب ليرى أبا أرز، ومن يخبره بنوايا أبي الدميم العدوانية. سيكونون مسيحيين فيما بينهم، وسيحتفظ بوضع الشخصية "المحايدة"، مما سيسمح له فيما بعد بالحصول على دور أكثر حسمًا بين كل مُرَكِّبات هذا السيرك اللبناني. بعون العمة مريم طبعًا. غير أن العمة مريم لم تظهر. ربما كانت مريضة، أو ربما كانت مسافرة. كنا في حاجة إليها. كان عبد السلام يعرف أن أبا أرز لن يبالي بتهديدات كهذه، وكان يعرف كذلك أنه سيستغل الحجة ليبدأ الحرب. ولا ننس أن القائد الفلسطيني قد تفاهم معه على تدمير بيروت، واقتسام أرباح الحرب لا خسائرها: إعادة بناء المدينة بعد تدميرها تدميرًا كاملاً، عمارات على مدى البصر، مع نوافذ، كثير من النوافذ، وعمارات أيضًا، وعمارات أيضًا وأيضًا. سيكون سوق الإسمنت بقيمة الذهب. سكرنا طوال الليل، ثم نمنا بين أذرع عاهرات أبي الدميم حتى الساعة الواحدة بعد الظهر. صحونا على السماء، وهي تبرق وترعد، فظننا أن الحرب اندلعت. تناولنا أسلحتنا الملقاة هنا وهناك، ونحن مذعورون. أطلقنا من بلكون أبي الدميم، وصرخات الجيران تغطي على طلقاتنا. رددنا مطلقين الرصاص في كل الاتجاهات، دون أن نعرف لماذا. راح المطر يتساقط بغزارة، ولا يفضي إلى غسل دم الأبرياء.
هذا التهديد الأخير جعل أبا المشارق يقفز من الفرح.
صحنا:
ذهب تقي الدين لينادي الناس إلى الصلاة، واصطحب كمال الدرزي عاهرات أبي الدميم. كان يريد إمتاع رجاله.
أعلمه رئيسه أن ما سمعه عبري بالنسبة له، سبه، وأقسم على أن يقتله يومًا.
هَدَأَ وَقَبِلَ.
عندما عاد بطرس الأحمر من عند أبي أرز، كان وجهه متشنجًا. استخف أبو أرز بتهديدات أبي الدميم، وكما يبدو كان هناك شيء آخر يقلقه.
قهقه عبد السلام:
نبر:
ووضع ذراعه على كتفي الأحمر.
تخلص بطرس الأحمر منه، واحتج:
اختلجت عينا بطرس الأحمر عدة مرات. كان على وشك البكاء.
كان بطرس الأحمر على وشك الانهيار:
اتسعت بسمة الآخر:
مسح بطرس الأحمر عينيه بقوة:
تردد قليلاً.
تردد قليلاً أقل.
نظر إلى عبد السلام في عينيه خلال لحظة، ثم: "خذ أول معلومة، همهم. التقيت ببعض الإسرائيليين عند أبي أرز. كانوا يدخلون في الوقت الذي كنت فيه أخرج. كانوا بصحبة العمة مريم."
الفصل السابع
ذَكَّرَنا هذا باليوم الذي كان فيه الإسرائيليون قد جاؤوا لشراء بيت العمة مريم، الواقع في قلب حينا. كنا نقول "اليهود" في ذلك الوقت، قبل أن نُسَيَّس، بدون أي مفهوم عنصري لهذه التسمية، وبكل عنصرية العالم للأخرى. في البداية، كانت العمة مريم تقول لنا إنهم اليونانيون الذين كانوا يريدون أن يبيعوها الحمص بأرخص الأسعار، ليمكنها تلبية الطلب الهام لأصحاب المطاعم، فالحمص والفول طبقانا الوطنيان. كانت تسعى إلى إخفاء الحقيقة بخصوص بيع دارها أكثر من هوية الشارين. لم تكن تبالي باليهود الذين كانوا أو بغيرهم، ونحن كذلك. العار، العار الحقيقي، كان بيع البيت العائلي، ما نرثه أبًا عن جد، أو أمًا عن جدة إن أردتم، والذي كان من المفترض أن تتركه لأبنائها وأحفادها. لكن للعمة مريم لم يكن وريث. أبناء إخوة وأخوات، نعم. أولادها، لم يكن لها أولاد. ولهذا السبب كانت تريد أن تبيع الدار الكبيرة التي تملكها، لتشتري شقة أنيقة بغرفتين في بيروت الشرقية. مما سيسمح لها بمعاشرة الأغنياء، والاندماج في هذه الجماعة المتكبرة. مع ذلك، قبل أن توقع مع اليهود، بكت كطفلة أشبعوها ضربًا، واعترفت بيونانيين لم يكونوا يونانيين، وبصفقة لم تكن حمصًا. كانت تحبنا فعلاً، ولم تكن تستطيع الاعتياد على فكرة تركنا. إذن كانت العمة مريم تخالط اليهود –أوه! معذرة، تخالط الإسرائيليين- منذ زمن طويل. أن تكون إلى جانبهم عند أبي أرز شيء طبيعي، ولم يكن هناك ما يفاجئنا. ما فاجأنا في المقابل، كان وصول كوماندوس إسرائيلي من البحر، خردق الأخوين التوأمين ميم وميم، وهما ينامان في فراشهما، في قلب حينا. في البداية، أدرنا بوجوهنا إلى العمة مريم، لكننا قلنا إنه لمن المستحيل. لن تكون العمة مريم وراء شيء كهذا. لم تكن تشارك أبدًا في القتل. على العكس، كانت تعمل كل ما في وسعها لتمنعه. وإذا كانت بالفعل لا تستطيع منعه، أو إذا كانت تسعى وراء خبزها عن طريق الانتقام من شخص، كانت تتركهم يفعلون دون المشاركة فيه مباشرة. أشرنا إلى أبي الدميم كمذنب مثالي. كم مرة كان قد هدد الأخوين التوأمين بقتلهما بيديه! كان لقائد القواد عذرٌ من إسمنت بما أنه كان مسافرًا. بكاهما عند عودته كما لم يبكهما أحد. رغم عيوبهما كانا وطنيين كبيرين. بعد هذه الجريمة، طلب عبد السلام من بطرس الأحمر أن يعرف أكثر عن الإسرائيليين الذين رآهم عند رئيس الكتائب. كان يريد الاطمئنان على حياته، فلا يكون له نفس المصير الذي كان لميم وميم. لم يكن يهمه القياديين الآخرين. بالمقابل، سمح لجاسوسه بالكشف عن كونه أجرى اتفاقًا مع المصانع الفرنسية لدفن النفايات النووية في الشواطئ التي يحرسها رجاله.
على أَثَرِ ذلك، عرف بطرس أن الإسرائيليين كانوا رجال أعمال. كانت العمة مريم هي التي قالت له. كانت قد بدأت تقول إنهم يونانيو الأمس أنفسهم، قبل أن تعترف بكل شيء، شرط ألا يقول للرئيس الكتائبي. لم تكن تريد أن تفقد ثقته. كانت تأمل في كسب القليل من الطرفين. كسب ماذا؟ لم تشأ الكشف عن موضوع التفاوض. غدا عبد السلام كالمجنون. كان القائد الكتائبي يتلاعب وراء ظهره. كان يريد أن يتشارك مع الإسرائيليين في إعادة إعمار بيروت. عند ذلك، قرر القائد الفلسطيني أن يشعل الحرب الأهلية دون انتظار الأسلحة الألمانية، وأن يريه نجوم السماء في عز الظهر. بادلنا كل الأسلحة المباعة في السوق السوداء بسيارتي مرسيدس، وبموافقة عبد السلام، كشف بطرس لأبي أرز عن مشروع الاحتفال الضخم الذي ينوي القائد الفلسطيني إقامته في عين الرمانة، بمناسبة المذبحة التي ارتكبتها عصابات الإرغون عام 48 في دير ياسين. خلال ذلك، وكجواب على لامبالاة الرئيس الكتائبي أمام تهديداته، سيهاجم أبو الدميم مواقع أبي أرز. طبعًا، لم يكن أبو الدميم على علم بالهجوم المزعوم، كان مشغولاً بالغوص بين أفخاذ عاهراته. كل ما كان يريده عبد السلام إثارة أبي أرز. وهذا ما حصل. قطع رجال أبي أرز الطريق، بصحبة أبناء أعمامنا، لسوء حظهم، على الباص الذي كان عائدًا من احتفال عين الرمانة، وارتكبوا مذبحة جديدة. أما رجال الدرك، فهاجموا مضربي معمل البسكوت، و... بدأت الحرب. غدت منطقة مخيم تل الزعتر ميدانًا لأكبر معركة عرفتها بيروت في كل تاريخها. استطاع عمال معمل البسكوت، بمساعدة أبي المشارق ورجاله، تطويق مُفْرَزَةِ كِبَيَّات زرق، والاستيلاء على أسلحتها. كان هجومنا المضاد صاعقًا، حتى أننا تقدمنا عدة أمتار في المنطقة الكتائبية، ودمرنا بعض البطاريات. نَوَّرت البسمة شفتي فريدة، ونَشَّف بطرس جبينه. ألقى أبو فريد نظرة على شمس بيروت، وعلق:
كانوا سعداء، وكانوا بسطاء. تركهم عبد السلام يفتحون قلوبهم.
علت أمه في قلب الخندق مثل سنديانة، ونحن المقاتلون، كنا نجد عافيتنا في ظلها. قال لنا عبد السلام إن هذه المرأة لم تكن من لحم ودم. كان يراها كخيمة كبيرة، وأحيانًا ككوبة من النجوم القاتمة. كانت تخيفه أم الأبيض في الوقت الذي كانت فيه تستهويه. كان يريد الاحتماء في ظلها وفي الوقت نفسه كان يريد التخلص منها بتسليمها إلى أيدي الأعداء. قالت لابنها:
رفعت يدها باتجاه فتحة يحاول المهاجمون التسلل منها إلى المخيم.
أحضرت الذخائر.
وتوجهت إلى عبد السلام، إلينا:
قال الأبيض بين صَلْيتين مزهوًا:
قفز الأبيض نحو الذين كانوا قد نجحوا في التسلل إلى المخيم، ورشهم، وأمه لا تتوقف عن الصياح:
ما لبث الأبيض أن عاد، وبطرس يغطيه، وعبد السلام يغطي بطرس. كان بطرس طوال الوقت صامتًا، وكان يَدْعَم فريدة دون أن يفوه بكلمة.
لم يجب.
كان صوتها يخلو من كل انفعال.
حملت قاذفة صواريخ على ظهرها، وتابعت:
ارتفع صوت أم الأبيض عاليًا، مما كان يعني أن المعارك قد فقدت حدتها، هذا الصوت الذي كان يَلْحُمُنا في الهدوء وفي الصخب. كان كلام أم الأبيض يرن في آذاننا بلا كلل، وكان عبد السلام يفكر في أبي الدميم، في أبي أرز، في أبي المشارق، في كمال الدرزي، في تقي الدين. كان يتخيل نفسه في كل العواصم العربية، في غزة، في القدس، في دير ياسين.
حقًا كنا سودًا وبيضًا، لكننا كنا نقاتل معًا. وحقًا كذلك كنا نقاتل لمصلحة مشتركة، ما عدا عبد السلام الذي كان يقاتل فقط لمصلحته. كلما هدمنا عمارة، كلما قتلنا ميليشيًا، كان عبد السلام يقترب قليلاً من الهدف الذي رسمه لنفسه. اليوم، ضد مدن الصفيح والموت، وغدًا، لأجل ناطحات السحاب والحياة. أخفى ابتسامته بيد، وترك بطرس يوضح لأبي فريد:
تأوه أبو فريد عميقًا:
من جديد، عادت المعارك على كل الجبهات. كان عبد السلام ينظر إلى دمار بيروت بعين الرضى، ويحثنا على مواصلة قَنْبَلَتِنا لمواقع أبي أرز، على دفعه إلى التمترس في البنايات المقابلة كي نهدمها واحدة بعد واحدة. رأينا فاطمة. كانت تهبط الهضبة من سفحٍ توقف القصف فيه. حذرنا أبوها منها لأنها كانت تهوى اللعب بالنار. تحاشت نظرة أبيها، وأوضحت أنها كانت تعرف بعض الأشخاص، فوق، لا شيء غير. كاد أبو فريد يفقد عقله. اغتمت فريدة من الغضب. حدق بطرس فيها شاكًا. أما عبد السلام، فكان يداعب بنظرته قوامها الرشيق، غير مبال بردود فعل الآخرين.
في الوقت الذي كان فيه يقول ما قال، ارتاب في أمرها. طلب منه أن يراقبها بانتباه، وأن يأتيه بكل المعلومات عنها.
رافق فاطمة إلى الملاجئ: كانت تريد أن ترى أمها. لاحظ أنها كانت لا تبالي بما في عيني أختها من علامات الاستنكار، بما في عيني أبيها، بما في عيني بطرس، علامات استنكار كانت تتراقص في عيني الأبيض وأم الأبيض. أبدت اهتمامها به، وصرحت بكونها ضد الحرب. تظاهرت بالتعثر، فأعانها على الوقوف. اعتمدت على ذراعه، تحت ذريعة أن ألمًا كان في قدمها. أحس على جسده بجسدها الرقيق، وصفير الرصاص يرافقهما طوال الطريق. أعادت أنها كانت ضد الحرب لخوفها عليه. اقترحت أن تلعب دور الوسيط ليستطيع التوصل إلى اتفاق مع أبي أرز. كانت إذن جاسوسة بالفعل. وافق تحت ضغط ثديها على ذراعه. طلبت منه أن يوقف القتال وأن ينسحب حتى مواقعه القديمة. لم يوافق. كان يريد من رئيس الكتائب أن يدمر عمارات أكثر في منطقته، أكثر مما يفعل هو في منطقة رئيس الكتائب. نجا بجسده من جسدها. كانا قد وصلا الملاجئ. في ملجأ تحت أرضي مليء بالأطفال، كانت أم فريد ونفر من النساء يعددن الطعام لنا نحن المقاتلون. حفر طفل حفرة، فنهرته أم فريد. كانت الحفرة تذكرها بالقبر. ذرفت العجوز الجنوبية دمعتين على كتف ابنتها ثم اقتربت من عبد السلام. سألته إن كان أبو المشارق هنا. "أبو المشارق يقاتل في المنطقة الصناعية"، أجاب. عندما عرفت، أعطته حَفنة من التبغ، شرط ألا يقول له شيئًا. شجعت فاطمة على البقاء معهم، على القتال مع أختها. لم تقل نعم ولم تقل لا. وصل الأبيض حاملاً دلوي ماء. رغم القصف الذي كان يزداد احتدادًا، أضاء الماء كل الوجوه. لم يكن المجيء إلى الملاجئ سوى حجة لفاطمة. كانت تريد أن تجس نبضنا. كيفها معنوياتنا، كيفه صمودنا، وهل سنقاتل قتالاً طويل النَّفَس. كل هذا لتأكيد المعلومات الزائفة التي كان بطرس قد زود أبا أرز بها. سألتْ عبد السلام إذا كنا قد استلمنا الأسلحة الألمانية، فكذب مؤكدًا "استلمناها". تبدل لون وجهها، ورجته أن يتركها مع أمها. طمأن القائد الفلسطيني النساء، غير أنه حثهن على ادخار الطحين والحليب والماء، وعاد مع الأبيض إلى مواقع القتال. أخذ عبد السلام بطرس الأحمر جانبًا.
تردد بطرس ثم سأل:
عند هبوط الليل، جاء أبو المشارق. أمرته قيادة القوات المشتركة، على رأسها أبو الدميم، بالالتحاق بنا.
كان عبد السلام يظنه مازحًا، فانفجر ضاحكًا.
راح يغني متغزلاً بفاطمة التي صادفها في الطريق، وهي تصعد جبل الأعداء. إذن لم تبق مع أمها. بدا أبو المشارق مفتتنًا بها. لو لم يكن في مهمة وطنية، لرماها على صخرة، وامتطاها كالفحل. جاءت فريدة.
بلع ريقه، ولحس شفتيه، ولمس برعونة بندقيتها. طرده عبد السلام، وطلب من ابنة الجنوب السبب الذي جاء بها.
أخذ يقصف باستبسال مواقع الأعداء. دمر مدفعه كل البناية المقابلة تقريبًا. كلما دمر طابقًا، كانت أصابعه ترتعش من الاغتباط. كان يحلم بجبال الإسمنت التي سيبيعها لأبي أرز. كان يريد فك شراكته معه بأي ثمن. في الصباح الباكر، ونجمة بيروت كانت تنطفئ ببطء، والمقاتلون كانوا يتساقطون من التعب، اقتربت فاطمة من عبد السلام. كانت تريد محادثته. ابتعد معها إلى كوخ محطم، فارتمت بين ذراعيه، وراحت تبكي. أعلمته إلى أي حد كانت به معجبة، وهي تحاول سحب سلاحه منه.
أخبرَتْه عندئذ أن أبا أرز كان مغرمًا بها، لكنها كانت تحبه هو، عبد السلام، ولا أحد سواه. كانت قد ذهبت عند هذا الوحش لتعلمه بقطع كل علاقة لها به. عانقته طويلاً. ومن جديد، أعادت عليه ما قالته عن رعبها من حرب ستفقده فيها. اقترحت الضغط على أبي أرز ليوقف القتال إن أوقفها هو بدوره، وانسحب إلى مواقعه الأولى. كانت ترضيه بالقبل، بالسكر والنار، وكان يقاوم بسلاحها، ليرضيها. لكن المصير الذي كان يربطه بتل الزعتر أقوى بكثير من الكرز والعسل. إضافة إلى ذلك، كان متأكدًا من ضعف أبي أرز، وإلا لِمَ كل هذا الإلحاح على عودته إلى النقطة التي انطلق منها؟
الفصل الثامن
عادت المعارك في الحال بعد هذا اللقاء في الكوخ المحطم، فأُحيلت المنطقة التي فيها ملجأ الأطفال إلى جهنم. ذهب عبد السلام مع أبي المشارق ليفحص المكان. لم يكن يتوقع أن يكون الأطفال القتلى على مثل هذا العدد. كانوا قد رفضوا الذهاب للنوم عندما سكتت المدافع، وبدأوا اللعب مع طيشهم. عندما عادت السماء إلى الرعد، كنا لم نزل نسمع ضحكهم. كانت أم الأبيض قد اغتسلت بالدم، كأم فريد، كجدران الملجأ. كانت الأمهات يصرخن، ويضربن صدورهن، وكان الآباء يبكون. لم نكن قد رأينا في حياتنا دموع رجال كهذه. كان الكل يقسم على الانتقام، وعبد السلام لا يفوه بكلمة. بقي يقف متحجرًا وسط جثث الأطفال. جمع أبو المشارق الرجال المنهارين حوله، وأخذ يحكي لهم عن الوضع في المنطقة الصناعية. "معنويات المقاتلين من حديد، قال لهم، يجب ألا يصيب اليأس قلوبكم لموت طفل أو طفلين!" كيف كان يجرؤ على الكلام هكذا في مثل تلك اللحظة المهولة؟ أراد القائد الفلسطيني أن يصفعه، لكنهم قالوا له هناك رسول يأتيه، فأمسك عن ذلك. كنا ننتظر ظهور العمة مريم، التي كانت قد اختفت تمامًا منذ بدء الحرب. كان بطرس الأحمر. أعلمنا أن فاطمة هي من حددت للكتائب مكان الملجأ الذي يوجد الأطفال فيه، ليعاقبونا أشد عقاب، وليجبرونا على الانسحاب خلف مواقعنا الأولى. أعلمنا بطرس الأحمر كذلك أن لفاطمة عشيقًا أشقر، أمريكيًا، تخضع له خضوعًا كاملاً، ويتوقع هذا العشيق الأشقر هجومًا مفاجئًا على مسكن أبي الدميم. استقبل عبد السلام هذا النبأ بلامبالاة نسبية، على الرغم من أنه كان يخاطر بضياع نصف مليون دولار. كان يرسم في رأسه الخطة تلو الخطة لاقتحام معاقل الكتائب، وقتل أطفالهم انتقامًا لأطفالنا. عند عودتنا إلى معاقلنا، طلب العون من بطرس، فرفض. كان من رأي بطرس أن الأطفال أبرياء، وأن الانتقام بالأحرى من أبي أرز، أو من فاطمة، أو من الأمريكي. كانت حدة القتال قد وصلت أقصاها، وكنا نرى تساقط عمارات بأكملها من وراء أكياس الرمل. كانت الطوابق تنهار واحدًا واحدًا. لم يكن عبد السلام يحسب كعادته كم سيربح بعد إعادة بناء هذه العمارات الأَحْبِة أخوات الأًحْبِة أخوات أخوات الأَحْبِة. كان الأطفال الموتى يعذبونه وهم يلعبون. فجأة، في قلب جهنم، برز شبح رجل عجوز جالس على كرسي. كان لا يحرك ساكنًا رغم الهباء، وكان يحدق في الغبار والدخان كالتمثال. كانت الأشلاء أجنحةً تطير من حوله، والنار أنهارًا تهوي على رأسه، وهو دومًا هناك، يشخص ببصره إلى الجحيم. أرعبتنا هذه الرؤية لدرجة أننا فكرنا في فتح النار عليه، لكننا كنا كالمخدَّرين. سكتت أسلحتنا، ثم أسلحة الآخرين في الوجه المقابل. توقف القتال. تحجرنا على منظر الشيخ. أحدنا أشعل سيجارة، وآخر راح ينظر إلى السماء. دَفَعَنا رفيق من رفاقنا بكوعه، كان الشيخ قد نهض. أمسك بمكنسة، وأخذ يجمع الأشلاء، قبل أن يقذفها في صندوق القمامة. لم ينقشع ضباب هذا المشهد المذهل إلا بوصول كمال الدرزي مهتاجًا. كانت فاطمة قد جاءت لرؤيته، واعترفت له بحبها! كانت الشيطان بعينه!
كان يرمي إلى إثارة غضب كمال الدرزي ضدها، وهو يتذكر تأوهاتها وقبلاتها، ملامساتها ومداعباتها.
لم يكن كلام عبد السلام من ذوق القيادي الدرزي الذي بدا كمن اصطيد بالخُطاف.
كلف عبد السلام بطلب يدها، بما أن أباها واحدٌ من رجاله، فوعده القائد الفلسطيني بذلك ما أن تلقي الحرب أوزارها. أصر كمال الدرزي على أن يطلب يدها اليوم قبل الغد.
لم تكن تنقصه الوقاحة هذا المنيك!
ذهب حانقًا. كان أبو المشارق هناك. كان قد سمع كل شيء، لكنه لم يعلق أي تعليق. اختفى عدة أيام. كنا نعلم ما يفكر بطرس الأحمر فيه بخصوص الدرزي، وسيكون ضد كل إجراء معرِّض للشبهة. لغياب تقي الدين، كان يلزمنا رأي أبي المشارق. أرسل عبد السلام في طلبه، فقيل له إن أبا المشارق لم يكن يمكن العثور عليه، فلم يبق لعبد السلام سوى الالتقاء بأبي الدميم. خاطر بحياته في الذهاب عنده، فأكد قائد القادة لعبد السلام تحويل نصف المليون دولار، وهو يريه التيلكس. قال له عبد السلام كل ما كان يعلم بخصوص الزعيم الدرزي.
استغرب عبد السلام:
أشار زعيم الزعماء بإصبعه إلى عاهراته في ألبستهن العسكرية:
في تلك اللحظة، تدخل الصحفي ماجد. أعلن أنه سيكتب مقالة عن الموضوع لتنبيه الرأي العام، فقبله أبو الدميم من ذقنه، ورجاه أن يبقى هذا الموضوع ما بيننا، فالرأي العام رأي البلهاء الذين لن يفهموا شيئًا. "ستزيد حياتنا تعقيدًا لأجل لا شيء"، ختم بصوته الأبح. عينه مسئولاُ عن "الثقافة الفلسطينية في المنفى"، وكلفه بمهمة في القاهرة. اختار عبد السلام عاهرة كانت تشبه فاطمة إلى حد ما، وذهب بها عند كمال. عندما وصل إلى الطرف الآخر للشارع، رأى أبا مزة، وهو يحاصر شقة أبي الدميم، ولم يتأخر أبو الدميم عن الخروج مع الكتائبي حافيًا مطأطئ الرأس من الخزي. كنا نريد التدخل لصالحه، لكن عدد أعدائنا كان كبيرًا، ففضل رئيسنا ألا نفعل شيئًا. أخرج من جيبه التيلكس الخاص "بكنزه"، وضغطه بأصابع متلهفة للثروة والهوس. أعطى أبو الدميم لأبي مزة مفاتيح سيارته المرسيدس المصفحة، فأخرجها من الكراج، وبإشارة من رأسه، جرَّد رجاله رئيس رئيسنا من ملابسه، وغادروا المكان، وهم يطلقون صيحات الحرب كالهنود الحمر. أفرغوا أمشاطهم في الهواء، وأبو الدميم باقٍ هناك، في وسط الشارع، كالدودة عاريًا. حاول تغطية عريه بيديه، بقدميه، دون أن ينجح. راحت مجنداته يسخرن منه، فسبهن، وأمرهن بستر عرضه. حملنه، وهن يقهقهن، كالنُّصب التَّذكاري، وصعدن به الدرج. كان هذا إذن الهجوم المفاجئ على مسكن أبي الدميم. لم يكن لقتله أو لأسره، لكن للاستيلاء على سيارته المصفحة. لم يكن أبو أرز يفعل سوى إشباع نهمه في جمع سيارات اللوكس، أو ربما إرضاء جيبه في بيعها لما تقل الدولارات لشراء أسلحة جديدة. قدم عبد السلام العاهرة لكمال الدرزي.
فحص المومس، وهو عابس. فجأة، انشطر وجهه عن ضحكة تشنجية.
غير أنه أوجب أن يخطب فاتنة إليه عما قريب. أمر رجاله بتشديد القتال، وشد أزرنا من ظهرنا. عند عودة عبد السلام إلى تل الزعتر، لاحظ أن معنويات المخيم كانت في الحضيض. كانت الأمهات التعسات يردن ذبح أطفال أبي أرز أنفسهم، وبطرس الأحمر يلعن بصوت واطئ. أرسل القائد الفلسطيني من وراء أبي المشارق، فقيل له إن من المتعذر دومًا العثور عليه. عندئذ، باح لصديقه الشيوعي:
كرر بطرس رفضه، وذهب غاضبًا.
الفصل التاسع
أراد عبد السلام أن يعرف ماذا كان أبو المشارق يفبرك خلال كل ذلك الوقت. أشعل النار في مشغل الخياطة وأغرقه في الدم، مبررًا فعله بنظرية كبرى. لكسب الحرب كان على المعارك أن تدمر كل شيء، حتى المناطق الأكثر سلمًا. كان قد تعرَّف هناك على سعد الله وعلى عباس وعلى زكريا وأخت زكريا، وكلفهم بالدفاع عن المشغل. مرة أخرى، رفض بطرس الانتقام لأطفالنا، "العين بالعين والسن بالسن"، لم تكن هذه له شريعة، ففاجأ أبو المشارق الجميع بالموقف نفسه.
جاء الأبيض، وهمس في أذن عبد السلام:
كنا نسمعهم يصرخون من العذاب. في الماضي، كانت مهنتهم السأم، والمهارة في قتل الوقت بأية وسيلة. كانت المخدرات تشكل جزءًا من هذه الوسائل. طلب عبد السلام من أبي المشارق رفع الحظر عن المخدرات لخيرهم، فسبهم أبو المشارق، واعتبرهم "نفايات المجتمع الرأسمالي".
انسحب القيادي اليساروي، وهو يتظاهر بالغضب ضد العالم أجمع. رأيناه يختفي وراء خط النار، عندما سمعنا فجأة الطائرات المروحية، وهي تقطع سماء تل الزعتر. ظننا في البداية أنها مروحيات الجيش، أو سوريا، لكننا فهمنا بسرعة خطأنا، ونحن نرى النجمة السداسية تلمع في الليل الأسود لبيروت. دفع الأبيض عبد السلام. كان انفجار قد وقع، وغدا المكان الذي كنا فيه مع عبد السلام قد أصبح أثرًا بعد عين. في الغد، وقع نفس الحادث حالاً بعد موعد مع أبي المشارق. لو لم تطلب أم الأبيض من عبد السلام مرافقتها إلى مشغل الخياطة لسقط قتيلاً. شك القيادي الفلسطيني في بطرس الأحمر، هذا "الجاسوس"! قال لأبي المشارق الذي أكد شكوكه وحذره منه.
قنبلت مروحيات نجمة داوود للمرة الثالثة المكان الذي كان عبد السلام يوجد فيه. حسبما اتضح أكثر ما يكون وضوحًا، كان الإسرائيليون يسعون إلى قتله. كان مخبأ لا يعرفه أحد سوى أبي المشارق وبطرس الأحمر. إذن، فهو بطرس، الخائن. اندهش عبد السلام عندما رآه يحضر، وأكثر عندما كشف عن سر أبي المشارق. أراه وثائق تثبت أنه عميل إسرائيلي، فكاد يُجَنُّ. أتيناه بالخائن مكبلاً. اعترف بكل شيء. كان يحمل جهازًا يسمح للطائرات الإسرائيلية باستبيان المكان الذي يوجد فيه قائدنا. أمر بإعدامه فورًا دون أي شكل آخر من أشكال المحاكمة، ودون أية مبالاة بردود فعل ميليشياه. عندما علم ممثلو حزبه بالأمر، قدموا اعتذاراتهم لعبد السلام، وأسخطهم أن يكون أبو المشارق عميلاً لحساب إسرائيل على مقاتليه أنفسهم. أرسلوا في مكانه شابًا اسمه ضوء الليل. أبدى عبد السلام منه حذرًا، لكنه بدا صادقًا. كان شابًا مفعمًا بالحماس، يتقن العزف على الجيتار كالعميل "المرحوم"، ويغني أغاني ثورية. غالبًا ما كان يذهب إلى مشغل الخياطة، ويقضي معظم وقته مع سعد الله وعباس وزكريا وأخت زكريا. كانت أم الأبيض تتمنى تزويجه أَبِية، ابنتها. خلال ذلك، وقع ماجد في فخ نصبوه له في القاهرة. قتلوه في فندقه، ولم يعلق الإسرائيليون أي تعليق. رَوَّج أبو الدميم ما مفاده أنه جواب الصهاينة على إعدام عميلهم، القيادي المتطرف، فجعل من عبد السلام المسئول جزئيًا، وبكى ماجدًا. اختطف أبو مزة بعض الرهبان، وذبحهم، فاتهمنا أبو أرز، نحن رجال عبد السلام، ليحرض الرأي العام العالمي علينا. منذ الجريمة التي اقترفها بحق أطفالنا، كانت ردود الفعل الدولية تعيقه عن تطبيق خطته الجهنمية. أيده كل أبناء طائفته، وكذلك العمة مريم. هذا ما افترضناه، بما أنها لم تكن تظهر. وعدهم بمحو الجريمة بالجريمة، خير طريقة للدفاع عن وجودهم! ولن تهددهم البربرية! اختطف أبو مزة أَبِية، اختطف كذلك سعد الله وعباس وزكريا وأخت زكريا، وذبحهم كلهم دون أن يتأكد من هوياتهم، مع أن زكريا وأخته كانا مسيحيين. بعد ذلك، ذهب ليصلي مع رجاله، وأجراس الكنيسة تقرع، فلمن تقرع الأجراس؟ راحت أم الأبيض تبكي ابنتها في الملاجئ، بينما اتهم الأبيض ضوء الليل، كان كالثور الهائج.
ألزمه الهدوء، لأن هذا لن يخدم قضيتنا. على العكس، سيتهموننا بسكب الزيت على النار. لم يكن أبو أرز وحلفاؤه ينتظرون إلا هذا، ولم تكن اللحظة لإثارتهم، فما ندخره من ذخائر كان ينقص يومًا عن يوم. كان عبد السلام يأمل في عودة ضوء الليل مع الأسلحة الألمانية. بانتظار ذلك، وليجامل الأبيض، سمح لرفاقه بالتعاطي، وهم على وشك التفجر. في اليوم التالي، علمنا أن هؤلاء الرفاق قد اختطفوا بعض سكان بيروت الشرقية، وقتلوهم، حتى دون أن يعرفوا هوياتهم. كان مسلمون بينهم. جردهم قائدنا من أسلحتهم، ورماهم بين القضبان. كان على بطرس وضوء وعبد أن يجتمعوا ليحاكموهم، ففعل كهذا يهدد ببدء الأعمال الحربية ثانية، ولم يكن ذلك يوافقنا طالما أننا لم نستلم بعد الشحنة المنتظرة. حضرت فاتنة وسيطًا بين أبي أرز وعبد السلام، لكن رفض رئيسنا من جديد شروطها. كان عناد عبد السلام ما أزعجها ودفعها إلى دعم أبي أرز في حربه أقصى ما يكون عليه الدعم، حتى أنها قاتلت معه، وأبوها يصرخ: "هذه ليست ابنتي! أنا لا أعرفها! ليشهد الله على ما أقول!" ولم يتوقف لحظة واحدة عن قصف خطوط الأعداء.
الفصل العاشر
أعلم ضوء الليل القائد الفلسطيني أن شحنة الأسلحة الألمانية قد وصلت، وأن كمال الدرزي قد وضع يده عليها. كان على آمرنا أن يذهب بنفسه لإحضارها، لأن القائد الدرزي كان يعتقد أننا مسلحون بما فيه الكفاية في تل الزعتر. أرغى عبد السلام وأزبد، كمال الدرزي، أبوه، وكل أسرة الغائط أسرته. اتهمه بالخيانة وبالخسة، وعزم على الصعود إلى الجبل عنده مع هبوط الليل. بانتظار ذلك، حَمِيَ وطيس المعارك. كان الأبيض يقاتل بحقد وحنق، كطفل مجروح الكبرياء، وجبينه ينضح بالعرق. انطلق باتجاه موقع من مواقع العدو، فقفز عبد السلام من ورائه ليحميه، وقفز ضوء الليل من وراء عبد السلام ليدافع عنه، ولم نتمكن من إخراس الراجمات. بما أن القتال كان لا يهدأ، رجا الأبيض قائدنا أن يطلق سراح "أصدقائه ورفاقه" ليعينوه. أصر على ذلك متعذرًا بإمساك أبي أرز بخناقنا، وبكون مقاتلينا يتساقطون من العناء. طلب عبد السلام رأي ضوء الليل، فأجاب:
كأنه لم يقل شيئًا. كان عبد السلام لا يثق به. ذكره بطرس الأحمر بضوء الليل، وهو يركض من ورائه ليحميه من قذائف أبي أرز. "إنه عنصر وفيّ"، زعل، وهو يُوَلِّي على عَقِبَيْه. لم يكن عبد السلام مقتنعًا بصدق الزعيم اليساروي. كان من اللازم الحذر من أشخاص مثله. يساري أم يساري متطرف، يبقى كلاهما طفلاً لماركس. طلب قائدنا من فريدة أن تفتح عينيها جيدًا وأن تراقبه، وفريدة لم تكن من النوع الذي يسهِّل للخصم الهجوم عليه. كانت أختها في المعسكر الآخر لا تترك لها وقتًا للاستراحة.
قذف الأبيض سلاحه على الأرض.
خرجت أمه من الملاجئ، وهي ترتدي ثوبًا أسود، فظنناها العمة مريم. كانت تحفر وجهها الدموع التي سكبتها لموت ابنتها. كادت تغدو مجنونة لما علمت أن ابنها يريد إيقاف القتال.
كانت صفورية قرية عبد السلام، قرية أمه وأبيه، قبل أن يخليها الإسرائيليون من السكان، قبل أن يهدمها الإسرائيليون حجرًا حجرًا، وها هي أم الأبيض تتكلم عن صفورية دون أن نعرف لماذا.
وكلها دهشة بدورها:
عادت تصفعه. كان يداوم على رفض القتال، وكالضبع يداوم على النظر بشراسة.
ابتعدت بخطوة مثقلة، ثم التفتت، ونظرت حولها زائغة، فبدت كالشيطان. سمعناها تهمهم:
قال عبد السلام لنفسه إن هذه المرأة ساحرة، وإلا كيف يفسر أنها استطاعت قراءة أفكاره؟ لم يعد يشعر بالشجاعة اللازمة لإعادة بناء مدينة كل الخراءات، بعد كل هذا الهدم. وخاصة بعد زيارات رجال الأعمال الإسرائيليين لأبي أرز، زيارات تكررت بفضل العمة مريم، فأخذ يحلم بإعادة بناء صفورية، أخذ يحلم باقتسام الأرباح مع رجال أعمال النجمة السداسية. في الواقع، لم يكن هناك ما يضمن النوايا الحسنة لأبي أرز، وصفورية تبقى بلده. لكن كيف إعادة بناء هذه القرية على مياه الوهم؟ كيف الحصول على ملايين مئات ملايين الدولارات الضرورية لشراء كل هذا الإسمنت؟ أخبرنا عبد السلام بوصول مغربي، اسمه مرزوق، جاء لينضم إلينا، والغريب في الأمر أنه كان يرفض لمس السلاح الذي أعطيناه إياه.
أحضرناه.
ودفع الكلاشينكوف بين ذراعيه. ارتعدت فرائص المغربي، وأغمي عليه. امتدت المعارك إلى ساعة بعيدة من الليل، ووميض البنادق يبدد الظلام. طلب عبد السلام من الأبيض نقل الجرحى إلى مستشفى المخيم، لكنه رفض. كان قد قاتل دون مساعدة المغربي، برر رفضه، وهو متعَب، متعَب جدًا. على أي حال، سيموت الجرحى، أضاف. ذهب ضوء الليل بهم وفريدة وعبد السلام، الذين استقبلتهم أغنيتا، زوجة الطبيب السويدي. كان طبيب المخيم الثاني لبنانيًا حديث التخرج، وكان يعمل متطوعًا مع الطبيب السويدي، وكذلك ممرضة فرنسية، اسمها نادين، أخت زوجة سالم، الأخ الأكبر لآمرنا، المهاجر في فرنسا. قبلت نادين عبد السلام من وجنتيه، كانت تحبه. فريدة أيضًا، لكنها لم تكن تبدي شيئًا. فهم عبد السلام ذلك من الطريقة التي استخدمتها لإبعاده عن نادين، تحت حجة أن لديها ما تقوله بخصوص أختها، فاتنة. أعادت ما كان يعلمه من بطرس، يعني أن ما يهم لفاتنة حب أمريكيها الأشقر. لم تحاول إغراءه، هو، إلا لإذكاء الغيرة في قلب الأمريكي. وكذلك كمال الدرزي، وأبو أرز، وآخرون. سخرت بنا كلنا ليقع في غرامها. عندما أدركت أنها لا تصل إلى تحقيق غاياتها، حرضت أبا أرز علينا. كانت تريد إخضاعنا، وخاصة إخضاع رئيسنا، لأجل قبلة من الأشقر المغتر. كانت تتجاهل أن أبا أرز يعرف الشاب الأشقر معرفة جيدة، أنه يقيم علاقات حسنة معه، ولن يتردد الاثنان عن إخضاعها، مثل كلبة. أبدت فريدة أسفها لتطبيق أختها الاستراتيجية نفسها بشكل مستمر، دون أن تقدر على التفكير فيما تفعل، فتدور عليها الدوائر في المستقبل. هل نسيت في مثل هذه السرعة مَثَلَ صديقتها المصرية، نجية، التي كان الشاب المغتر قد دمرها تمامًا؟
لم يكن يسمح لنفسه بمغادرة المخيم. كان وضعنا ضعيفًا جدًا بعد كل هذه المعارك، فطلب من فريدة الذهاب لرؤية الزعيم الدرزي. كان يأمل أن تتوصل إلى اتفاق معه، لحساسية شعوره تجاه النساء، ولكون فريدة أخت فاتنة التي يريد كمال الزواج منها. عادت الأعمال الحربية بحدة متزايدة منذ الفجر. كان يبدو على أبي أرز أنه قادر على تطويقنا أكثر مما هو عليه، ومن موقع القوة، أخذ يطالب بلبنانه الكبير، فهل كان ذلك بموافقة العمة مريم، الغائبة دومًا؟ كان الجدار الصغير الذي يقسم حينا قد أصبح، وذلك منذ زمن طويل، في طي النسيان.
ادعى بخصوصية لبنان كأمة قائمة بذاتها، لا علاقة مشتركة له بالأمة العربية غير علاقة اللغة والجغرافيا، فثار بعضٌ من جماعته –وكان ذلك اختلافهم الأول التاريخي. قالوا نعم للجغرافيا ولا للغة، فلغتهم كانت "اللبنانو-لبنانية"، ولم تكن غلطتهم إن كانت تشبه العربية. أما لهجتهم، ففينيقية. فينيقيا ولبنان كانا واحدًا، ربما لم يكونا من نفس العصر، لكن على كل حال من نفس الكوكب. بدَّل أبو أرز الأسطوانة ما أن تمكنا من فتح ثغرة في مواقعه، وتسديد بعض الضربات القاسية. عاد يتكلم عن السور، ويهدد بقسم بيروت، فقلنا إن العمة مريم تحفر قبرها بيدها، وهي التي كانت ضد مثل هذا المشروع. خفنا عليها، فربما كانت رهينة القائد الكتائبي. كان عبد السلام في حاجة ملحة إلى الاستعانة ببطرس في فتح ثغرة في جدار رجال الأعمال الإسرائيليين، لكن لم تكن هناك أخبار من بطرس. توقفت المعارك، وأخذت أجراس الكنائس تقرع، فتذكرنا برناديت، ابنة أجراس الحقيقة. بكى عبد السلام. نظر إلى الأنقاض، وقال لنفسه إن من اللازم عليه أن يجد حلاً، حتى ولو توصلت فريدة إلى رفع الحجز عن شحنة الأسلحة الألمانية. قرر أن يبعث من وراء أختها، ليجعلها تعلم أن القوة كالإغراء لا تجدي نفعًا. كفى أنانية! لن تخدع أحدًا غيرها! بإمكانه أن يكون لها وفيًا إن توقفت عن اللعب بالنار، وتركت أبا أرز وكمال الدرزي وضوء الليل وبطرس الأحمر وتقي الدين أن يحلوا مشاكلهم فيما بينهم.
وصلتنا أنغام مع هبوط الليل، كان ضوء الليل يعزف على الجيتار، وكنا ننظر إلى سماء بيروت، فنرى النجمات والغمام، وتصلنا الكلمات والأمواج:
ها إني جئت أعود اليوم إليك جرحًا مطرودًا ثانيةً عن جسد الشام منفيًا عدت وليس معي إلا ذاك الوجه الغارب إلا ذاك الصوت الغاضب لم يسمع أحدٌ قولي في سوق الشام
الفصل الحادي عشر
راح عبد السلام يركض على صراخ أم فريد، وكذلك كانت فريدة تصرخ وتبكي بين ذراعي أمها. أشار أبوها إلى ضربات مخلب على وجهها، وزأر: "إنها أظافر كمال الدرزي!" أخبرتنا فريدة أن القيادي الدرزي قد اغتصبها، وأنه قد عزم على عدم تسليمنا الأسلحة الألمانية.
ذهب ضوء الليل لينذر المغتصب بتسليمنا شحنة الأسلحة الألمانية مقابل الحيلولة دون انتقام أبي فريد منه. أوضحت فريدة لنا أن كمال عندما رآها تدخل في سراياه، ظنها فاتنة. دخن حشيشته المعتادة قبل أن ينام، وحاول أن يخطف قبلة منها، فصفعته، وهددته. عند ذلك، أمر الزعيم الدرزي رجاله بتشليحها من ثيابها، ثم، ضَرَبها بمسدسه على رأسها، ففقدت الوعي.
والأخرى تواصل:
عند تلك اللحظة، ظهرت عمتنا مريم... أخيرًا. قالت عن نفسها، ونحن نبدي استغرابنا، إنها قادمة من طرف أبي أرز، حتى أنها لم تتفضل بالسلام على أم الأبيض. كانت تعمل على أن نرى صليبها، فقط صليبها، فآية الكرسي لم تكن حول عنقها. خلعتها هذه المرة، ولم تخفها. نعم، عملتها فينا، العمة مريم، عملتها فينا. تبدلت العمة مريم، ونحن عندما فكرنا في وقت مضى أنها كانت رهينة أبي أرز، كنا على طول الخط مخطئين. كانت شريكته، وها هي تعتبر نفسها من الآن فصاعدًا كجزء من معسكره. أخبرتنا أن أبا أرز قد أوقف بطرس الأحمر، "جاسوسك"، كان يطيب لها أن تقول لعبد السلام، وهي تتلمظ بشراهة. نصحتنا بالاستسلام وإلا مات. كان رئيسنا أكثرنا استغرابًا. "وداعًا صفورية، وداعًا حاضرتي الخالدة!" همهم. أوجبت العمة مريم على عبد السلام الجواب.
كانت الأسلحة تواصل صمتها، فخرج المختبئون في الملاجئ لينتشروا تحت سماء مرصعة بالنجوم. تعاونوا بعد ذلك كلهم على إطفاء النار ودفن القتلى ونقل الجرحى. عندما التمسوا مساعدة الأبيض رفض.
فصاح عند ذلك من الحماس:
ذهبت بعض النساء وبعض الأطفال إلى البئر، مصدر الماء الوحيد في المخيم، فعادت الجبال تتحرك، وراحت القذائف تتساقط على مطاردي الماء. ظهر أبو الدميم في قلب المخيم فجأة كالعمة مريم، كان برفقته كاتب معروف اسمه ابن الجليل. شرح عبد السلام سوء وضعنا، فتجاهل قائد القادة كلامه. قال إن بإمكاننا أن نلقنهم درسًا لن ينسوه، منايك الكتائب هؤلاء!
وافقه ابن الجليل، لكن أبا الدميم أخذ يتكلم عن سيارته المرسيدس المصفحة التي نشلها أبو مزة منه، على مرأى ومسمع الجميع، والتي يريد استعادتها بأي ثمن. وسلام سًلِّم هذا، وسلام سَلِّم ذاك. كان يماطل.
استدعى محاولات إغرائها معه، مع كمال الدرزي، ومع آخرين غير كمال الدرزي، كمال الدرزي الذي يحرمنا من الأسلحة الألمانية، فكيف الصمود أكثر؟ لم يغير أبو الدميم رأيه، كان مع هجوم "نهائي وحالي" لتصفية أبي أرز في لحظة. اقترح ابن الجليل أن يقوم بدور الوسيط، فغادر أبو الدميم، وهو يرغي ويزبد ضد هذه الثورة الأَحْبِة، وهؤلاء الثوار الأحبات، الأجبن! واختفى فجأة كما ظهر فجأة، دون أن يترك لنا أقل فرصة مؤاتية للتناقش معه. حرر عبد السلام العمة مريم لترافق ابن الجليل في مهمة التوسط لدى القيادي الكتائبي. حَمَّلهما رسالة يعبر فيها عن رغبته الصادقة في الوصول إلى حل يرضي الطرفين. "لن نسمح لنا بالاستسلام، لن نسمح له بالمهانة، ترتيب الأمور بالتي هي أحسن. إن عاند، قاتلنا حتى الموت. إن وافق، كنا لا غالب ولا مغلوب."
أمسك عبد السلام عن صفعها، فأطلقت العمة مريم قهقهاتها. عَبَّر ابن الجليل عن قلقه على القيادي الشيوعي، وأعلن أنه سيعمل كل ما في وسعه لتحرير بطرس ووقف القتال. غير أننا عرفنا من الراديو أن الكرنتينا قد سقطت، وأن تقي الدين قد رفع الراية البيضاء. سلم أبو أرز ابن الجليل إلى أبي الدميم، ليموت الكاتب المعروف في سيارة مفخخة، بينما قائد القادة يزور "إخواننا الخليجيين". تناول عبد السلام قنينة ويسكي من الصندوق الذي صادره أبو المشارق قبل إعدامه، وصب لنفسه كأسًا شربها جرعة واحدة. كان الأبيض يريد أن يراه، لكنه رفض أن يستقبله. كانت التعليمات أن نمنع كل من يرغب في رؤيته من وضع القدم في مركز القيادة، أو غرفة العمليات، كما كنا نقول. قضى طوال الليل مع قنينته، وهو يريق الويسكي إكرامًا لآلهة الوثنية. حطم كل الأثاث الموجود في أَحْبِة غرفة العمليات تلك، فحاولنا أن نرى ما يجري، لكنه طردنا. عاد ضوء الليل عابسًا، ونقل إلى قائدنا أن كمال الدرزي قد رفض رفضًا قاطعًا تسليمنا شحنة الأسلحة الألمانية. لن تغادر "كانتونته"، أضاف، وليثأر أبو فريد لكس ابنته، إن استطاع! في الصباح الباكر، قام عبد السلام برأس مثقل كصخرة، عندما عاد القصف، قصف شديد يأتي من حرش ثابت وفرن الشباك وسن الفيل، مما يثبت أن تقي الدين قد سلم نفسه، وأن كمال الدرزي قد حطنا على إيره. كان جواب أبي أرز على رسالته، وكل هذا كان منطقيًا بعد أن مال ميزان القوى إلى صالحه. حضرت العمة مريم مرة ثانية، كانت رسالته واضحة: "كل شيء أو لا شيء! تل الزعتر أرض لبنانية، وعليكم تركها!" أخبرَت عبد السلام بالقِصاص الذي كان ينتظر بطرس: تسليمه إلى الجيش الإسرائيلي.
استشاط رئيسنا، فجعلته يخرس عندما أعلمته بوقاحة أن فاتنة حبلى من أبي مزة.
بدا لعبد السلام أن المعلومة كانت ثمينة، وأن العمة مريم لم تكشف له عنها مجانًا. وماذا لو طلب منها أن تعمل له، أن تصبح عميلة مزدوجة كالأحمر؟ تردد. كانت العمة مريم واثقة جدًا من نفسها. ودون أن يتوقع ذلك، سمعها تقترح: وماذا لو تفاهمنا سويًا نحن الاثنان؟
الفصل الثاني عشر
قام أصدقاء الأبيض بما لا يصدق من أفعال، فجروا مواقع أبي أرز، وهم يجازفون بحياتهم، فأجبروا الكتائب على الانسحاب دون أن يتمكنوا من التقدم شبرًا واحدًا. كانت الغاية الوحيدة التي يرمي إليها أولئك الرفاق الأشرار هي دخول الجنة، وكان الأبيض يحسدهم على ذلك، ويريد حقنة مثلهم أو حشيشة.
صفعته أمه، واستشهدت بأولئك الثوريين الأدعياء الذين كانوا قد هربوا أمام الهاغاناة في 48. كانوا قد باعوا بنادقهم، وكانت صفورية قد رأتها مضطرة للدفاع عن نفسها بنفسها. صفورية، مرة أخرى. كان عبد السلام يظن أنه يسمع أمه.
تناولت رشاشًا، وحاولت قتل ابنها، فجرحته من كتفه. ترنح الأبيض، واتكأ على سلاحه. حدق في عبد السلام، بعين الهول. كان عبد السلام يحب الأبيض، على الرغم من كل شيء. كان على وشك الوقوع، لما تدخل القائد الفلسطيني.
سأله أن يتركه يقاتل ليسعد أمه، فجاءت فريدة، خفيفة كفراشة، وأخذت الأبيض بين ذراعيها المعطرتين بالحرب والورد. عند ذاك، قال عبد السلام لنفسه إن فريدة قد عادت تقاتل إلى جانبهم. وكما لو كانت تقرأ أفكاره، أوضحت أن أباها لم يزل غاضبًا من كمال الدرزي، لكن بفضل أمها سمح لها بالمشاركة في القتال. ربطَت الكتف الجريحة، وقالت:
حمل عبد السلام الأبيض بمساعدة فريدة، تحت حمم المرتفعات.
قَطَّبَ الأبيض:
نَعُمَت قسمات وجهه:
قهقه عبد السلام وفريدة، لأن لم يكن لدينا طبيب فرنسي. كان يُضَمِّن نادين. كان الكل يعلم أنها تحب قائدنا. كلما كانت المعارك تنشب كانت تسأل عنه باستمرار. أبدًا لم تكن تناديه عبد السلام، اسم طويل كهذا! "سلام مش جريح؟" أبدًا لم تكن تسأل إن كان ميتًا. "سلام يقاتل دائمًا؟" ربما لهذا كان اهتمام فريدة بآمرنا، وكان حبها له كذلك. امحت ابتسامتها عن شفتيها، وتكدرت فجأة. كانت مما لا شك فيه تفكر في القذر كمال الدرزي، وبدلاً من أن يسليها عبد السلام، قال للأبيض:
انضم ضوء الليل إلى رفاقنا الثلاثة، وحمل الأبيض مع عبد السلام. تحاشوا الذهاب مباشرة إلى المستشفى، مع أنه كان على بعد خطوتين من هناك. التفوا حول الأنقاض، وهم يحاذرون السقوط في الحفر، واضطروا إلى الاحتماء مرتين، لِطَوَفان القنابل. كان اللهب يتصاعد باصقًا الدخان الكثيف كبركان، وكانت سماء بيروت تغدو سوداء. عندما وصلوا على مقربة من المستشفى، قال الأبيض:
أول ما رأت نادين عبد السلام، ابتسمت له، قبلته من وجنتيه، ولم تهتم إلا به.
فحصت الجرح، وطمأنته:
تدخلت فريدة:
نظرت إلى قائدنا، وهي تتأمل به الجريح لتعالجه.
ذهبت فريدة لتجلس على انفراد. لاحظ عبد السلام حزنها المفاجئ. نظر إلى شفتيها المغريتين، ثم إلى شفتي نادين، كحبتي توت من البلد، واشتهى عض كلتيهما. لم يكن يمكنه الاختيار. لاحظ ضوء الليل حيرته.
لم يكن عبد السلام يريد العودة إلى الخنادق في الحال، كان يتمنى أن يشد فريدة على صدره، ويعض التوت من ثغرها الشهي، وكذلك من ثغر نادين. نادت أغنيتا، زوجة الطبيب السويدي، نادين. استعدت للذهاب، لكن آمرنا أمسكها من ذراعها، وأحسها ترتجف كالعصفور بين أصابعه.
ابتسمت للأبيض، وهي تهز رأسها، ثم أخذته معها لمعالجته. التفت عبد السلام، لم تكن فريدة هناك. افترض ضوء الليل أنها كانت تنتظر حتمًا في الخارج، فلم تكن في الخارج. وهو يعود إلى مركز القيادة، وقع على العمة مريم التي كانت تنتظره. أخبرته برغبة كمال الدرزي في رؤيته. كان يريد التفاوض معه شخصيًا في أمر الأسلحة الألمانية، فكاد عبد السلام يجن. ما الرابط بين العمة مريم – مبعوثة الزعيم الكتائبي- والزعيم الدرزي؟ ما العلاقة بين كمال وأبي أرز؟ رسمت المبعوثة الغامضة ابتسامة:
فجأة، خفضت العمة مريم صوتها:
الفصل الثالث عشر
أعلم عبد السلام ضوء الليل باللقاء المنتظر مع كمال الدرزي في "الحمرا".
كان عبد السلام يثق بالعمة مريم، "جاسوسته"، فمهما يحدث مع الزعيم الدرزي، سيقبل اقتراح رجال الأعمال الإسرائيليين. سيبني غزة، واأسفاه صفورية! سيغطي ساحة كبيرة بالرخام يرفع في وسطها تمثالاً كبيرًا في ذكرى الشهداء. لم تكن صفورية فكرة حسنة، لم تكن توجد إلا في رأس أم الأبيض المجنونة. لم يكن ضوء الليل يريد أن يذهب عبد السلام إلى الحمرا.
اقترح على عبد السلام أن يقوم بجولة بين مقاتلي معمل البسكوت لرفع معنوياتهم قبل اللقاء.
رافقْنا قائدنا، وضوء الليل يحمل جيتاره بيد وكلاشينكوفه بيد، مما يعني أنه سيغني أمام جمهور المعمل.
قبل وصولنا إلى معمل البسكوت، صادفنا نساءً وأطفالاً، وهم يذهبون لجلب الماء. لم تكن البئر قريبة، فأوصيناهم أن يأخذوا حذرهم. رأينا الأطفال، وهم يقفزون في دغل من العوسج المحترق، وظننا أننا نرى أم فريد، أننا نرى أم الأبيض، فلم تسلما علينا. استقبلَنا العمال في معمل البسكوت بابتسامة عريضة رغم تعبهم، كانوا قد قاتلوا دون توقف، وكانت لحظة الهدوء تلك قد خففت عنهم. سألوا عن معنويات الرجال في تل الزعتر، ولما لم نجبهم، راحوا يرفعون من معنوياتنا. كان علينا نحن أن نرفع من معنوياتهم، ومعنوياتهم من فولاذ! لم يكونوا في حاجة إلى عبد السلام، لم يكونوا في حاجة إلينا.
جاء شيوخ ونساء وأطفال من كل مكان، وأحاطوا بضوء:
غنى ضوء الليل:
الليلة يصحو القنديل السحري تتنزل أمطار الفضة والياقوت يتلألأ وجه الأرض يفيض الشعر يشف الصخر تحلق في الجو حقول الزعتر هاكم زادي: خبز الثورة ماء الثورة
رأى عبد السلام أم الأبيض، جاءت عينه في عينها، وذهبت تجلس وحدها في زاوية. كما لو كانت من عالم آخر. منذ بعض الوقت، غدا ملجأها الصمت. لحق بها، قال لها ابنها بخير.
بدت أم فريد أمامه فجأة، كُنَّ في كل مكان، تلك العجائز، بنات الجن! سألَتْه السهر على فريدة. كان الكل يعرف أنه سيذهب إلى الحمرا بعد قليل، أنه سيُقتل ربما، ومع ذلك طلبت منه أن ينتبه على ابنتها. كان اغتصاب كمال الدرزي يعذبها، وكانت تعرف أن أبا فريد لن يقف عند حده. أوصته على زوجها، وعبد السلام يسمع من لسانها آخر كلمات المحتضِر. نادتهما قبل أن يغادرا، نادت عبد وضوء، ومدت كيسًا من التبغ لكل واحد منهما.
وما أتفه الدخان مقابل المخدرات! سمعاها تقول:
داعبت ضوء الليل من شعره، وقالت إن صوته كان جميلاً، وأغنيته أجمل. عند الغروب، ونحن نعود إلى تل الزعتر، وصلتنا صَليات، تبعها صياح أطفال، كان الأطفال الذين رأيناهم، وهم يذهبون إلى البئر منذ قليل.
في بحيرة الغروب الدامي، أخذت الظلال تتحرك، حاملة الأطفال الجرحى، وضوء الليل يلعن، ويردد أن كل هذا ما هو إلا خدعة. تكلفنا بالأطفال والنساء، وركضنا إلى المستشفى. كانت الأحداث تطغى على الطبيبين، السويدي واللبناني، وأغنيتا، كما كانت دومًا، إلى جانب زوجها، وكانت نادين تشد طفلاً ميتًا بين ذراعيها.
انفجرت باكية، فأخذ ضوء الليل الطفل من ذراعيها، وترك المكان.
مسحت دموعها، وعلى شفتيها المشتهاتين، تفتحت ابتسامتها. فتشت في جيبها، وسحبت شيئًا: رصاصة تضوي بكل الجمال في كفها. وعبد السلام يعود إلى مركز القيادة، سمع ضوء الليل محذرًا من جديد ألا يذهب إلى موعد الحمرا.
تجاهل عبد السلام كلامه، وشكل حرسًا من بيننا، نحن مقاتلو المخيم، لمرافقته إلى الهورس شو. كان المقهى مدمَّرًا، وفي قلب الأنقاض، كان كمال الدرزي قد أخذ مكانًا وراء طاولة يغطيها سماط أبيض، وكان رجاله يترصدون مترين من ورائه. كان نادلٌ بكامل أناقته يقف غير بعيد عنهم، وكانت صاحبة المقهى، التي يعرفها عبد السلام جيدًا، في مكانها المعتاد خلف الصندوق، بشعر مشعث، ووجه مضمد، وعين متورمة. ابتسمت له بفم اقتلعت أسنانه. ما أن جلس عبد السلام مقابل كمال، ونحن نقف مترين من ورائه، أشارت إلى النادل إشارة من ينتظر أخذ الطلبات.
قهقه كمال:
نظر عبد السلام حوله:
أحضر النادل القهوة، وعاد إلى مكانه واقفًا، على استعداد لتلبية أقل طلب. رشف عبد السلام قهوته ثم:
سمع أصابعنا ترتعش على أزندتنا، وكصدى أصابع رجاله.
لم يستشط آمرنا، على العكس:
نهض عبد السلام ليتبول، فقالت له صاحبة المقهى:
نهض كمال ليتبول كذلك، كان يدير ظهره لعبد السلام، وكانا يتبولان معًا على أنقاض المقهى، وعلى آثار الكتاب العرب.
لم يقل له رئيسنا إن فاتنة حبلى من أبي مزة، إن الوقت متأخر جدًا لطلب يدها.
في تلك اللحظة، انبثق أبو فريد من الأنقاض، وبدد كل شيء. ألقى بنفسه على الزعيم الدرزي، وطعنه حتى الموت. في طُرفة عين، كان آمرنا تحت آباطنا، لنحمله، ونركض به كالمجانين، في شارع الحمرا، بينما رجال كمال الدرزي يطلقون النار علينا. بقي رجال أبي أرز محايدين، فاضطرب عبد السلام لمصير أبي فريد. وقل إن زوجته كانت قد أوصته بالسهر عليه! كان أزلام كمال قد أفرغوا أسلحتهم في جسده. صعدنا في عرباتنا، وانطلقنا كالإعصار. ونحن نمضي بكباريه "الروشِه"، سمعنا أحدهم يقلد الصوت الذهبي لوديع الصافي. كان غناؤه أسوأ غناء، وكان يبين عبر النافذة المفتوحة جمهور من شخصيات السموكن، في ليلة الموت والجحيم تلك. على بعد عدة أمتار من الكباريه، كان رجال مسلحون يقتلون رجالاً غير مسلحين، ويلقونهم من فوق صخرة في البحر. اقتحمنا حاجزًا، وأشخاص يطلقون على بعضهم في كل الاتجاهات، وهم يجرون من شارع إلى آخر. أراد عبد السلام الابتعاد عن كل هذا بأقصى سرعة، أراد الابتعاد عن نفسه، أو ربما الاقتراب منها أخيرًا، لم يكن يعرف. أوقف العربة، واتجه نحو الشاطئ. في الظلام، وضع قدمًا على برميل نفايات نووية، وتخيله قرشًا قادمًا من أعماق البحر. ماذا أفعل هنا؟ قال لنفسه. ماذا أفعل في ماخور الخراء هذا؟ ماذا أفعل في أَحْبِة المدينة هذه؟ في سوق أقفية العرب هذا؟ في خراء الحضارة العربية هذا حيث يُقتل كل شيء، الشرف العربي، المجد العربي، الكِبَر العربي! ماذا أفعل في هذه المدينة الأَحْبَة المعتوهة؟ مدينة الخبل والهذر هذه؟ الدم والمضاجعة؟ الموت والجبن؟ الخيانة والجريمة؟ اللصوصية والاغتصاب؟ التهريب والدعارة؟ والدعارة، والدعارة... ماذا أفعل على ماخور طريق التحرر العربي؟ طريق معركة الإذلال العربي؟ نضال هز البطن العربي؟ صلاة رفع الصنم العربي؟ وفاء رب المال العربي؟ تضحية النفس لأجل القضية الأكثر دناسة، التشييد الأكثر بشاعة، البناء الأكثر فظاعة، وتدمير العالم العربي الأكثر جمالاً؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ آه، يا إلهي! أجبني!
الفصل الرابع عشر
قبل أن نعود إلى تل الزعتر، مر عبد السلام بأبي الدميم ليراه، كان يريد أن يعلمه بمقتل كمال الدرزي، وأن يبحث معه وضعنا، هذا الوضع الذي غدا صعبًا جدًا. كانت سيارته المرسيدس المصفحة مصفوفة على الرصيف أمام عمارته، فبدا له ذلك غريبًا. بعد كل شيء، كل شيء ممكن في ماخور كل الخراءات هذا. وجده برفقة أبي أرز، وهما نصف عاريين، كأس في اليد، وحولهما نحو عشر عاهرات. كانا يحتفلان بموت الزعيم الدرزي، عدوهما المشترك.
أرغى قائد القادة وأزبد قائلاً إن جزمات الإسرائيليين أحسن منه. فرشت العمة مريم مئات صحون المزة، وأحضرت خروفًا محشوًا قطعه عبد السلام بِحَرْبَتِهِ، لِيُمْتِعَ معدتي الزعيمين. كان أبو أرز يأكل كالذئب، يلقي النكت ويضحك مع أبي الدميم، يقبل العاهرات ويشرب مع الشياطين، وكانت الأجواء أمثلها للتفاوض:
استولت علينا الدهشة، ونحن نسمع أبا الدميم رافضًا، كان يعتبر أن رفع الحصار في هذه اللحظة "التاريخية" زَيْغٌ وضلال.
تركهما عبد السلام في هَتَرٍ وهذيان، وعاد مباشرة إلى غرفة العمليات، بكلام آخر مركز القيادة. أمرنا أن نمنع كل من يريد الدخول، فتح قنينة ويسكي جديدة، وراح يثمل حتى تختخ. جاءت فريدة، وألحت على التحدث معه. كانت قد سمعت من يقول إن أباها مات، فأدخلناها. وعبد السلام بين الصاحي والغافي، أكد مقتل أبيها، فترامت في ذراعيه باكية. وضع خده على خد الفتاة، وبشفتيه ذاق ملح دموعها، وكم كانت دموعها زاكية! عند ذلك، أخذت تقبله. كانت قبلاتها لذيذة، ألذ ما طَعِمَ في حياته. أراد الابتعاد عنها، لكنها عادت إلى تقبيله. خلعت قميص الفدائيين، وعلى مرأى نهديها ذاب سحرًا. أعطاها ظهره بحثًا عن كأسه، وشربها جرعة واحدة. عندما استدار، كانت عارية تمامًا، مستعدة لممارسة الحب معه. قبلها من شفتيها، من نهديها، من فرجها، وهي وقوفًا باقية، مستسلمة، فحطم الكأس، وصاح:
أخذته بين ذراعيها برقة لا حدود لها، والأرض تترجرج تحت قدمي عبد السلام. انطلق نباح كلب، ثم، رشقة طلقات متواترة.
"بكت أمي والطفلان بمرارة وكذلك أطفال الجيران، وارتدى بيتنا ثوب الحداد، وكل الحي معه. حقًا كان طيبًا ومطيعًا يحبه الجميع! لففناه أنا وسالم بجريدة، ورميناه في المزبلة." "لماذا ذبحوا الكلب؟ من ذبحه؟ ماذا فعل؟ أسئلة كان بإمكان الكل أن يطرحها، لكن، شيئًا فشيئًا، نسينا الحادث." "كان أخي سالم يمشي على قدميه كل صباح من مخيم عين بيت الماء إلى نابلس، فيأخذ منه ذلك ساعة أو ساعتين. كان يعمل في المعمل الصغير الوحيد في المدينة، حيث كان يمارس مهنته كنساج، وكانت أمي تنهض من النوم ساعة قبله، تعجن، وتجلي، وتغسل بسطة الإسمنت، وحدها البسطة كانت من الإسمنت في بيتنا، فتنفجر رائحة الإسمنت في منخريّ، في صدري، في رأسي. لم أكن أذق طعم الراحة في الساعات الأخيرة من نومي إلا باستنشاق رائحة الإسمنت المغتسل بالماء. كانت البسطة محاطة بسياج من أعواد القصب يحمينا من عيون الناس، وكان كوخنا يُخْتَصر بِحُجْرة واحدة ذات جدران من الطين الناشف، وسقف من الزنك، دون نوافذ. كنا نتكوم في الداخل، قيامًا أو قعودًا، أيام القر أو الحر، ولم يكن يبقى لأمي، بعد شغلها الصباحي، غير أن ترمي دجاجاتنا بالذرة، وأنا أسمعها تقوقئ قرب يديها." "كان أخي سالم يحب عمله منذ صغره، وكان يذهب إلى المعمل مع أبي في يافا، عروس البحر، كما كنا نسميها. كانت صفورية بعيدة بعض الشيء، وكان يبقى طوال ساعات بين آلات النسيج دون أن يشعر أبدًا بالملل. أتذكَّر، عندما كان يعود إلى البيت، كيف كان جدي يرفعه بين ذراعيه. أتذكَّر كل شيء في الوقت الحاضر: لحية جدي البيضاء، شعره الأبيض، حاجباه الأبيضان، نظرته البيضاء والعميقة." "بعد النكبة عام 48، وجدت أمي نفسها وحيدة في المخيم بعيدًا عن بيتنا، مع طفلين آخرين، عزت وياسمين. كان أبي قد طلقها، ورحل، لم نكن ندري أين. كيف استطاع أن يفعل شيئًا كهذا هو الذي شارك في الثورة عام 36 وفي الحرب عام 48؟ كانت تصلنا أخباره من وقت إلى آخر، أخبار مقتضبة، فيقال لنا إنه مرة في دمشق، ومرة في الكويت، ومرة في الإسكندرية، ومرة في مرسيليا، ومرة في مالطا. إنه بدَّل مهنته عدة مرات، وإنه ما أن كان يتعرف على أحد حتى ينأى عنه. فجأة، عاد عام 67 ليموت في الحرب، وليترك لأمي ذهب الهزيمة. قبل النكسة، كانت أمي تكسب فضة الحياة مقابل غسل ثياب الجنود، تلميع جزماتهم، وتنظيف ثكناتهم، وكانت خالتي بدرية، التي لم تكن متزوجة في ذلك الوقت، تعمل منظفة عند أسرة ثرية من نابلس، مما كان يسمح لها بمساعدة أمي قليلاً. ثم تزوجت خالتي بدرية، واضطر أخي سالم إلى ترك المدرسة ليتعلم مهنة النساج. كان الأول في صفه، وكان معلموه يعترضون على قطع دروسه. كانوا طيبين! لكن، هم، لم يكن بإمكانهم أن يشعروا بما كانت تؤثر فينا آهات أمنا كل مساء. كانت تتأوه كما لو كانت تحتضر، بسبب كمية العمل التي كان عليها إنجازها في اليوم. كم كانت تشقى من أجلنا! ورغم ذلك، غالبًا ما كنا ننام على جوع بطننا. لم يكن لسالم الخيار، كانت أمي في حاجة إلى عمله، وكان في حاجة إلى علمه. لهذا، لم يترك كتبه العزيزة ولا أصدقاءه. كان الأستاذ جودت يعطيهم درسًا أو درسين خصوصيين في الأسبوع، وهم يجتمعون ستة أو سبعة في حجرته الصغيرة، ليسمعوا، ويكتبوا. لن أنسى أبدًا ما كان أخي يحكيه لي عن الأستاذ جودت. رماه الأردنيون في السجن عدة مرات، لأنه كان ثوريًا حقيقيًا، وتقدميًا حقيقيًا. كان يبدأ بشرح نظرية رياضية، ثم يأتي إلى الثورة، إلى الممارسة، وإلى كيفية التوصل إلى التحرير. كيف نصنع الثورات، الثورات بأتم معنى الكلمة. أقول كل هذا بعد أن عرفت ماخور الخراء هذا، جِراء الثوار هؤلاء!" "كنت أرفض الذهاب إلى دروس الأستاذ جودت التي كانوا يريدون أن أسمعها، تمامًا كما كنت أرفض مهنة النساج التي كانوا يريدون أن أتعلمها. هربت من المدرسة، وبقيت طويلاً، وأنا أتسكع في أزقة المخيم. لم تكن أية مهنة تجذبني مذ كنت صغيرًا، ومع ذلك كنت ذكيًا، وأتعلم بسرعة. لهذا غالبًا ما كنت أتشاجر مع سالم، حتى أنني كنت أضربه، وكان يضربني، ومرة جرحته في جبينه، رغم أنه كان أكبر مني. الوحيد الذي كان يؤثر عليّ خالي. كنت أشعر بالانجذاب إلى خالي الذي كان يحبني أكثر من سالم، أكثر من عزت، أكثر من ياسمين. نجح في إقناعي بمساعدته في عمله، فرافقته أينما كان يذهب. كان خالي ميكانيكيًا، وهكذا صرت ميكانيكيًا..." كانت هذه الحكاية الطويلة قد أتعبت عبد السلام، فنام نومًا عميقًا لم يستيقظ منه إلا على دوي المدافع، وشمس خجولة تتسلل من بين أكياس الرمل الموضوعة على النوافذ. وجد نادين عارية في فراشه، فأصابته الدهشة، لأنها كانت عارية، ولم تكن سمكة، ولأنها كانت نادين، ولم تكن فريدة. أوضحت له نادين، وهي ترتدي ملابسها، أنها كانت قد وجدته يقشعر من البرد، وأنها كانت قد نامت إلى جانبه لتدفئه، خير علاج لَمَّا ينعدم الدواء. كانت حجتها لتفعل الحب معه. أعلمته أنه كان قد هذى كثيرًا خلال نومه، وتوارت مع ابتسامة أخيرة.
الفصل الخامس عشر
أتينا عبد السلام بحَساء من عظم الكلب الذي كنا قد قتلناه عشية أمس، فرفض شربه. فتح قنينة ويسكي، وشرب كأسًا جرعة واحدة. جاء ضوء الليل مُعْلِمًا أن القصف قد بلغ أوجه، وأن عليه أن يذهب إلى مراكز القتال حالاً. شرب كأس ويسكي أخرى جرعة واحدة، وقال إنه مريض. سمع نباحًا، فأوضح ضوء أن "المدمنين" قد أخذوا ينبحون كالكلاب.
لم يكن هناك شيء يَسُرُّ ضوء أكثر.
قليلاً فيما بعد، غدا النباح أكثر فأكثر. وصلت قائدنا صيحات حربية، ثم عدة صَليات نارية. جاءت العمة مريم لتزوره، وثلاثة من رجالنا ماتوا بسببها، بينما هم يحاولون حمايتها. أطلق الكتائب عليهم، فأثار موتهم غضب المخيم على عبد السلام.
رأته العمة مريم يشرب جرعات كبيرة، ولاحظت الحمى التي تلتهمه.
كان عبد السلام يواصل الشرب بِسُعْر، فاقترحت العمة مريم أن يذهب للعلاج في مستشفى من مستشفيات تل أبيب، في إسرائيل.
أرسل عبد السلام في طلبنا، وأَمَرَنا بتوقيف العمة مريم، ليكسب رضى المخيم طبعًا، وليس "للقضية المقدسة" إطلاقًا.
تعثر القائد الفلسطيني للحمى التي كان فريستها، ووقع بطوله. حاول القيام عبثًا، فأشار إلى أحد حراسه أن يحمله حتى سريره. طالب بقنينته، ثم بإحضار نادين، والقصف لا يتوقف لحظة واحدة. تخيل القذائف تصل إلى مخيم عين بيت الماء. سيرفعه على أعمدة من ذهب، وسيعمل من كل مأوى تنكي قصرًا، قصرًا ولا كل القصور، بنوافذ كثيرة. اقتربت نادين منه، وعانقته. أخذت منه قنينة الويسكي، وقالت إن حرارته ترتفع. عدة ثوان فيما بعد، راح يقشعر من البرد. تعرت بسرعة، ثم عرته، ولفته بذراعيها.
إذن ما قالته عن طريقتها في العلاج كان صحيحًا، إذن ما فعله من حب معها كان غير صحيح. أراد أن يتكلم، فمنعته. "نم"، همست، وهي تضغط وجهه على ثديها. نهض عبد السلام خلال الليل، لم تكن نادين هناك، كانت هناك فريدة، وكان القصف يتواصل. سألته فريدة إن كان يشعر بتحسن، فلم يجب. تناول قنينته، وشرب جرعة كبيرة. أخبرته أن الزعيم الدرزي الجديد أراد أن يقوم ببادرة حسنة تجاه المخيم، فأوصل صناديق الأسلحة والذخائر الألمانية، والمقاتلون يقاومون جيدًا. لم يسأل نادين أينها، كان يريد فقط ضمها. مد يده إليها، فرمت بنفسها عليه، وقبلته. لكن، أيها الشيطان، لماذا تقبله بكل هذه الرقة؟ ما أن أحس بشفتيها على شفتيه حتى اجتاحه الشعور بالذنب. آه، لو يمكنها أن تكرهه! أسقته حَساء عظم الكلب، بعد أن خلطته بالويسكي، ثم، رجته أن يتابع حكايته.
كان ذلك كما لو أن ألف عام قد مضت! جرع كأس ويسكي دفعة واحدة قبل أن يجزم:
طلب من فريدة أن تحضر سلاحه.
نفَّذت. أفرغه عبد السلام من الرصاص تحت نظرات الدهشة والاستغراب لحسناء الجنوب، وعاد إلى الارتعاش.
ليخفف من نوبة الحمى، راح يفرك جسده بالرصاص. فهمت فريدة هذا الإجراء، وابتسمت. بعد ذلك، أخذ عبد السلام يسكر. ودون إرادته، عاد يروي:
"بعد النكسة، توقفت أمي عن العمل في الثكنات، وأخذت تعمل في أحد معامل الصابون، تنقل الوقود من المستودع إلى الفرن. كان عملاً متقطعًا، يتوقف على طبخة المصبنة الشهرية، وكان عليها الذهاب إلى البلدية كل يوم لتعرف إذا ما كان لها عمل. في أحد الأيام، دمجوها مع مجموعة من العمال الذين يشقون طريقًا جديدة في جبل عيبال. يربض جبلنا دومًا من وراء المخيم عظيمًا، ينهض شامخًا مخترقًا السحاب. كانت أمي تتسلقه عند الفجر، والندى يتلألأ على وجنتيها، بينما تجر ثوبها المطرز بألف لون، وشال رقيق أبيض يغطي رأسها وكتفيها. كانت تصعد، والشمس في أعالي السماء، تصعد معها. كانت تقول لي: يَمَّا، لما تصعد الشمس فوق الجبل، وتصير برتقالة، يهتز قلبي فرحًا، ويقوى العظم في ساقيّ!" "الصعود! كانت هناك تلتقي بأناس آخرين مثلها. كانوا يعملون طوال النهار. كانوا يضربون فؤوسهم في الصخر، وينقلون على أكتافهم أكياس الحجارة، كالشياطين الطيبين، ويقذفونها من منحدر، حتى تجف شفاههم، ويخبو النهار. حقًا كانوا يشقون طريقًا، لكنها لم تكن لهم. فؤوسهم ومجرفاتهم لم تكن ملكهم. عندما كانت أمي تعود إلى البيت في المساء، يكون لها شكل الحمامة الساخطة. كانت تنهض كالجبل، وتنفض ثوبها. وفي الحال، كانت رائحة الإسمنت تملأ رئتيّ. كان يغالبها التعب، فتضع قدميها في اللَّكَن، وتترك ياسمين تصب الماء فوقهما. كانت تفرك قدميها بأناة، وكأنها ترعى طفلاً. قدما الجميع قدماها! كنا جميعنا ندب في عروقهما، فتنقلنا إلى كل مكان تذهب إليه، وننمو فيهما بأناة ونقوى ونكبر." "كانت أختي تلومها على كثير تعبها، فتبتسم لها بسكون، وهي ترفع نحوها جبهتها، ولا تجيبها، وكان يصبح للماء لون الوحل، ولا تريد لأختي حمل عش التماسيح، تحمله هي، فتنفر عروقها كجذور الشجر، وتُبْغَث الحياة أينما تطأ..." في الصباح، نهض عبد السلام من نومه قافزًا على صوت انفجار هائل، ونادين تنام عارية في سريره. خففنا نطفئ حريقًا اندلع من نافذة. كانت قذيفة ألقيت عن عمد على مركز القيادة. حضر ضوء الليل بطلب من قائدنا. "هذا الاعتداء المتعمد عليّ، لأني أوقفت العمة مريم"، أوضح. اقترح أن نطلق سراحها، إلا أن الزعيم اليساروي اعترض.
تناول الطلقات التي أخرجها عبد السلام من سلاحه، وأخذ يقذفها في الهواء ويلتقطها واحدة واحدة، في نفس الوقت الذي يشرح فيه عطوبية خنادقنا. أضاف أننا في حاجة إليه. أفرغ آمرنا آخر قطرات الويسكي في القنينة، وفتح قنينة جديدة. أشار إلى نادين التي تنام ملء جفنيها، كالطفل الرضيع، رغم قوة الانفجارات.
احتد القصف فجأة، فأقفل ضوء الليل أذنيه، ورفع إصبعه في اتجاه نادين.
حاول رئيسنا إيقاظ نادين. كانت تواصل النوم. لم تكن تشعر بعبد السلام هازًا قارصًا. كانت في عالم آخر غير عالمه. كانت أحلامها أخرى غير أحلامه. حتى كوابيسها لم تكن نفس كوابيسه. سحب الغطاء عنها بيد الغضب، فكاد جمال جسدها يجعله مجنونًا. كان لها جمال ألف امرأة. تردد بين أن يترك نفسه لقمة سائغة تحت أسنان وحش الواجب أو وحش الشهوة. وليواجه ضَعفه، صب الويسكي في فمه حتى قضى على الوحشين، وقضى على نفسه بالثَّمَلِ حتى الموت.
الفصل السادس عشر
حكى عبد السلام لنادين، وهو يأخذ قنينة ويسكي بيده، نادين التي نامت كل النهار، وكانت لم تزل تنام عند هبوط الليل، حكى لها ما وقع في ذلك المساء. كانت طريقته في التحدث مع نفسه، في التحدث عما كان يرغب في محوه من ذاكرته، دون أن يصل إلى ذلك:
"عقدوا أيديهم خلف ظهورهم بحبال سميكة شدوها حول أعناقهم، فاضطرهم ذلك لثني رؤوسهم إلى الوراء. لم يكن بإمكانهم أن يُنزلوا أذرعهم إلى حيث تكون هناك "راحتهم"، لأن ذلك كان يعني أن يحكموا على أنفسهم بالاختناق، فرفعوا وجوههم نحو السماء. كانت الحبال تحك أعناقهم، وتخنقهم، ما أن تَهِنَ أذرعهم." "أوقف الجنود الإسرائيليون النساء والأطفال في ناحية، والرجال في ناحية، وراحوا في ذهاب وإياب حولهم، بخطواتهم الميكانيكية، محولين عين بيت الماء إلى معسكر اعتقال، وياسمين الموت إلى احتفال." "عندما جمعوا سكان المخيم كلهم، اختاروا بشكل تعسفي مجموعة من الرجال لست أدري كم، من بينهم خالي. إرهابيون، إرهابيون، كانوا يصيحون بصوت هستيري. صفوهم، وأعدموهم." "تعالت صرخات النساء، وهز عويلهن الجبال. كانت أمي تحدق بخبل في الدم المتفجر... كانت تنظر إلى المخيم المذبوح، وتراه يختلج، مثل كلبنا في ذلك اليوم." "في اليوم التالي، جاءت الجرافات، وهدمت بيوتنا البائسة. ثم... بعثرونا في الحقول، كالبهائم." "في عمان، حملتُ السلاح إلى جانب زوج خالتي بدرية والأستاذ جودت. كنا نقضي معظم وقتنا في مخيم الوحدات. كنا نركض طوال النهار، كنا نركض طوال الليل، كنا نركض طوال الوقت. هناك، تعرفت على أبي الدميم، يوم كان وطنيًا مخلصًا، أو، إذا شئتِ، عندما كنت أظنه وطنيًا مخلصًا. كان يبتسم للناس، ويصيح معهم، ويطلب من النساء أن يزغردن كلما مر بهن فدائي. كان يقول لي بصوته المبحوح: انظر إلى أطفالنا! لم يعودوا يركنون إلى الزوايا ما أن يروا بندقية على كتف أو بدلة كاكية!" "كان الأطفال يُعَبِّرون عن فرحهم، كأمهاتنا، للتحرير، لليوم الجديد، وكنا نسمع الأناشيد الثورية من كل مكان، من الخِصاص، ومدن التنك." "اتسعت حلقة الأستاذ جودت، وتزايد العمل النظري. عَلَّمَنا الأستاذ اللامع حتى الإنجليزية والفرنسية والعبرية. بالنسبة له، لتهزم عدوك عليك أن تتعلم لغته! لكن، كان ينقصنا الوقت للتطبيق، ففتحنا أعيننا ذات يوم على أصوات القنابل، القنابل الأردنية، هذه المرة، الأثداء الملكية. اشتعل ليل عمان كما يشتعل اليوم ليل بيروت." "هل تعرفين؟ للرصاص أثر الرذاذ على الشتائل لما يصمد المقاتل." "عندما التفتُّ إلى الأستاذ جودت، رأيته ينكسر على نفسه في عمق الخندق، ممزق الجسد. رفعته بين ذراعيّ، فسألني أن أتركه ساكنًا. أَمَرَّ أصابعي على جروحه، ولفظ هذه الكلمات الأخيرة: "التحرير الحقيقي، أن نعرف ما الثورة، أن يعي الجميع ما هي." وسقط صريعًا. لم يكن يعلم أن عمان لم تكن سوى محطة في خطة عملوا على إعدادها منذ زمن بعيد للاستيلاء على بيروت. لم يكن يعلم أن بيروت ستكون المحطة القادمة للاستيلاء على مدينة أخرى. لكل محطة هدف مروع يختفي وراءها، قُطْفٌ من الموز، مكيدة حتى الثوري الأكثر بصيرة يجهلها." عندما استيقظ عبد السلام في الغد، وجد فريدة في فراشه. كانت عارية، وكان القصف يغتصب كل شيء، كالعادة. لم يكن يتوقف في النهار، ولم يكن يتوقف في الليل. لم تعد عند عبد السلام حرارة، ولم تعد عنده قشعريرة. وعلى العكس، كانت الحرارة ترتفع مع ارتفاع الشمس، وتجتاح جسد بيروت. أيقظ فريدة، فلم تشأ الذهاب. تعلقت بعنقه، وقالت إنها تحبه، إنها تعبده، وإنه رجلها وربها! أجبرها على ارتداء ثيابها، وطردها. فتح قنينة ويسكي، وشرب كأسًا، ثم أخرى، وهو يغلق عينيه. عندما فتحهما، كانت أم الأبيض واقفة أمامه، بقامتها الفارعة، ورائحة إسمنت تتصاعد من بدنها، فترك نفسه من المفاجأة يسقط على مقعد.
هددته بسلاحه:
أشار إلى الرصاصات الملقاة على الأرض كحبات البلح، فدفعت السلاح بين ذراعيه، وأمرت:
عبأه.
تردد.
أخذ عبد السلام جرعة ويسكي كبيرة، وبقي في مكانه ينظر إليها. خلصتْه عندئذ سلاحه، وراحت تطلق عليه، دون أن تصيبه رغم ذلك. جئنا نجري، وخلصناها السلاح بصعوبة.
سألْنا ماذا علينا أن نفعل بها.
رأيناها تسير بقدم ثابتة باتجاه مواقع العدو، وهي تشق في النار خطًا، واختفت فجأة، كأنها السراب. جاء ضوء الليل ليقول لعبد السلام إن أبا أرز يوجب إطلاق سراح العمة مريم مقابل إيقاف القصف.
قذف ضوء الليل وهو على عتبة الباب:
طرده عبد السلام بحركة مرهقة. ثم، كان دور أم فريد. لعنت ابنتها فاتنة، الحبلى من الكافر، لكنها مهما يكن تبقى ابنتها. رجت عبد السلام أن يسمح لها بالذهاب لتراها، لتكون قربها، لتعينها، لتنصحها. ضغطت يده على نهدها المترهل، خلال مرور الصواريخ من فوق رؤوسنا.
سمع عبد السلام نداءاتنا التي في الخارج، ولم يسمع نداءات أم فريد التي في الداخل، كنا في رأسه، كانت الحرب في رأسه، وكانت الأفاعي في رأسه. كنا نشجع أنفسنا على أكل التفاح، على الاستمرار في الإطلاق، على ألا نتوقف:
كانت أم فريد تضحك بصخب ضحك القروش، ففكر عبد السلام أن المرأة قد غدت مجنونة، وما لبث أن سمعها تقول:
وأخذت تضحك مقلدة الأصوات الذكورية: "أطلق الدوشكا، ها، ها، ها..." "أطلق البي سفن، ها، ها، ها..." "أطلق هاونك الستين، ها، ها، ها... ها، ها، ها، ها، ها..." كانت لم تزل تضحك عندما تركته. أخبر أحد الفدائيين قائدنا أن العمة مريم قد أُطلق سراحها، ومع ذلك، لم تتوقف جهنم. كانت أنهار النار تصب علينا من المنصورية، ومن الحازمية، ومن الفنار، من الأشرفية، من المدينة الصناعية، من فرن الشباك، وَوَصَلنا من الملاجئ هذا الصراخ:
كان الناس يلعنون رئيس الميليشيا الأكثر بربرية في العالم:
الفصل السابع عشر
احتل أبو أرز وكتائبه ضيعة المكلس، كانوا يعتزمون الاستيلاء على معمل البسكوت، ومن هناك، الوصول إلى مخيم تل الزعتر. جاء ضوء الليل ليطمئن قائدنا:
بيد مرتعشة، صب عبد السلام لنفسه كأسًا، وشربها جرعة واحدة. امتلأ منخراه برائحة الدم والموت، برائحة الجثث المتحللة، الملقاة في الشمس. فَرَكَ وجهه بقليل من الويسكي، حتى أنه صب بعضه في منخريه، لكن الرائحة المقززة بقيت على حالها، فَتَغَلَّب على ضوء الليل يأسٌ مفاجئ:
اتهم آمرنا بسقوط ضيعة المكلس، ناعتًا إياه بالسكير، بالفوضوي، بالغراب الثوري! ودون أن ينشغل بتناقضاته، صب لنفسه كأسًا، وشرب جرعة كبيرة.
أقفل عبد السلام أنفه بإصبعين، غير أن رائحة الجثث بقيت تطارده. بدأ يسعل، ويعطس. اتجه نحو النوافذ، وأخذ يضاعف أكياس الرمل، ليسد أقل ثغرة فيها، حتى تختفي الرائحة الكريهة. جَعَلَنا نزرع الحصى في الدماء، وأمر المقاتلين بوقف المعارك من أجل دفن الموتى.
سارع عبد السلام إلى الخروج ساخطًا، وهو يزرر قميصه، ويلهث كما لو كان نَفَسُهُ ضائقًا. أمر بدفن الجثث في الحال، رغم إطلاق النار، والقذائف تصب على الجثث لتقتلها مرة ثانية.
أفرغ كأسه، وراح يتفلسف:
وبعد أن ثَمِلَ قليلاً:
يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء!... دفن وجهه في مخدته، وهو يأمل أن يخفف ولو القليل من الرائحة النافذة. كان الحريق ينتشر، وكانت الملاجئ تظمأ. يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء!...
كنا، نحن الفدائيين، المقاتلين، المجانين، على اختلاف الملل، منهكين، وكنا نعلم أن معمل البسكوت إذا ما سقط كانت نهاية تل الزعتر. أرغمنا الكتائب على التراجع، وحاصرناهم داخل الكنيسة. كانت في ضيعة المكلس أكداس من الدبابيس، وكانت في ضيعة المكلس أمواس من الصقيع، فحيث يطأون، تنبثق الأشواك، ويمتد الجليد طبقات. سمعنا صَلية رشاش:
أجاب أبو نضال على أبي فداء بصَلية رشاش.
أجاب أبو ثائر هو كذلك مطلقًا صَلية رشاش، لتحترق الأشواك، ويذوب الصقيع، ليتحول الصقيع إلى بحر يطوي دبابات أبي أرز في جوفه. قهقه أبو ثائر، ثم لا شيء. أقلق صمت أبي ثائر المفاجئ رفاقنا. رأوه ينقلب على ظهره، كصُندوق للقراصنة. كان يضغط ذقنه بيديه، محاولاً حبس دمه في فمه. كان يهمهم: "أنا عطشان!" تخبط على الأرض خلال لحظة. "أنا جوعان!" قال. ثم، توقف عن الحركة. كاد أبو فداء يفقد عقله. أطلق كالمجنون، بكى، كفر، وأطلق من جديد. غطس أبو نضال بأصابعه في دم صديقه، كما لو كان يَلَذُّ له أن يفعل. أفجعنا موت أبي ثائر. أرسلنا من يخبر عبد السلام، فبعث ضوء الليل ليخفف عنا، ليربطنا بالمرساة. لم يعد آمرنا يحتمل الجثث، ولا رائحتها. لم يعد يحبنا موتى. بدت أم الأبيض أمام أعيننا، كالسراب المنبثق من قلب النار. سمعتْ أبا فداء يقول لفريدة، وهو يبكي:
قفزت أم الأبيض كالشيطان، ومدت له أحزمة الرصاص:
دَلَّنا الأطفال على أعداء يحاولون التسلل خلفنا، كان ذلك من "اختصاص" أبي ثائر، كان هو من يتكلف بالتسللات. غاص ضوء بنظره في أعين الصغار، كان خائفًا مما سيقرأ، فبحث عن إيهام نفسه مرددًا في صمت: "أبو ثائر لم يمت! معمل البسكوت لن يسقط!؟ بينما كان عبد السلام يشرب كأسًا تلو كأس، كان أبو ثائر قد مات بالفعل، وكان معمل البسكوت على وشك السقوط. اقترب عبد السلام من المرآة، ونظر إلى نفسه، فظهر وجه أم الأبيض مكان وجهه. وجه أسود، بشع. أخذت تقهقه، بفمٍ اقتُلعت أسنانه. انبثق وجه أم فريد بدوره، أكثر سوادًا من وجه أم الأبيض، وأكثر بشاعة. هي أيضًا أخذت تقهقه، بفمٍ اقتُلعت أسنانه. أخيرًا، حررنا الكنيسة. جاءت نادين لمعالجة الجرحى، ووضعت رأس أبي ثائر في حضنها. ابتسم أبو فداء: "أبو ثائر لم يزل حيًا! صاح. انظروا إليه! يبتسم لنا!"
أخذ يكلمه، حكى له أننا حررنا الكنيسة. كان أبو فداء يرتجف، ودمعة تسيل على خده.
غطى وجهه بيديه، فانفجرت فريدة باكية. أخذت أم الأبيض أبا ثائر من يدي نادين، وقالت:
راحت تهدهده، وتدندن له. ونادين تعود إلى المستشفى مع أحد الجرحى، أخبرت ضوء:
أمرَّت نادين أصابعها على جرح الرجل وهمست:
عَمُقَ اليأس في قلب ضوء أكثر، فترك الجريح يسقط على الأرض.
كان الجريح يصرخ من الوجع، ونادين من الغضب:
أعطاها ضوء الليل ظهره:
حاولت نادين أن تحمل الجريح وحدها، والجريح يئن أنينًا لا يني، فلاقاها الأبيض عند تلك اللحظة. كان يحمل دلوًا.
نظر إلى الرجل الملقى على الأرض، والموجع ألف مرة منه أكثر، وغمغم:
لم يتردد لحظة واحدة. في الطريق، نظرت نادين إلى جرح الأبيض بخيفة، وقالت:
الفصل الثامن عشر
كانت شهور طويلة قد مضت منذ مقتل أبي ثائر، فصول، الشتاء والربيع والصيف، ولم تكن الحرب تعرف الفصول، لم تكن الفصول تعرف الرجال في الحرب، وكان عبد السلام في حرب دون أن يكون. كان يختبئ في مركز قيادته، وكان يخفي وجهه خلف نظارة. لم يعد يريد أن نراه. غدا وجهه دميمًا، وأخذ يكرهه. أسوأ من ذلك، أخذ يكره نفسه. كل الكره. ومرة واحدة. انقض كرهه عليه فجأة، كالموت عند فوهة الدوشكا، كالبرق عند فوهة البازوكا. تذكر برناديت التي كانت تحبه، دون أن تعرفه. هو، كان يعرفها، دون أن يحبها. لم يكن يكرهها، لم يكن يستطيع أن يحبها، كل ما في الأمر. كان يحب الذين يكرهونه، فكيف يقيم علاقات طيبة بالذين كانوا يكرهونه؟ بحب كرههم. كان الكره الذي يعتمل في صدورهم وحده ما يسمح بالتقارب معهم. لهذا كانت علاقاته ببرناديت محكومًا عليها بالفشل، وكذلك بفريدة ونادين. لأنهن كن يحببنه، وبسبب ذلك، لم يكن يحظين باهتمامه. مع الذين كانوا يمقتونه، كان يمكنه على الأقل أن يعمل على استغلالهم أقصى ما يقدر عليه بكل حرية، بكافة الطرق، لغرض لا يعرفه أحد غيره. في البداية، عندما كانت مراميه "بسيطة"، "وطنية"، "أصيلة"، قليلاً ما كان الناس يكرهونه. ثم، وقع في ورطة مقتهم الشديد. عند ذاك، ارتكب ما لم يرتكب من أفعال أفظعها تدمير بيروت. ماذا كانت برناديت ستقول لو عرفته على حقيقته؟ ماذا سيكون موقفها منه؟ موقف يختلف عن موقف العمة مريم؟ أي جرس من أجراس الحقيقة ستقرع؟ لم يكن أحدًا آخر غير دجال. لهذا السبب لم يكن يستطيع رؤية وجهه، لهذا السبب كان يكره نفسه. شرب كأسه جرعة واحدة و، ذهب مرتعدًا، ليرى نفسه في المرآة. رأى وجهه، ثم بصق عليه، فجأر نهر دم الشهداء، ولم يعد يقدر على غسل البصاق عن وجهه. ظهر وجه أمه، وابتسم له بمحبة. كان وجهه مغطى بالبصاق، وكانت أمه لا تكف عن الابتسام له. أخذت العِمارات في رأسه تنهار واحدة بعد أخرى تحت نيران مدافع رجاله، نحن الفدائيون، المقاتلون من كل المِلل. بينما كان أبو أرز يكدس أكياس الدولارات على بابه، دولارات لن تلبث أن تحترق. مسح البصاق عن وجهه، وذرف الدموع بغزارة، كامرأة منكل بها. دخل أحد الفدائيين، وفاجأه برؤيته، وهو يبكي. لم يطرده، لم يخجل منه.
دمدم رفيقنا شيئًا غير مفهوم قبل أن يغادر، ولم يلح. لمس عبد السلام وجه أمه في المرآة، فتحول وجهها إلى آخر من الذهب الخالص. تمارت أشعة شمس بيروت على شفتيها، فقال لها: "لأجلك، سأجعل من مخيم عين بيت الماء وأهله مدينة وتماثيل ذهبية." بعد مدة قصيرة، أغاظته أمه، وهي تُرَفِّلُ إزارها الذهبيّ، فحطم المرآة، وتحطم، وهو يجرع من جديد كؤوس الهوان. "آه! يا أًحْبِة."
لم نكن قادرين على جمع الأشلاء والأمعاء، داخل أكبر الملاجئ، هناك حيث سقطت إحدى القذائف الثقيلة. كان اللحم يذوب، كان يمتزج بالدم، وكانت الأعضاء تنط على الأرض، كانت تلعبط بين الأيدي التي تحملها. في ذلك المزيج المعقد، لم نكن نسمع سوى صرخات الباقين على قيد الحياة. انهارت أم فريد:
ضمتها فريده بين ذراعيها، وولولت بدورها:
وناحت كلتاهما كبنتين صغيرتين. نهض أحد الشيوخ متوكئًا على عصا، أراد أن يجمع بعض الأعضاء المدماة. أخفى ضوء عينيه، ونظر إليه من بين أصابعه، وهو يرتعد. أخذ الشيخ يقطف بأصابعه الأعضاء الملوثة بالدم، وكأنه يقطف التفاح، وضوء يتابعه بعينيه. تخيله شابًا، والدم يسيل من أصابعه الرقيقة. كان الدم يدمغ حياته. دم، يا ماخور الخراء! دم بارد، بلا حرارة! دم، وموت، وألف ماخور خراء! كانت الحياة نهر الدم الذي يجأر من المهد إلى اللحد! ومع ذلك، أعادت حركة الشيخ الحياة إلى أرواحنا المرتعبة، فتوقفنا عن الصراخ. حدقنا في الأصابع الشيخة، وهي تنغمس في المائع الأحمر، وتنبثق، ثم ترتفع بخفة. لم نكن نظنه قادرًا على فعل ما يفعل، فنظر الشيخ إلى القابعين في الزوايا:
قاموا في الحال، حتى ضوء الليل قام. مددوا الأشلاء في الحفرة التي أحدثها الانفجار، وطمروها بعد ذلك بالتراب. ثم من جديد، راحوا يقبعون في الزوايا. بقي ضوء إلى جانب الرجل العجوز، والقذائف تصب في الخارج كالمطر الغامر.
وسكت. انفجرت إحدى النساء نائحة، وسكنت بسرعة على نظرات بعض الصغار، وهم يسبرون ضمير العالم مرتعبين، بينما ينام بعضهم الآخر متحجرًا.
مد يده إلى سلاح ضوء، وداعبه كما يداعب رأس طفل.
ابتسمَ، جمعَ من حوله قنبازه، أغمضَ عينيه، وبدا عليه أنه ينام. بعد قليل، أخذت فريدة بالغناء، وهي تهدهد أمها بين ذراعيها:
أمانة يا غزالة الوفا تجري في الخلا أمانة
توصلي فرس الوفا وتجيبي لي أمانة
تأوهت، وقالت:
عندما رأت أم فريد نفسها، وابنتها تهدهدها بين ذراعيها، احتدت، ودفعت فريدة.
قامت، وواصلت سبها، وسب كل الموجودين، وأخذت تشد شعرها، تنادي فاتنة، وتدعو لها بولادة عادية.
وغادرت الملجأ. جاءت مباشرة ترى عبد السلام.
توسلت قائدنا أن يسمح لها بالذهاب لعونها. "توقف القصف"، أضافت، بينما الكتائب يرجموننا براجماتهم الأكثر عنفًا. بدا عليها أنها ترى سُكْر عبد السلام لأول مرة. كان يشبه الجهيض. أخذته بين ذراعيها قائلة إنها وجدت حفيدها، وأطلقت الزغاريد. سارعنا إلى الدخول في غرفة العمليات، فقالت لنا إن ابنتها الثانية قد وَلَدَت، وإن القائد ابنها.
سحبناها إلى الخارج، وهي تسبنا، تسب عبد السلام، وتسب الكل. تناول عبد السلام قطعة مرآة محطمة، ونظر إلى وجهه. كم كان دميمًا! لم يكن يكره نفسه لأنه كان دميمًا، فهو سيكره نفسه على أي حال، حتى ولو كان أجمل الرجال. في كل مرة كان يسمعنا نطلق رصاصة، كان يكره نفسه أكثر، وفي كل مرة كنا نعزم على الصمود أكثر. كنا قد عقدنا العزم على الصمود حتى الموت. كنا مجانين! كان معظمنا لا يحب الموت، لكننا كنا قد عقدنا العزم حتى الفناء. كنا سنموت في آخر المطاف كما يموت كل إنسان، كما يموت كل خنزير أو حصان، فلماذا لا نموت في الحال؟ كان عبد السلام يرغب في الموت حالاً وبسرعة. كان يريد العدو على فرس الموت باتجاه مواقع العدو، والفرس تصهل، ويسقط في منتصف الطريق. لم يعد يحب الحياة. اكتشف أنه لم يكن يحبها أبدًا. لم يكن يحب أحدًا أبدًا. حتى أمه، لم يكن يحبها أبدًا. لم يكن يحب خاله. لم يكن يحب كلبهم. اكتشف أنه كان يحب أمه فقط لأنها كانت قد علمته أن يحبها. كانت على خطأ، كخاله، وكلبهم الذي ضحى بنفسه من أجله. كانوا كلهم على خطأ، لأن الحب لا يُعَلَّم. يولد الحب مع الحياة، وهو، حياته لم تكن حياة. كانت حياته شيئًا آخر غير الحياة، وإلا ما كانت رغبته في موت بيروت. بيروت التي كان موتها رغبته الأخيرة، قبل أن تأخذ نفس بيروت هذه بالصمود، لتمنع موتها.
الفصل التاسع عشر
ركض عبد السلام نحو مواقع الأعداء صائحًا بأعلى صوته:
أمسكناه، وانتزعنا نظارته، وقلنا له، ونحن ننظر مباشرة في عينيه، إنه يركض نحو الموت، فرجانا أن نقتله، نحن.
انطوى على نفسه، و، عاجزًا، عاد إلى كأسه. لن يسعد موته سوى أبي أرز وأبي الدميم: الأول، كعقاب على تدمير بيروت وعلى مواصلة القتال بدلاً من إيقافه، بدلاً من بناء العاصمة الشهيدة. الثاني، كعقاب على المقاومة. اقترح عليه هذا الأخير مليون دولار ليسقط تل الزعتر، فإضافة إلى طموحاته السياسية، كان يريد، طبعًا، حصته من ذلك المَنّ الإسمنتي الذي سيتقاسمه أبو أرز وعبد السلام. كان يتمنى موت عبد السلام ليحمل معه للقبر إلى الأبد سر برناديت التي كان قد قتلها. مع الأسف، لم يكن معنى شرف الجندي الشجاع الذي كان يدفع قائدنا إلى البقاء على قيد الحياة، وإنما عنادنا، نحن الفدائيين، المقاتلين من كل المِلل، وبطولتنا. خلافًا لآمرنا، كنا قد فضلنا البطولة على المَلل، كنا قد فضلنا قتل العدو على قتل الوقت. كان يسعى إلى إذكاء حقده بالكحول، حتى يموت أولئك الذين يسعدهم موته، ولن يموت قبل الانتقام منهم. رفع عبد السلام يدًا متعبة، كان يسمع صرخات استغاثة، ففكر في أبي أرز: "لن أدعك تتسلق سلم المجد على دمي!" أَقْسَمَ، وفكر في أبي الدميم: "لن أدعك تمشي في جنازتي وتبكي عليّ!" دخل ضوء الليل، فنهض عبد السلام بصعوبة، وقال له:
تعلق قائدنا بكتفه، ورجاه:
أخذ ضوء كأس عبد السلام، وبلعها. ترنح عبد السلام، فأوضح الآمر اليساروي:
صب لنفسه كأسًا شربها جرعة واحدة، وضع نظارات عبد السلام السوداء على عينيه، وذهب. دخلت أم الأبيض. كانت مغسولة بالدم من قمة رأسها إلى أَخْمَص قدمها. كانت تحمل في ثوبها شيئًا يختلج. قالت لعبد السلام بكل رقة الأم في صوتها:
ملأ كأسه، واستلقى على السرير. تقدمت، وأفلتت ما كانت تحمل على رأس عبد السلام. أخذت قلوب القتلى تقفز، وأكبادهم تصفق، وطحالهم تصفع وجهه، فأطلق صرخة من الرعب.
وانفجرت ضاحكة. نادانا قائدنا، فطردناها. لممنا قلوب القتلى وطحالهم وأكبادهم، ونظفناها. في المساء، هبت رائحة شواء، ألذ رائحة لم نشم في حياتنا مثلها أبدًا. في تلك الليلة، خيم الهدوء على المخيم. كانت ليلة جميلة من آخر ليالي الخريف. كانت النجوم تتلألأ قريبة كالفواكه الناهية، وكان البحر يرسل آهات العناق. كانت بيروت تلك المرأة المستسلمة في أحضان عاشقها، والتي، بعد الحب، ستمد يدها لتقطف من حديقة الليل نجومًا تعصرها على فمه. لاحظ الناس الذين في أكبر الملاجئ حركة غير عادية تأتي من الخارج، ذهبوا باتجاهها ليجدوا أنفسهم مقابل ثلاثة مقاتلين يحملون أكياسًا ثقيلة على أكتافهم.
ترددت الكلمة على الشفاه: "عدس، عدس، عدس، عدس، عدس..." وتجمع الكل من حول الأكياس.
جاء أبو نضال، يتبعه أبو فداء. استنطق أبو فداء الفدائيين الثلاثة بلهجة خشنة:
عرف أبو نضال أحدهم:
هز أبو نضال ذقنه باعتزاز طفولي. كانت المرة الأولى التي يرى فيها أبو فداء هذا التعبير الساذج على وجه رفيق سلاحه. تابع إيلي:
ترك جميعهم الأكياس، والتفوا حول إيلي والرفيقين الآخرين. قصفوهم بألف سؤال عن الوضع، عن المقاتلين، عن المعارك. وعلى كل سؤال، كان إيلي يسعى لإعطائهم جوابًا مُطَمْئِنًا. التفت الشيخ إلى فريدة.
ابتسمت فريدة.
بحثت عن أمها بعينيها، لكن بلا جدوى. توجه أبو فداء بالكلام إلى إيلي دون أن تغادره لهجته الخشنة:
ضغط أبو نضال بيده على ذراع أبي فداء.
وأخذ يوزع ما يعادل نصف ملء دلو عدس لكل عائلة. ذهبت بعض النساء مع فريدة لإحضار الماء من البئر، برفقة أولادهن الكبار، فقطع الأبيض عليهن الطريق بدلوين مليئين بالماء، وسأل فريدة إذا كانت تعرف أين توجد أمه.
لكنها ركضت لتلحق النساء.
لم تجب. همهم الأبيض مشغول البال:
وإيلي يواصل توزيع العدس، سأل أبا فداء:
لم تنبسط أسارير أبي فداء:
غادر أبا فداء تشنجه.
امحت ابتسامة أبي فداء، في حين أن إيلي ابتسم له:
جعله صوت طاحون يلتفت: كانت بعض النساء يسحقن العدس بين حجرين ضخمين.
عجنت النساء مسحوق العدس، عجينة صفراء، غريبة، بماء الأبيض، وحولنه إلى أقراص صغيرة، قرب النار. فجأة، ظهرت فريدة، ودلو ماء بيدها. جلست على حجر، وكلها يلهث، والمرأة التي ترافقها، كلها يتمزق. كانت تلطم:
صرخت المرأة:
ركب المرأة التعسة الجنون، أنشبت مخالبها في الأرض، ورشقت بالتراب وجهها. دمدم أبو نضال: "كل دلو ماء مقابل ميت!" تمكنوا بعد جهد من السيطرة عليها، والمرأة تواصل صلواتها الممزقة للقلب: "قتلوني! قتلوني! قتلوني! قتلوني!" اكفهر العدس، فقفز الأطفال. من العادة ألا تحركهم من أماكنهم حتى الانفجارات الأكثر عنفًا عندما يكونون جائعين، لكن العدس الذي كان يغلي في الطناجر، بلى. رمق أبو فداء الأطفال، بعين الدهشة، وهم يتجمعون حولها، فاستدار نحو أبي نضال، وقال، وهو يضغط أسنانه:
صهر إيلي أنابيب البنادق المحطمة، وعمل الملاعق للأطفال، ليمكنهم شُرب حِساء العدس. أكل الأطفال بصمت دافق، وبعد أن شبعوا، ابتسموا. تحدث الكبار مع بعضهم، بجو رائق. انتهت الحرب. بحث الناس عن ضوء الليل، كانوا يريدون أن يغني لهم. أخبرهم إيلي أن ضوء انتقل إلى الفنادق، في مركز بيروت، فسألوا إذا كان يحسن الغناء، هو كذلك. أجابهم بالإيجاب، حتى ولو كان صوت ضوء أحلى. علق أبو فداء، وابتسامة صغيرة على شفتيه:
صعدت بنت صغيرة على ركبتي إيلي، ورجته:
ابتسم إيلي للبنت الصغيرة، وأخذ يغني:
سأغني لكِ أغنيةً عن طفلٍ صار رجلاً لحظةَ أن قالَ للماءْ أعطيك حياتي ساقيةً
سأغني لكِ أغنيةً عن رجلٍ صار رجلاً لحظةَ أن قالَ للنارْ أعطيك حياتي قنبلةً
سأغني لكِ أغنيةً عن بنتٍ صارت حقلاً لحظةَ أن قالت للقمحْ أعطيك حياتي سنبلةً
بعد ساعة، قال عبد السلام لإيلي:
أتخم معدته بشوربة العدس التي أحضرها له، وعزم على قتال الأعداء إلى جانبنا، نحن الذين كنا مستعدين كلنا لنموت حتى آخرنا... بعد ذلك، سيقتل نفسه.
الفصل العشرون
تأمل في صمت وجه عبد السلام الدميم والمتغضن، وبدأ خبثه ورياؤه اللذان كان قد نجح في إخفائهما ينضحان:
تنحنح، وأشار إلى مرافقيْه:
فكر عبد السلام أن ساعة تل الزعتر قد دنت، فأرسل إيلي ابتسامة إلى كل واحد منا نحن الحاضرين، أبي نضال وأبي فداء والآخرين، قبل أن يضيف بأكثر خبث ورياء:
"إذن بتواطؤ أبي الدميم ستدق ساعتنا"، ترجم عبد السلام كلام إيلي. كان المعسكران يريدان أن يسقط تل الزعتر بأي ثمن، لتبدأ أخيرًا كل المساومات المَرْكَنْتيليَّة بعد كل هذا الزمن "الضائع". بصق أبو فداء على الأرض.
الموت لأجل القضية، القتل لأجل القضية، النَّيْك لأجل القضية، القضية، القضية، القضية... ألقى عبد السلام بجسده المتعَب على كرسي، وأخذ يتنفس بصعوبة، وهو يفكر في معمل البسكوت الذي لن تطول كثيرًا ساعة حصاره. بعد ذلك، سيوقِعون المخيم مباشرة في نقطة التسديد، ولن يتأخر عن رفع العلم الأبيض. للحيلولة دون هذه الكارثة، اتفقنا على مفاجئة أبي أرز وميليشياه، فنقطع الوادي من ناحية المنصورية إلى ظهورهم، ومن ناحية تل المير نضغط فكي الكماشة عليهم مرغميهم على التفاوض. أخذ عبد السلام قيادة الوَحدة التي ستقطع الوادي، وأخذ إيلي قيادة الوَحدة التي بقيت في تل الزعتر، وهو لا يتوقف عن التنبؤ بالنجاح الباهر لخطتنا. ونحن في الطريق، وقعنا على الأبيض، ففكرنا أنه يأتي للانضمام إلينا. كان يريد أمه. كان يبحث عنها منذ يومين. أعطانا ظهره، وذاب الأبيض في الليل كالضوء الأسود.
زحفنا بحذر، ووميض القذائف ينير لنا من وقت إلى آخر. كانت تلك الليلة من آخر ليالي الخريف حارة بشكل غريب، وكان عبد السلام ينضح بالعرق. لم يفه أبو فداء بكلمة واحدة. كان يجس كل حجر، كل كلأ، كل حبة رمل، ومثلنا كلنا، كان يخشى الوقوع على لغم. وصلنا أخيرًا إلى تل المير، خلف ضيعة المكلس، أي، خلف خطوط العدو. خلال النهار، كنا قد منعنا الكتائب من التقدم، ورغم ذلك، كانوا قد احتفظوا بمواقعهم. أخذ عبد السلام يلهث بقوة أكثر فأكثر، وكان منهك القوى. أمسكه أبو فداء من ذراعه، وأراه مواقع الأعداء الغارقة في الظلام. كان يفضل النظر إلى السماء، وموت النجوم الأخيرة، ولم تكن نجوم بيروت تتلألأ إلى ما لا نهاية. لم يكن ذلك بسبب الحرب، ولكن لأن نجوم بيروت لم تكن كالنجوم الأخرى. فتحنا النار بكرم، وحققنا غاياتنا دون كثير صعوبات. كان أعداؤنا قد تفاجأوا، فبثثنا الفوضى في صفوفهم، وانتظرنا أن يهاجمهم إيلي من الوجه المقابل. كان الليل يتمطى، يتمطى إلى ما لا نهاية، ولا شيء دومًا. لم يكن إيلي يتحرك. في اللحظة التي قررنا فيها الانسحاب، انبثق أولاد الأَحْبِة من ورائنا، وبدأت المعركة الحقيقية. لو لم يكن أبو فداء يتدخل عدة مرات لحماية عبد السلام، لسقط على التأكيد صريعًا تحت ضربات الأعداء.
غير أن أبا فداء، أمسكه من كتفيه، وعاد به إلى المخيم. كان عشرة منا قد لقوا حتفهم، وخمسة عشر قد جرحوا. وجدنا إيلي، ونحن كلنا مذهولون، وهو يدخن حشيشته بهدوء في غرفة العمليات، فانقض أبو فداء عليه. كان يريد قتله:
قررنا أن نضع إيلي في "الإقامة الجبرية"، فلم يأبه بقرارنا، وواصل بنبرته المتهكمة يقول إن كل هذا لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو يُلَمِّحُ إلى مقاومة المخيم. لم يعد يبقى لنا، حسب قوله، سوى القيام بكل التنازلات لترحيل الأهالي، وبعد ذلك، الانسحاب من المخيم، كما لو كان الأهالي رهائننا!
لم يحتد أبو فداء، بل على العكس:
أضاف أننا إذا أردنا الاستيلاء على ضيعة المكلس، فهذا هو الوقت وإلا فلا، طالما بقي الكتائب في موقف المدافع عن نفسه. تكلف أبو فداء بقيادة وَحدة إيلي، وأبو نضال بقيادة وَحدة عبد السلام، الذي كان خائر القوى، والذي بعث في طلب نادين لتعالجه. كان رجال أبي نضال ذاهبين إلى هذه المعركة الحاسمة عندما اعترض الأبيض طريقهم، وطرح عليهم السؤال السابق نفسه عن أمه، فلم يحصل على جواب. تكلل هجومنا بالنجاح على حساب أحد عشر شهيدًا، والتقى أبو فداء وأبو نضال في ضيعة المكلس. تم إنقاذ معمل البسكوت، إلا أن أبا أرز هاجم معامل أخرى في منطقة المصانع: مصنع فيليبس، معمل البلاط، معمل المعادن، المنجرة. كلف عبد السلام فريدة بإبلاغ أبي فداء وأبي نضال أوامره: ترك ضيعة المكلس والذهاب لدعم مواقعنا الخلفية.
قرر البقاء وحده في ضيعة المكلس، وقاتل حتى الموت، بينما سقط أبو نضال في الطريق. فجأة، دقت في تل الزعتر نار الجحيم. أُطلقت القذائف والصواريخ من كل العيارات ليس من ضيعة المكلس ولكن من تل المير. إذن، كان أفراد ميليشيا الشياطين أجمعين يحتلون القمة وقذائفهم وصواريخهم تنصب علينا. كنا مضطرين للانسحاب إلى داخل المخيم هناك حيث نكون معرَّضين أقل. أحسسنا بالهلع يركبنا غير أن رسالة راديوفونية وصلتنا: لم ينجح الكتائب بأخذ مخيم جسر الباشا ولا مخيم القلعة، مما هدأ رُوعنا، لأن الموقع الاستراتيجي لتل المير كان يجعل من مخيمنا سهل الاجتياح وكذلك المخيمين الآخرين. خلال ذلك، لم تكن حرارة عبد السلام تتوقف عن الارتفاع، ولم تكن نادين تأتي لمعالجته. لم نكل عن قول إنها كانت مشغولة، ولم يكل عن الإلحاح وإرسال من يأتي بها قرب سريره. بدأت أشعة الشمس الأولى تتسلل من بين أعمدة الدخان، وسماء بيروت السوداء تتألق بالألوان البرتقالية. تأوه عبد السلام متعَبًا، ومع ذلك نهض، وانضم إلينا. لم نكن نجرؤ على النظر في عينيه، بينما على قمة تل المير كانت ظلال الكتائب تنظر في عيني بعضها، وتنفصل عن بعضها. ظلال عملاقة. كان علمهم يخفق وسط الدخان، فأخذ سكان المخيم يمشون إليه بشجاعة، الصدرُ عارٍ، والقلبُ غاضب. راحوا يتسلقون التل تحت أمطار النيران الغزيرة، ولم يمنعهم شيء عن تسلق التل، حتى النيران. كلما انصبت النيران عليهم، كلما أسرعوا الخطى نحو القمة، ونحن الذين ننظر إليهم، كنا عاجزين عن تصديق أعيننا. كنا نشاهد منظرًا مروعًا، وهم يصعدون نحو القمة، ويسقطون، وهم يصعدون نحو القمة، ويسقطون، وهم يصعدون نحو القمة، ويصرخون. كانوا يصعدون نحو القمة... كانوا يصعدون... كانوا يصعدون أيضًا وأيضًا. كانت القمة تصعد معهم، وكذلك الشمس، وكان صعود النهار يتوهج. ترك العدو من الرعب أدوات موته، وولى الأدبار. مد سكان المخيم أياديهم، ومزقوا العلم الكتائبي، فانطلقت الزغاريد. في الوجه المقابل، جن جنون أشجار الأرز، وكل هذه الصواريخ التي أُطلقت حتى قضت عليهم. شن الكتائب هجومًا مضادًا على مخيم جسر الباشا ومخيم القلعة، ونجحوا في إسقاط البطولة بفضل بعض الخونة. حَدَّثنا الناجون من المجزرة عن الانتهاكات الشنيعة، الرقص مع القتلى، السلب، الاغتصاب. اغتصبوا كل شيء، كل شيء، اغتصبوا كل شيء على الإطلاق: النساء، البنات، الأطفال، النَّفْث، الهواء، لون الضوء، دَفْق الوقت. استولى الكتائب على تل المير من جديد، وكسبوا هذه المعركة الأخيرة. كان من اللازم على عبد السلام أن يَلزم الفراش، وبين وقت وآخر، كان ينتصب، عَرقان، وينادي أمه. طلب منا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، أن نحضر له نادين، فرفضت نادين أن تحضر، فألححنا قائلين إن آمرنا يموت تحت أعيننا، فلم تشأ أن تسمع. اقترحت أغنيتا، زوجة الطبيب السويدي، أن تحضر مكانها، وعند وصولها قرب سرير قائدنا، ألقت ساخرة:
ضمت عبد السلام، وهمست في أذنه:
تلعثَمَتْ:
بدت مضطربة أكثر فأكثر:
كان منهكًا: عيناه مكحلتان بالتعب، وشفتاه مسقيتان بالحزن. تنهدت:
أشارت إلى الراديو اللاسلكي:
أطل الأبيض، بكتفه المدماة، بشعره المشعث، بشكله المختل. سأل إذا ما كانت أمه قد مرت. لما رأى أية حال كان عبد السلام يوجد فيها، أخذ يرتعد من الخوف، وينادي أمه. أشار إلى قائدنا بإصبعه مرددًا:
سأل إذا ما كان هذا القرش الذي هو رئيسنا أمه، فحاولت أغنيتا أن تهدئه قائلة له إنه يهذي، وإنها ستأخذه إلى المستشفى لغسل جرحه بالماء المالح. "القرش! القرش! القرش! القرش!" لم يتوقف عن الترداد. الللللللللللللقرششششششششش! كان يبحث دومًا عن أمه، كان قد بحث عنها في كل مكان. لا، لم تكن أغنيتا قد رأتها، فهاجمها، والدموع في عينيه. وبينما كانت تأخذه، استدار للمرة الأخيرة:
الفصل الحادي والعشرون
أرسل عبد السلام في طلب فريدة كي تأتي لمعالجته، لكنها رفضت هي كذلك. كان يحس بدنو أجله. كان على وشك الموت، ونحن الذين لم نكن بعد موتى، كنا نقاتل في الخارج. أعاد إلى إيلي حريته، وسأله العمل على أن يكون استسلام المخيم بأقل عدد من الضحايا.
تركه عبد السلام يذهب، وتخندق، بدوره، في صمت طويل. نحن الذين لم نكن بعد موتى، أيقظناه، وقلنا له إننا وجدنا فاتنة في الدغل قرب مواقعنا. كانت على وشك المخاض، وكانت أمها قد نقلتها معنا، في قلب النار المدمرة، إلى المستشفى. كان الطبيب السويدي قد فحصها أمام الجميع، بينما كانت تصرخ من الوجع، وكنا قد رأينا اليد التي كانت تطرق اللحم فيها، وهي عازمة بشراسة على ألا تأتي إلى العالم. كانت نادين قد حاولت بلا جدوى تغطيتها، وكان الطبيب قد عبر بلا أمل عن ارتيابه: "فاتنة في وضع حرج، قالَ، البي بي في وضع سيء." كنا قد لاحظنا هذا الوضع غير العادي عندما تفجر الدم من بين فخذيها، ملوثنا كلنا، موسخًا أوجهنا، أيادينا، صدورنا. كان يوسخ ماضينا، حاضرنا، مستقبلنا. كان يَكْمِدُ أمجادنا، أحلامنا، آمالنا. كان الدم قد دمغ كل شيء، كل شيء، كل شيء على الإطلاق، وكانت فاتنة قد غاصت في الدم، ونحن نفكر أنها ستلفظ نفسها الأخير.
طلب من زوجته أغنيتا أن تأتي بشكل عاجل، غير أن أم فريد وقفت في طريقها، وهي في نوبة عُتْه وصلت أقصاها، فلن يُوَلِّدَها أحدٌ غيرها. حملت ابنتها عند الكتائب، ودفعت يدها فيها، فرفض الطفل الخروج. عند ذلك، ربطت ساقي ابنتها بدبابتين، وفسختها. سقط شيء، لا هو بالحيوان، ولا هو بالإنسان، وأول حركة قام بها كانت عَضَّهُ لجدته، فحطمت له الأسنان، ثم الجمجمة، ثم الأضلاع. رمته للكلاب التي لم ننجح في إمساكها، وَعَيَّنَها أبو أرز فيما بعد برتبة جنرال. كان الوضع في بيروت يسوء يومًا عن يوم، مثلما هو عليه في تل الزعتر، وكان المنفيون يجيئون أم فريد بصفتها الميليشية العالية الرتبة من كل المناطق، خاصة من منطقة الفنادق التي تم تدمير معظمها. كانت تفرض عليهم عقوبات مختلفة، وكان ضوء الليل من بينهم. عرفها على عكسها، وقالت لم تسمع به طوال حياتها. قدم لها تِبغًا رفضته، فاقترح عليها اقتسام صفقة حشيش، إلا أن لا شيء كان ينفع معها. رغم توسلاته، واستعداداته ليدافع عن مصالحها، طوال حياته، نطقت بحكم الفسخ ضده. مضت أسابيع طويلة والمخيم يقاتل، وواصلت جيوش الجحيم إفناء الملاجئ. كان أبو أرز يرى في ذلك الشرط الأول لإقامة دولته المسيحية، غير أن الملاجئ كانت تقاوم. بصعوبة. لكنها كانت تقاوم. صارت كل قطرة ماء الآن تعادل عشرة موتى، كل حبة عدس مليون صرخة. صار تل الزعتر جزيرة تتفجر في أرجائها البراكين، وفي جنوننا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، قتلنا إيلي، وقررنا البقاء وقوفًا في خنادقنا: "لن تغرق جزيرتنا في قلب البحر العميق! صحنا. لن نقدمها على طبق من فضة للفوهرر الماروني وأصدقائه التماسيح! لن نتخلى عنها لمد الدم وجزره، طالما بقي حارسها هذا العملاق الصغير! سنبقى في تل الزعتر، وسيبقى تل الزعتر، وسيبقى تل الزعتر، تل النار والنور، تل النهار الكبير!" لم يكن أحد إلى جانب عبد السلام، لا للتخفيف من أوجاعه، ولا لطرد وحش الموت الأصحر، الجاثم على صدره. كلما كان واحد منا يسقط صريعًا، كان يرى مصيره يقترب منه قليلاً. كان يتمنى أن نموت كلنا دفعة واحدة ليخلص من احتضاره البطيء، ولأجل هذا كانت المعجزة ما يلزم. بسبب عنادنا. والمعجزة كانت أن ترى التحام الليل بالنهار، بينا كنا نتفتح في الخنادق والمتاريس. والمعجزة كانت أن ترى الأطفال يقطعون حقول النار، لأجل قطرة ماء، غير مبالين بوقوع المعجزة. والمعجزة كانت أن تطلق على العدو طلقة، طلقة واحدة، لتحيا ألف كابوس دون أن ترفع إصبعك عن الزناد لحظة واحدة. حتى ولو ضيقوا علينا الخناق، سنستمر في إبقاء إصبعنا على الزناد، في الإطلاق، في الرقص عرايا. توافدت فلول الكتائب من كل ناحية، من فرن الشباك وسن الفيل، من حرش ثابت والقلعة وتل المير، ومن السبتية، ومن الدكوانة، لكننا، نحن الذين لم يقرعنا الموت بعد، كنا نصارع ضد النار والحديد، بعد أن عزمنا على فل الحديد. كانت إرادتنا تُوجَز بوثوب حيوي من الجنون ضد القهر، الفتك، النهد، أكبر جريمة في تاريخ الإنسانية. لهذا كنا نعيش لحظة لا-استسلامنا بكل عنفها، وكنا نتخيل أننا نقاتل من أجل فلسطين، كنا نتخيل أن لبنان سيغدو كالثلج أبيض، وأن أجراس برناديت ستقرع من جديد، فالوهم أن نقاتل من أجله. كنا نقاتل بدافع الوهم، وبتحريض الخيبة، ولم تكن إرادتنا تقتات من الخوف من المصير الذي ينتظرنا، عندما نسلم أسلحتنا. كانت تقتات من خيبة الذين ماتوا تحت القنابل، من الخيبة من العالم. لهذا السبب كنا نريد القتال حتى المنتهى: كان قرارنا مدمرًا. حتى المستشفى أحاله الكتائب إلى أنقاض، ولم يعودوا بعيدين جدًا. كانوا كلما يشددون الحصار أكثر، ترتفع حرارة عبد السلام أكثر، وكانوا كلما يبتعدون عن الحياة أكثر، يدنو الموت منه أكثر. أخيرًا استجاب الصليب الأحمر لنداء أغنيتا، فمنعه أبناء الأَحْبِة الميليشياويون من نجدتنا أقل نجدة. قتلوا الصليب الأحمر، والأخضر، والأزرق، ومسمروا واجهات دباباتهم بصلبان من كل الألوان وكل الأشكال. كان صليب عبد السلام الحقيقي ممسمرًا بجسده، مع ذلك الموت البطيء الزاحف فوقه، وكانت عصافير النار تحترق خافقة أجنحتها بقوة في سمائه. كان يحلم باقتلاع صليبه الحقيقي، ليزرعه في حقل من جهنم... حتى جهنم كانت تحترق! سَمِعْنا آمرنا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، يصرخ في وجه القتلة الأكثر فتكًا في تاريخ البربرية: "لن تأخذوا منا خنادقنا أبدًا!" ضحك الموت منا، وصفعه، لأنه لم يصنعنا على صورته. سَمِعَنا نصيح من جديد: "نتحداكم، أيها الجهنميون، فتعالوا!" اشتعل دمنا، غير أنه لم يتحول إلى رماد. كان الحريق قويًا جدًا، ولم يكن لون معركتنا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، رماديًا، لون الموت. لهذا كنا نقاتل كالأطفال، كنا نموت عدة مرات. كانت رائحة الزعتر تَنْتشر، وكان الموت يُغْلق أنفه. كان لا يمكنه البقاء في الحياة، وهو يتنسم الرائحة الزكية للزعتر.
* * *
وصلت العمة مريم للاعتناء بعبد السلام، مع رجال الأعمال الإسرائيليين، وهي تتباهى بنجمة داوود على صدرها الرحب. كانت حالة قائدنا قد ازدادت سوءًا، وكانت الحمى والهزيمة قد صارتا من ورائنا. أوكلت العمة مريم به إلى هؤلاء الناس، المتحضرين مظهرًا، وغادرت، والبسمة على شفتيها. أخذ رجال الأعمال الإسرائيليون عبد السلام إلى تل أبيب لمعالجته... وهو في سيارتهم، نظر إلى بحر بيروت، بلونه الرمادي، وسمع المدافع تدوي في قلب المدينة. رأى أطفالاً يتسلون، بأسلحة حقيقية، وهم يلعبون لعبة الحرب. كانوا يتمترسون خلف براميل النفايات النووية، بينما نحن، الفدائيون والمقاتلون من كل المِلل، كنا قد سلمنا كلاشينكوفاتنا، ونحن نطلق "آه!" الندم والاستسلام. كنا قد كدسناها هرمًا، وكان ذلك أكثر ما أوهى عزيمته. وليتعزى قليلاً، قال عبد السلام لنفسه إن الحرب لم تزل دائرة في مكان ما، هناك، لما برزت من الرماد فجأة عشرات بل مئات الحوريات. كن يأتين ليذقن طعم الحرب وخَرَقَها للمرة الأخيرة قبل أن يُمِتن أنفسهن. زرعت كل منهن أنبوبة بندقية تحت ذقنها، وأطلقت، فامتلأ الساحل بجثثهن. كانت آخر صورة حملها عبد السلام قبل أن يترك بيروت بعيدًا من ورائه.
القسم الثاني
تل أبيب
الفصل الأول
الجو حار في تل أبيب، حار جدًا، وهذا منذ عدة أيام. ظن الناس أنفسهم في شهر آب، ومع ذلك كان شهر كانون الثاني. كانت المرة الأولى التي يحدث فيها هذا منذ قدوم جوردان من باريس، منذ عشرة أعوام. عاد الناس إلى ارتداء ثيابهم الخفيفة، وامتلأت الشواطئ بهم. بحثوا عن مصدر هذه الحرارة اللاعادية، ووجدوا الحرب اللبنانية. إنها أحد الآثار الثانوية للقنابل التي تنفجر هناك! هم هكذا، الإسرائيليون، عليهم أن يجدوا تفسيرًا لكل شيء، لامنطقيًا غالبًا. هذا ما يطمئنهم، فهم يعيشون عيشة مزيجة بالأوهام بشكل غريب، بالتطيرات، وبما لا طائل تحته. وكفى بالله هاديًا، بالنسبة له، لجوردان، الكولونيل الشاب الذي كانه، حسبه أن يعتقدوا بكل شيء. هكذا كل شيء يمشي، من الأكثر تفاهة إلى الأكثر جسامة. أوقف سيارته العسكرية أمام المستشفى القديم المرمم للجيش، وبخطوات واسعة دلف إلى قاعة مكيفة، وهو يمسح جبهته. حيته الممرضات والممرضون وديًا، فالكل يعرف الكولونيل جوردان، "مروض" الأعداء. مع الضباط والجنود العرب الذين يجنحون للمعالجة هنا، هو من يقوم بالتحقيقات. كان بطلاً بالنسبة لهم. جاء ليستجوب عبد السلام الذي تلتهمه الحمى منذ عدة أسابيع، فدعاه طبيب إلى الدخول إلى مكتبه.
كما لو كان عبد السلام قد ولد اليوم، فكر جوردان. إنه ابنه. باستطاعة جوردان أن يعطيه أي اسم، أية هوية. باستطاعته أن يربيه على طريقته، أن يقولبه على ذوقه. لأن في يوم ما، هذا القائد الفلسطيني الذي ليس كغيره، سيستعيد الذاكرة، وعندئذ، سيسحب منه كل ما يمكنه أن يأمل من معلومات عن الحرب والكفاح المسلح. بالنسبة له، يمثل عبد السلام تجربة فريدة في نوعها، ألا وهي الحرب اللبنانية. بفضل هذه الحرب أعطت الدولة العبرية، ب "نقائها الإثني"، نفسها نموذجًا لدول أخرى، مسيحية أو مسلمة، وأسندت إلى نفسها الحق في الوجود. في النهاية، لم يخض عبد السلام هذه الحرب القذرة لتحرير فلسطين، وإنما لتثبيت إسرائيل في مكانها، وتوطيد وجودها. لهذا السبب، سيأخذه الكولونيل الشاب على عاتقه. بعبارة أخرى، سيكون باباه، "أباه الروحي". وسيشكره على طريقته، بالعمل منه ضابطًا مثله، وبتزويجه إحدى أختيه، ليا أو ساندرا. إذا ما أرادته إحداهما. لكنه فتى جميل، عبد السلام. رجولي. الحق يقال، جندي. من هؤلاء الرجال الذين يعجبن النساء. وعلى أية حال، لن يكشف لأحد هويته الحقيقية. سيسميه شالوم (كسلام بالعربية)، وسيقدمه كابن عم بعيد فقد الذاكرة، وهو في حاجة إلى الحب والحنان لأجل استردادها. دخل جوردان غرفة عبد السلام، وأخذه بين ذراعيه.
لم يجب عبد السلام، كان يفكر في شيء آخر.
طلب جوردان من الطبيب أن يسمح بخروج "شالوم". بانتظار ذلك، هاتف أخته الكبرى، ليا. قال لها إنه ابن عم من جهة أمهم سينزل عندهم الوقت الذي يستعيد فيه ذاكرته. ليا صيدلانية، تعمل في أهم مختبر في البلد. أختها الصغرى، ساندرا، طالبة في الجامعة. تدرس، هي كذلك، الصيدلة. ستحصل على دبلومها في السنة الجارية. تريد الأختان عمل مختبر لهما، تريدان عمل جمعية عالمية أشبه ب "أطباء بلا حدود"، ستكون "صيادلة بلا حدود". طلب جوردان من أخته الكبرى أن تشرح كل شيء لساندرا، ليعتنوا جميعًا بشالوم. أضاف:
في المساء، وجد شالوم نفسه يجلس إلى الطعام في البيت إلى جانب جوردان، وإلى جانب أختيه الجميلتين السمراوين بشعرهما الأسود وعينيهما الخضراوين، ليا وساندرا. أكلوا شريحة عجل نورماندي، الطبق المفضل لساندرا، والأختان تنظران إلى شالوم، وتبتسمان، وشالوم ينظر بدوره إليهما، ويبتسم كذلك. كان تدريب شالوم مسليًا، وإن كان متعبًا في مداه، وهو أقرب إلى التمهير كطريقة نفسية تتيح إقامة علائق بين عدد من المنبهات والاستجابات في الكائنات الحية يتأتى عنها اكتسابها مهارات خاصة للتكيف مع بيئتها. لشريحة العجل النورماندي مثلاً، كان من اللازم أن يشرحوا له أن الشريحة شريحة عجل لا ثور، وكان من اللازم أن يقولوا له ما هو الثور، وما هو العجل، وللنعت "نورماندي"، كان من اللازم أن يروه خارطة فرنسا، ثم أن يشيروا إلى منطقة نورمانديا. يا لها من ورشة، إعادة بناء الذاكرة! لكن العائلة الصغيرة "ليفي"، لم تكن تستسلم بسهولة. منذ وصولها إلى إسرائيل، كانت تستبسل رغم كل العقبات لتنجح في كل ما تعمل، وتُبدي أنها قادرة على كل شيء. في الجيش، في الشغل، في الجامعة. كان جوردان لا يتردد عن القيام بأي شيء ليُظهر أنه قوي، أنه لا يقهر. ليا كذلك، لكن على طريقتها. بتحسين الأدوية أو باكتشاف جديدها. ساندرا، دائمًا أحسن فوجها. وبالعكس، جذب شالوم كل ما هو عادي عندهم. وجد في جوردان، بلا لباسه العسكري، شخصًا يُشفق عليه. رأى نفسه عَبْرَه، وحاول أن يتذكر ماضيه. بدت ليا وساندرا له شيئين صغيرين من السهل كسرهما، كالزجاج، وغالبًا ما خاف من خدشهما بنظرته. كان من اللازم أن يبدأوا بتعليمه من هو، من هم أهله، ما هو دينه. قال جوردان له إنه وحيد أبويه، إن أبويه من أصل مغربي، وإنه يهودي. كان عليه أن يشرح من هو اليهودي، ولماذا في إسرائيل هناك يهود من كل البلدان. قالت ليا موضوعيًا إن العبرانيين، بني إسرائيل الحقيقيين، قد اندثروا في مكان ما من جزيرة العرب، غير أنهم تركوا دينهم من ورائهم –ذاكرتهم، نوعًا ما- فداوم على التعايش مع دين المجتمع الذي يعيش فيه يهود اليوم. من هنا يأتي السلوك المزدوج، سلوكهم. اعترضت ساندرا على تحليل أختها. بالنسبة لها، يهود اليوم هم الخلف المباشر للعبرانيين القدامى. تكلمت عن ازدواج الشخصية، ازدواج سببه القلق مرضًا يدمغ عصرنا، مشئوم للبعض حقًا، لكنه مُوْاتٍ للبعض الآخر. كان على ليا أن تشرح أن إسرائيل تحمل اسم فلسطين، وعلى عكس ما يقال "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، أن الفلسطينيين هنا دائمًا وعلى الدوام، قبل الهجرات التوراتية الأولى، الفلستينبون كانوا هم. دحضت ساندرا كلامها بكلمة واحدة، "غلط"، فألحت ليا على واقع أن العرب هنا منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، قرون وقرون قبل الخروج من مصر. دحضت ساندرا كلامها مرة أخرى بكلمة "غلط"، مضيفة أن اليهود كانوا هنا قبلهم، وأن أرض إسرائيل، لهذا السبب، إرثٌ يأتيهم من السماء. قالت ليا إن هذا لا يبرر آلام شعب بأكمله، قبل أم بعد، ليس مهمًا، ما يهم حل المشاكل الحالية. فلسطينيو اليوم طُردوا إلى بلدان أخرى، مؤرخوهم يعترفون بذلك في الوقت الحاضر، لأن الصهيونية كانت تقضي بألا يوجد غير يهود فيما بينهم في هذا البلد. "مع ذلك الله كبير وفلسطين أكبر، تكفي اتساعًا لإقامة دولتين لشعبين"، علقت ليا، قبل أن تشرح لفاقد الذاكرة، أن الصهيونية تحدد هكذا أصالة شعبهم: أن يكونوا معًا، ألا يعتمدوا على أحد، أن يمكنهم الدفاع عن أنفسهم ضد العالم أجمع، وعدم ترك أنفسهم أبدًا يذبحون كما كان مع الألمان. لم تكن على اتفاق مع ذلك الطرح، كانت ترى أن هذا أشبه بالعبودية الحديثة، جيتو موسع، غير أن ساندرا أخذت تحكي عن تراجيدياهم بكلمات مؤثرة، فأخذ عبد السلام السابق يبكي. أخيرًا قالت إنهم أقوياء اليوم، أقوياء جدًا، وإن لا أحد يجرؤ على لمسهم. بفضل هذه القوة استطاعوا الدخول بسهولة في الحداثة والاستقرار، رغم بيئة معادية ومتخلفة. ثم جاء وقت الحديث عن مهنة شالوم. قال جوردان إنه كولونيل في الجيش مكلف بالقناصل العسكريين في كل البلدان، وإنه ليس متزوجًا. شرحت ليا ما الرجل المتزوج قائلة "وفي الفراش..." قبل أن تقهقه. ضحك شالوم، وهو يتأمل المخلوقتين الجميلتين. علقت ساندرا أن لا حق له في الزواج بأكثر من امرأة، وخاصة ألا يأخذ الأختين في نفس السرير. وراحت تقهقه.
ضحكت ابنتا العم بأعلى صوتهما، وهما تريان نفسيهما معًا في فراش العرس.
تخيلت ليا وساندرا نفسيهما من جديد معًا في سرير شالوم، وواصلتا الضحك.
وافقت ليا على ما قاله أخوها بهزة من رأسها، وقررت غزو قلب الكولونيل الضائع قبل أختها الصغرى. ستعينه على استعادة ذاكرته، وشالوم يكتفي بالابتسام بسذاجة. كان يشبه أحد التماثيل الصغيرة الموضوعة هناك، تماثيل حيوانات لن يشك أحد في خواصها الغيبية. طبطب جوردان على كتفه، ودعاه إلى أخذ التحلية أمام التلفزيون، بالنظر إلى الأخبار. بدأ المذيع بأحداث لبنان، وجوردان يراقب ردود فعل شالوم. لم يبد أقل رد فعل. أحضر جوردان خريطة المنطقة، ووضع إصبعه فوق البحر، إسرائيل، لبنان في شمال إسرائيل، وباتجاه التلفزيون، أشار بإصبعه إلى أحياء بيروت المدمرة تمامًا، وقال هذا ما يريد الفلسطينيون فعله في إسرائيل.
بسط شالوم الخريطة جيدًا قبل أن يقول:
أحضرت ليا وساندرا صحنًا كبيرًا من فُرْنية بالعسل.
عرض التلفزيون صورًا مروعة: المقاتلون مقطعون إربًا، الأطفال منكل بهم، النساء يصرخن من الرعب.
وضعت الأختان الفُرْنية في أطباق مذهبة، واصطدمتا، وهما تقدمان معًا التحلية لشالوم، فانطلقتا ضاحكتين.
الفصل الثاني
حيرت جوردان إنسانية شالوم. هل هذا لأنه فلسطيني يشعر تلقائيًا بالتناغم والقربى مع الفلسطينيين ويريد أن يجد لهم جزيرة؟ لكن لدى المصاب بالنسيان مشاعر الحب جوهرية، يغدقها على الجميع ليستلم بالمقابل قدرها، ويحس بنفسه. انظر كيف يحب ليا وساندرا معًا. المصاب بالنسيان كالطفل، لا يعرف الكره. لم يرفع جوردان أي تقرير إلى القيادة، فكر أن من الأفضل الانتظار. هذا النموذج من المغاوير نادر في نوعه، يجب دراسته من كل الزوايا، والعمل على أن يكشف أوراقه واحدة واحدة حتى يستعيد الذاكرة. هذا إذا ما استعادها. وإلا، سيكون يهودي بين غيره، إنساني أم غير إنساني، هذا غير مهم، فالجيش يسهر على كل شيء، وهو يسهر جيدًا. اصطحبت ليا شالوم إلى مكان عملها. وهو في السيارة، كان ينظر إلى شوارع تل أبيب بعين الإعجاب.
قدمته لزملائها الذين وجدوه لطيفًا جدًا، ووجدهم ودودين جدًا. فاقد ذاكرة أم غيره، وجدته زان "سكسي" جدًا، ككل كولونيل. قدمت له فنجان قهوة، خلال انتظاره انتهاء ليا من تحليلها المِجهري. مازحته، قالت له إنها هي خطيبته، لكنه نسيها. دعته إلى الشاطئ.
اشترت مايوهين، واحدًا له وواحدًا لها، من متجر قرب شاطئ عامر بالناس. كانت لجميعهم هيئة سعيدة. كانت الحرب تدوي ليس بعيدًا من حدودهم، ولهم هيئة لامبالية. أحس شالوم بنفسه واحدًا منهم، لم يكن في حاجة إلى ذاكرته ليشعر بالألفة نحوهم. الماضي، شخصي أم غيره، هو في نهاية المطاف شيء فردي. ما يهم، هذه اللحظة الجماعية. ابتسم لهم، غير أن ابتسامته امحت على رؤية زوجين تسيء معاملتهما مجموعة من الشبان المفتولي العضلات.
راحوا بقدم مترددة، والزوجان يرددان شكرهما.
بَدَّل شالوم ثيابه، ثم كان دور ليا. ركضت معه نحو البحر، ودفعته في الأمواج، فاتضح أنه لا يعرف السباحة.
أخذت تدله كيف يعوم، فلم يخف شالوم من البحر. بِحَسَب ليا، هذا يثبت أنه ابن هذه المدينة الساحلية. تعلم بسرعة كيف يطفو على ظهره، وابنة عمه سعيدة. صرخت إعجابًا، وقبلته فجأة من شفتيه. فقد شالوم توازنه، وسقط في الماء، وكلاهما يطلق ضحكًا طِفليًا. في مطعم الوجبة السريعة، طلبا ساندويتشات: حمص، فول، فلافل، كباب...
وَقَبَّلها.
انفجرت ضاحكة.
قَبَّلها من جديد.
قَبَّلها. إن لم يستعد الذاكرة، كانت ساندرا الرابحة، بينما صارت ليا تحبه. خافت أن تختطفه أختها منها. يجب على شالوم أن يتذكر ماضيه، ليحبها عَبْرَ كل ما عاش، وليس عَبْرَ لحظة قصيرة، منذ أمس فقط. شاء أم أبى يجب عليه أن يجد هذا الماضي. هكذا سيكون للحاضر ثقله، وسيكون حبه لها قويًا ومتجذرًا. لكنه لا يريد العودة إلى جذوره، إذن تبقى له الصدمة. يلزمه صدمة نفسية تزعزع كل شيء فيه، تهز العالم في رأسه. كيف العمل على ابتعاث هذه الصدمة؟ فكرت ليا في نازع شالوم الإنساني. لتزيده حفرًا، قدمت ابن عمها لموشيه، صديق مقاول.
نظرت إليه وجوه سُمْر: شباب، أقل شبابًا، نساء، أطفال. كانوا كلهم ينشطون من حولهم، وشالوم ينظر إليهم بانتباه.
ثم، باتجاه شالوم:
تابع شالوم بنظرته الأطفال بانتباه أكثر.
نادى أحدهم، وطلب منه أن يحمل حجرًا ضخمًا، فنفذ الطفل ذلك، وهو يبدو صغيرًا جدًا بالنسبة لحمله. خطا عدة خطوات، ووقع، مسحوقًا تحت الوزن. خف شالوم إلى نجدة الجسد الذي انقصم، ومات صاحبه، فصرخ غاضبًا، وأراد خنق موشيه، لولا تدخل العمال الفلسطينيين. كانت الصدمة رهيبة، إلا أن شالوم لم يستعد ذاكرته. وليا تعود به إلى البيت، كانت تبكي من وراء عجلة القيادة.
الفصل الثالث
لم تشأ ساندرا تقديم شالوم لأحد، ولم تَرُد على أي واحد من أصدقائها الذين ينادونها أو الذين يحيونها في الطريق. رجت ابن عمها أن ينتظرها في المكتبة الصغيرة لجامعة بن غوريون، المدة التي تَحْضر فيها المحاضرة. بعد ذلك، ستذهب معه لاكتشاف يافا، "المدينة الأم" لتل أبيب، كما يقولون هنا، فهي تريد أن تعبئ ذاكرته بلحظات يعيشونها سوية. اقترب طالب، طويل ونحيف، من شالوم، المعتزل من وراء جريدة بالطبعة الإنجليزية، وقدم نفسه تحت اسم سيمون، صديق ساندرا، فهو رآه بصحبتها. بدا خجولاً، وهو يدفع نظارته الطبية على أنفه، بينما يَلْمع وجهه من الحياء. قال شالوم لشالوم إن الشاب يتكلم بصوت يُسمع بالكاد لأنه لا يريد إزعاج القراء، لكنه كان مخطئًا، عندما رأى شالوم فجأة شالوم محاطًا بزمرة من أصحاب ساندرا، كل أفرادها أوروبيون، وكلهم يتكلمون بصوت عال كما لو كانوا في أحد مقاهي الحي، يريدون كلهم معرفة من هو.
اكتفى شالوم بالابتسام، فطلبت زمرة أخرى، كل أفرادها شرقيون، السكوت، وراح هؤلاء وأولئك يتراشقون بالشتائم: "قحبة، عرص، عرصة، سفاراد الخراء، أشكناز طيزي، طيزي، طيزي، ثقبي الصغير!" اعترضت زمرة ثالثة الزمرتين الأوليين، كل أفرادها روس وجدوا أنفسهم مضطرين للدفاع عن هويتهم القومية: "الأشكناز نحن، الحقيقيون، الأصيلون!..." "أصيلو الخراء!" قام الأوروبيون بهجوم مضاد. لكن عندما بدأ طالبان فلسطينيان أو ثلاثة بالاحتجاج، لأنها قاعة للمطالعة أولاً وقبل كل شيء وليست ماخور خراء، انقلبوا جميعًا ضدهم: "عرب قذرون، جبناء، خونة، ارحلوا، اذهبوا إلى الشيطان، عودوا إلى صحرائكم، وطنكم الدائم! إلى الصحراء، إلى الصحراء، إلى الصحراء، إلى الصحراء، إلى الصحراء..." هتفوا، والمكتبي يصيح بأعلى صوته دون أن يقدر على فعل شيء. لحسن الحظ كان أستاذ ساندرا غائبًا، فاستطاعت التدخل في الوقت المناسب، لإخراج شالوم من هناك، قبل أن تتحول تلك المشاجرة إلى ملاكمة.
لم يسمعها، كان ينظر إلى يافا، إلى شوارعها، إلى عماراتها، إلى بحرها، إلى فتريناتها، إلى مشاتها، إلى باصاتها. "أنا من تحب، حبك الأوحد... وجودك الوحيد. أنا من تحب، نعم، دون أن تدري." تركت السراي من ورائها، أوقفت السيارة، وذهبت لتجلس مع ابن عمها على رصيف مقهى الملك سليمان في شارع شني نوفمبر.
قبلته بعنف. كان انطباع شالوم أنها قبلة ليا: رقة شفتيها، طعم لعابها، المتعة، وإن كانت لاذعة. ابتعدت ساندرا عنه، إلا أنه انقض على شفتيها بذات العنف، فذابت من السعادة. خلال تناوله قهوته، دعاها ليا. صححته ساندرا، فاعتذر. ومن جديد، خلال الحديث، دعاها ليا. صححته ساندرا مرة أخرى، بيد أنها، بعد لحظة، تظاهرت بتجاهل زلة اللسان المتكررة هذه، للجانية النفسية الخاصة بمصاب بالنسيان يبحث عن شق طريقه نحو ذاكرته. كان أهم شيء لها أن يقبلها، هي، أن يتكلم معها، وأن يشمها، هي، وهي قربه. أصبح الشارع شديد الصخب.
صح أو غلط، لكن مع ساندرا، الأمر لديه سيان. على رصيف مقهى الملك سليمان، بدأوا بشواء السردين، وعاهرات يرتدين تنورات قصيرة جدُا كن هناك، في الدخان، وهن يعاكسن المارة. يهود أرثوذكس، التلمود تحت آباطهم، لم يتوقفوا عن التوافد على الكنيس المجاور. بائعو مخدرات غير متحفظين كانوا هناك كذلك، وهم يهمسون في آذان المارة: "اجرع، اجرع، اجرع، اجرع، اجرع..." مزيج المدنس والمقدس لهذه المدينة التي أضاعت هويتها الماضية أيقظ فًضوله. قبَّل ساندرا، قبَّلها أيضًا، فانتشرت رائحة شفتيها ورائحة السردين المشوي في رأسه.
نظرت عاهرة إليه بطرف عينها في رغبة، شقراء غلط بعيني مها سوداوين، ومن فترة إلى فتره كانت تبتسم له، كما لو كانت تعرفه. لاحظت ساندرا مناورتها، ولتحبط خطتها في إغراء "رجلها"، بَدَّلت مكانها مع شالوم. كل مرة التفت فيها برأسه نحو بنت الهوى، التقى ابتسامتها. ساندرا لا تبتسم بما فيه الكفاية، فعوضت عن نقيصتها بطلب تشكيلة سمك مع قنينة خمر كاشير:
أراد شالوم الذهاب إلى التواليت، فقالت ساندرا "أنا كذلك". أرادت الدخول معه لما أشار زبون إلى أنها مراحيض للرجال. بعد أن بال شالوم، اتجه إلى المغسلة، فانفتح الباب من ورائه. توقع أن تكون ساندرا، لكنها العاهرة. تقدمت منه في المرآة بخطوات عازمة، وقالت بالعربية بكلمات لاهثة:
فهم شالوم، لكنه أجاب الآن بالإنجليزية:
قهقهت.
وساندرا التي تنادي:
دفعت ساندرا باب مراحيض الرجال لتقع على بنت الهوى.
وقبَّلها. بعد الغداء، واصل اكتشاف يافا بصحبة ساندرا. عند مغادرتها شارع شني نوفمبر، لم تأخذ سوق اليهود الواقع شمالاً لتتحاشى الذهاب به إلى حي المنشية، في البلدة القديمة، حيث يسكن العرب في قسم منها. دارت يمينًا، وغاصت في شارع يافا-تل أبيب، ومن هناك إلى بيت فيجان لتجعله يزور حي العجمي، حي قديم جدًا، بناه الجن، كما تقول الأسطورة، وصنفته وزارة السياحة تراثًا للأمة. لم تعد تسكن فيه أية عائلة فلسطينية، ولا أية عائلة أخرى. تداخُل البيوت القديمة بواجهاتها البيضاء المجدولة بالسوداء شكل متحفًا كبيرًا لا مثيل له من حول مزار الشيخ العجمي في المقبرة القديمة: كشافات ضوء في وضح النهار، فراشات بيضاء، سياح من كل الجنسيات. لهذا لم تحس ساندرا بأي قلق، وهي ترى شالوم يغرق في هذا العالم العريق، الغريب جدًا بالأحرى. هذا العالم القديم ليافا لن يعرِّض شالوم لخطر استحضار عالمه الماضي. مع ذلك، من أعماق ألفي عام من الماضي، عادت إلى نفسه كلمات العاهرة دون انقطاع، مع رائحة غامضة للرطوبة وللغبار: "أنت أخو ياسمين، الفدائي!... الفدائي، الفدائي، الفدائي، الفدائي، الللللللللللللفدائييييييييييييييييي!" لا، ليس صحيحًا ما تقوله هذه العاهرة! قال شالوم لنفسه. لستُ أخًا لأحد. نحن والعرب، لنا الدم نفسه، نحن أبناء عم، نحن نتشابه، لا بد أنها أخطأت في الشخص، واعتبرتني واحدًا آخر. في حجرة واطئة كالقبر، خاف من أن يجد نفسه وحيدًا مع ساندرا. أخذها بين ذراعيه، وخرج بسرعة إلى الضوء، إلى النهار، إلى البحر. تمزقت الأمواج ببطء، بكسل، على الصخور، ولم يزل الناس يستمتعون بهذه النهارات الساخنة الاستثنائية من فصل الشتاء. هو، المراكشي، لا علاقة له بما تقوله عاهرة تَهذي. شعر بقربه أقرب ما يكون من ساندرا، فهو ابن هذا البلد، هذه اللحظة التي يعيشها هذا البلد، هذا البحر الذي يحتازه هذا البلد. واصلت الأمواج الكسولة تمزقها ببطء على الصخور، وساندرا تشد نفسها بين ذراعي شالوم إلى صدره في أوج سعادتها، وتبتسم بازدهاء.
الفصل الرابع
عادت ساندرا وشالوم إلى البيت، وهما يأخذان بيد بعضهما، ولم يجدا ليا، فخرج جوردان من غرفته، عندما سمع أخته تنادي أختها: "ليا! ليا! أنت هنا؟" قال إن ليا لم تعد بعد، وظهرت من ورائه امرأة شقراء نصف عارية، وهي تتبسم عن لؤلؤ. قبلت ساندرا، ونظرت إلى شالوم بهيئة من يستميل المودة.
أومأ رأسه باتجاه يدها التي كانت دومًا في يد شالوم.
ليدافع جوردان عن ابنها بالقرب من هيئة أركان الحرب، كان على نورة أن تقبل النوم مع الكولونيل الشاب. نعم، أَعْطِ نُعْطَ. في الجيش كما في الحياة، وإلا لن يكون للحياة أي معنى، لن تكون الحياة. غدت الماما الروسية الجميلة عشيقة جوردان الذي توسط لصالح ابنها. ابن وحيد وأوحد. كانت الحجة التي قدمها ليبرر رفض إيغور القيام بخدمته العسكرية في الأراضي المحتلة رفضًا باتًا. ابن وحيد وأوحد. لكن في الواقع، لم يكن إيغور يريد أن يلطخ يديه بالدم. كأبيه الذي كان –الذي كان دومًا- مناضلاً شيوعيًا، كان يعلق أهمية كبيرة على الثمن الذي يدفعه من أجل حريته وحرية الآخرين. شعب يقمع شعبًا آخر ليس شعبًا حرًا! وباسم هذه الحرية، لم يكن يريد أن يُتلاعَبَ به من أي شخص كان. هذا البلد، يعبده، والحالة هذه، الجنرالات، لا. لم يكن يريد أن يضحي بحريته من أجل حريتهم، لم يكن يريد أن يضحي بنفسه، أن يضحي بالأبرياء على هيكلهم. قدم جوردان هذا المُهر الذي يتحرك بشدة من فرط نفاد صبره إلى قائد الجيش كضحية، كضحية لمصيره هو نفسه: ابن وحيد وأوحد. أرملة لم يكن لها من عِماد غير هذا "الابن الوحيد والأوحد". قَبِلَ الجنرال دافيدسون، صاحب القلب الطيب، كما كان شائعًا، حجة جوردان. ليس لأن أبا جوردان كان صديقه الأفضل، لكن لأنه يثق به. بفضل جوردان يسيطر العساكر، بالتعاون مع الموساد، على قيادة المقاومة الفلسطينية. وكيلا يكشف للرأي العام أن هناك شبابًا فاسدين في الجيش يرفضون القيام ب "واجبهم المقدس" في الأراضي. لم يستطع جوردان أن يُجَنِّب الشاب المتمرد المثول أمام المحكمة العسكرية، فما كان يريده الجنرال دافيدسون أن يلقن درسًا لمتمردين آخرين، لا لشيء إلا للرمز. مضى كل شيء في جلسة سرية، ولم يُسْمَح للجرائد الإسرائيلية والغربية بتمثيلها حتى بصحفيين "مخلصين" للجيش، بمعنى مدفوعًا لهم: أُدِينَ إيغور بستة شهور سجن حُكْمًا مَعَ وقف التنفيذ. في الواقع، لم يكن أبو جوردان قد فكر في حياته في الهجرة إلى إسرائيل على الإطلاق. أرض الميعاد، بالنسبة له، هناك حيث يعيش المرء كما يجدر به العيش، في فرنسا، في أمريكا، في منغوليا، في جزيرة العرب. الجنة هي هناك حيث يزدهر المرء ثقافيًا واقتصاديًا. لم يكن مؤمنًا بدين. على الدين أن يكون، بالنسبة له، اختيارًا شخصيًا مجردًا من كل حساب سياسي. ليس إلا عند ذلك نجد الارتياح الذي نبحث عنه لدى الله. أينما وُجِدْنا. حتى الله، في هذه الساعة، يمكنه أن يكون أية سلطة تخيفنا وتحمينا. لماذا إذن البحث عنه بعيدًا؟ لهذا كان قد رفض عرض صديقه الجنرال دافيدسون (في ذلك الوقت، لم يكن جنرال، كان كولونيل، لكن لِمَا أبداه من مآثر عسكرية خلال حرب السويس كانت له قوة الجنرال ونفوذه) اللحاق به في إسرائيل. "ستكون لك نفس الامتيازات في فرنسا"، قال له. "إذا كانت نفس الامتيازات في فرنسا، فما نفع ذلك"، أجاب أبو جوردان، صيدلي ذو سمعة وطيدة. بخلاف دافيدسون، الذي قبل أن يهاجر نهائيًا إلى أرض ميعاده، لم يكن له وضع يحسد عليه. لم يكن سوى موظف صغير ملحق بوزارة الدفاع. السلطة، النقود، العشيقات، التماثيل الصغيرة القديمة، سيارات الجيش –وسيارات اللوكس المركونة في الكراج، من فضلك- الشركات، مَربى الماشية، حقول الشمام والبطيخ، الفيلا على الساحل، مدينة يافا، ولِمَ لا كل المدن. عندما يغدو رئيس وزرا، كل هذا سيكون له، وستكون هذه أرض ميعاده. إذن، للدفاع عن امتيازاته، الغاية تبرر الواسطة: تصبح التوراة الخط المستقيم الذي يحدد وِجهة العذاب للعديد من الشعوب، وليس فقط للشعب اليهودي. لأنه يَسْخر من كل شيء، الجنرال دافيدسون. بالنسبة له، شمامة أو بطيخة تساوي أكثر بكثير من عدة رؤوس. والله وعدنا، والله وعدنا، والله، والله... ولا يقول "الله وعدني، الله وعدني..."، أبدًا. عندئذ، تغدو الشريعة الموسوية شريعته، كالشمام، كالبطيخ، هذه الرؤوس الصفراء والخضراء، كالرؤوس الأخرى، يهودية أم عربية، بيضاء أم سوداء أم حمراء. لكن الحلم، الحلم الجميل، أقوى من الحالم دومًا. الحلم الجميل كالقيد، ولأنه كان مقيدًا بكل سحر وكل جنون الحلم، كان جوردان قد ترك باريس بعد وفاة أبيه مع أختيه الصغيرتين. الحق أن دافيدسون من كان من وراء رحيله. لمن ليس له دافيدسون، يتحول الحلم بسرعة إلى كابوس، فَنُمَوِّهُ كل شيء بكلمة، كلمة واحدة: الواجب! واجب حماية شمام وبطيخ الجنرال دافيدسون، أي نعم! كان الجنرال قد قال لجوردان: "يا بُنَيّ، أنت تعلمت العربية في السوربون وتتكلمها أحسن من كل هؤلاء الأغبياء المستشرقين، ربما أحسن من بعض العرب، ويشاء الواجب أن تعود إلى الجيش (لا يقول أن تعود إلى البلد)، مهمة وطنية كبيرة تنتظرك! أعرِفُ جيدًا أنك لست مؤمنًا بدين، لكنك حالم، فأهلاً وسهلاً بك في بلد الأحلام (لا يقول بلد الكوابيس)". كان ألفان من السنين هناك، أمام عينيه، في متناول يده، لكن خصوصًا هذا الواجب الوطني الذي يناديه، الذي يدعوه أن يأتي سريعًا. على عكس أبيه، سَمِعَ جوردان لدافيدسون، والدموع في عينيه، عندما كان يتكلم عن هذا الواجب نحو الوطن (وفرنسا؟) الذي يلح عليه في المجيء بسرعة. كذلك، كان ما يستولي عليه أن يبرهن للأساتذة من أولئك المستشرقين أنه أحسن منهم. "ثم، يا بُنَيّ، كان الجنرال قد تابع، مرتبتك، مسكنك، سياراتك اللوكس، عشيقاتك الشقراوات، تماثيلك الصغيرة من صحراء النقب، شمامك، وبطيخك، لا تقلق خاصة، سيكون كل شيء تحت أمرك. يمكنك الاعتماد على عمو دافيدسون. فَهِمت، جوردي؟" كانت ليا وساندرا لم تزالا صغيرتين، فلم تبديا اعتراضًا. كانتا تتمنيان السكن قرب البحر، فقط. كانتا تحلمان بامتلاك بيت يطل على الشاطئ، وكانتا ترغبان في الاغتسال بالملح والشمس وفي سماع صوت الموج. "صيادلة بلا حدود"، كحلم، جاء فيما بعد. في ذلك الوقت، ككل المراهقين، لم تكونا تعلمان أن من وراء الأحلام التي تتحقق في أرض الميعاد هناك دافيدسون دومًا، هناك جنرال. أخيرًا عادت ليا بصحبة موشيه، وهي تواصل بهيئة مغتمة حديثها معه بخصوص مشروعهم "صيادلة بلا حدود".
طردته، وهي تصفق الباب من ورائه. خرج جوردان نصف عار، وسأل أخته إذا ما كان كل شيء على ما يرام.
أطلت نورة برأسها من وراء الباب وهي تخفي عريها، ورمت مع بسمة متهكمة:
فتحت ليا غرفة ساندرا، ووقعت عليها عارية في أحضان شالوم عارٍ هو كذلك. ولولت من المفاجأة، وركضت إلى غرفتها، وهي تغلق بابها بالمفتاح، لتذرف دموعها الحرى. جاءت ساندرا في قميص نومها لتتكلم معها من وراء الباب، قالت لها إنه اختيار شالوم، الذي يحبها، هي، وإن عليها أن تعتبر هذا لعبًا شريفًا. عاد شالوم إلى ارتداء ثيابه، وهو يسمع بأسى أنات حب ليا. وليهرب من آهاتها، غادر البيت وحده، بقلب موجع، رغمًا عن ساندرا التي ترجوه البقاء. ناداه البحر، الأمواج، والقمر الفضي، واستقبله ليل شتاء ليس ككل الليالي. وهذا الأسى الذي يحفر قلبه. لم يختر ساندرا، ساندرا اختارته. في الواقع، ليا من يحب، لكن فات الأوان الآن، بعد أن قام بالحب مع أختها الصغرى. الأخلاق تفرض هذا. وشرف الجندي الشجاع. تذكر جسدها الجميل، أديمها الناعم، صدرها المعطر. تذكر قبلاتها، ضماتها. عليه أن يحبها الآن، هي، وليس ليا. قدمت نفسها له. لم يتابع البحرُ فكرَهُ المضطرب، كان يتموج بهدوء. تذكر عاهرة الملك سليمان، وازداد فكره غليانًا وهيجانًا. من هو؟ وإذا ما كان فدائيًا؟ من العبث أن يكون شيئًا آخر غير ما هو عليه. هل ستبكي ليا لو علمت أنه فلسطيني؟ لكنه ليس فلسطيني، مستحيل، مع كل ما له، كولونيل تساهل. وساندرا؟ يعرف رد فعلها مسبقًا. ستبصقه. ساندرا ستبصقه. لا تحبه إلا لأنه هذا المصاب بالنسيان الجميل، هذا الرتيب العسكري العالي، ولأنه يفعل الحب جيدًا. أخذ سيارة ساندرا، وذهب يبحث عن شذى. في الليل، كانت شوارع يافا الأجمل في العالم. لم يعرف غير هذه الشوارع الساحرة، إلا أنه في رأسه، قارنها مع كل الشوارع التي افترض أنها موجودة. شوارع يافا الأجمل. على مقاعد شارع شني نوفمبر، كان العشاق يقبلون بعضهم، وكانت الأشجار تقف هادئة، ولم تكن أضواء المصابيح لتجرؤ على اختراق أشجار النخيل التي تلقي بظلالها في كل مكان. وهذه الموسيقى المفاجئة التي تأتي من بعيد، "الرقصة الألمانية" لموزارت، وهذه القهقهة، وهذا الصياح في الليل، وكل شيء بدا ملقى في هامش الكون. لم تكن شذى في موقعها على رصيف الملك سليمان، باقي العاهرات كن هناك، إلى جانب بائعي المخدرات والقراء الملتهبين للتوراة. هي مع زبون، قال شالوم لنفسه. حلق بنظره فوق طاولات الرصيف، فوقعت عيناه على صديقة ليا، زان، وهي تقبل رجلاً عجوزًا أنيقًا، وتضحك كالمخدرة.
جهرت بضحكة مستفزة، فنظر الزبائن إليها متبسمين: منها؟ منه؟ خجل شالوم خجلاً شديدًا. اعتذر، ودخل القاعة. لم تكن شذى هناك. إذن هي مع زبون على التأكيد، عاد شالوم يقول لنفسه، وهو يغادر المقهى. بعد لحظة من التردد، بعد أن فحص حواليه، ناداه صوت نسائي. كانت شذى. أحاط بها سيمون، صديق ساندرا، وثلاثة طلاب آخرين. أبهجتهم القبل، من خدها، من ثغرها، واللمسات، من فخذها، من كفلها. كانوا يضحكون فيما بينهم، دون حقد ولا تنافس. طلبها ملتحون شبان، أرادوا مضاجعتها. وليعتصموا بالصبر، راحوا يتلون الآيات. اقترب سيمون من شالوم.
لم يعد يبدو أي أثر لخجله المعتاد.
لكن الأصحاب جذبوه من ذراعه بينما هو يصيح في ظهر شالوم:
اقتربت شذى من شالوم دون أن تبالي بتوسلات الشبان الملتحين، مشيا جنبًا إلى جنب، واخترقا شارع الأشلة، نحو الميناء، في حي شبوغ، ثم ذهبا إلى مقعد تحت شجرة نخيل.
تخلص شالوم منها بكل هدوء، ونظر إليها، وهي تبكي.
نهض ليذهب عندما أمسكته شذى من يده.
وانفجرت نائحة.
الفصل الخامس
فلاديمير عامي ودافي، ثلاثة أصدقاء لإيغور، رفضوا بدورهم القيام بالخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة. تمترسوا في مقر حركة "السلام الآن"، وشنوا إضرابًا عن الطعام. بينهم كانت ليا. استولت الجرائد على القضية، ولأول مرة سمع الرأي العام المعادي تقليديًا لكل نوع من الأعمال التي تمس أمن إسرائيل ووجودها –لأن هؤلاء الزعران الذين يتعاونون مع "إرهابيي الأراضي" يريدون تدمير البلد- أصواتًا مؤيدة وأخرى مترددة بين المؤيدة وغير المؤيدة. كان صوت شالوم واحدًا من هذه الأخيرة. أيد التزامات ليا، لكنه وجد أن حجج ساندرا مقنعة كذلك. كان ضد القمع، مثل ليا، لكنه أقر، مثل ساندرا، أن المياه القادمة من الأراضي لا غنى عنها لحياة الإسرائيليين. إذن كيف العمل لتحاشي القمع والظفر بالحياة؟ لم يجد جوابًا. عزمت الأغلبية التي تقول ضد على سحق الأقلية التي تؤيد المنشقين وأولئك الذين لا يتخذون موقفًا حاسمًا. غدت الحرب الأهلية على وشك الوقوع، غير أن انفجار قنبلة موقوتة في مقهى الملك سليمان نُسِبت إلى إرهابيي الأراضي وضعت حدًا لهذه القضية. كانت شذى الضحية الوحيدة، فأُشعلت الشموع، غابة من الشموع، وعُزفت الهاتيكفا، هاتيكفا حزينة، لتسكن روحها بسلام. ساد التحالف الوطني أخيرًا، وانتصر التخويف. رُمِيَ فلاديمير وعامي ودافي في المعتقل، وكذلك إيغور. أراد الجنرالات أن يحاكموه من جديد، لأنه رأس الحية بالنسبة لهم، فهو بإمكانه أن يسمم كل الجيش. لم تعد نورة، أُم إيغور، الحصول على أي شيء من عشيقها، جوردان. "القضية تتجاوزني، أنت تعرفين"، قال لها، واستُدعي للبحث فيها مع قائد الأركان، مساءً. في شارع بروفيدنس (العناية الإلهية) الضيق، كانت البناية الضخمة لمجلس قيادة الدفاع الوطني. تَوَقع جوردان، للظروف الحساسة، أن يجد الشارع يغلي غليان طنجرة الأحداث، لكنه لم يلاحظ شيئًا غير عادي. كان القمر بدرًا، وبعض الفئران تتصارع على نصف همبرغر تحت العين المتسلية لحارس، والذي، لما رأى جوردان، ارتدى هيئةَ مَنْ يسارع إلى إنهاء خدمته. كان الموظفون قد غادروا إلى بيوتهم، ولا شيء يتحرك في ممرات الطابق السادس، وكانت على باب الجنرال دافيدسون رسالة معلقة: "أحتفل بالحدث في البركة، الحقني بسرعة. عمو دافيد." كان جوردان يعرف ما يعني الاحتفال بحدث في البركة، ابتسم، وعاد يأخذ طريقه إلى المصعد. في الطابق الأرضي، أسرع الخطى باتجاه البركة. وصلت أذنيه صرخات وضحكات أنثوية، فاتسعت ابتسامته. فكر أن على الجنرال دافيدسون أن يكون عن حق سعيدًا جدًا من الطريقة التي عالج فيها قضية المنشقين الثلاثة. "خير طريقة للدفاع عن الأمة، يا بُنَيّ، هي أن تقوم بالهجوم"، كان رئيس أركان الحرب يتباهى. فكر جوردان أنه بالتضحية بعاهرة، وبعاهرة ليست يهودية فضلاً عن ذلك، أنقذ دافيدسون البلد من تشظٍ لا أحد يمكنه التنبؤ بنتائجه. دفع بابًا كبيرًا، ودخل في فضاء أزرق زجاجي كبير. كانت البركة المسقوفة تؤدي إلى مرجة يجعلها ضوء القمر فضية، ولا أي ضوء آخر يأتي ليزعج الأجساد العارية تمامًا، وكان بعض الضباط والضابطات يلهون بجزل وسط البركة الضخمة. وعلى الدرجات الأربع المغطى نصفها بالماء، كان دافيدسون محاطًا بسكرتيرتيه الشقراوين الحسناوين. عندما رأى جوردان قادمًا، رفع يدًا مثقلة بخاتم حجره الزمردي الضخم الشديد الخضرة يلمع بغرابة على الإصبع الصغيرة.
تخلص جوردان بسرعة من ثيابه، وغطس كضفدعة أعمتها الرغبة في الشعور مبللة بالماء. جاءته السكرتيرتان الحسناوان، وأخذتاه من ذراعه، وهما تضحكان بجزل، وتتكلمان بصوت البنت الصغيرة: "جوردي، حبيبي..." بنفس اللهجة التي تقولان فيها: "جوردي، بدي أعمل بي بي!" حال وصوله قرب رئيس الأركان، ناداه الذين كانوا وسط البركة، حيوه، وعادوا إلى التلهي باللعب.
أحضرتا الشمبانيا على صينية فضية طافية.
قرعوا كؤوسهم، وعاد الجنرال إلى القول:
ثم لجوردان بصوت جسيم:
جولدا، وهي في غاية تهيجها، قبلت جوردان من فمه، ومن صدره، ومن عضوه، فدفعها برقة.
أَفْرَغَ كوب شامبانياه، وعانق أولجا بحمى، تاركًا نفسه يعوم فوق الماء. أرادت جولدا أن تفعل الشيء نفسه مع رئيسها، إلا أنه أوقفها، وسحب جوردان من الماء قائلاً:
انطلق في الأجواء افتتاح "الترافياتا"، لحن قوة القدر. أرادت أولجا أن تعانق الكولونيل جوردان من جديد، لكنه أحس فجأة بوجع هائل في رأسه، فترنح.
دفعها بلطف، واعتذر إلى قائده:
خرج جوردان من البركة، ويدا الشيطان تسندانه. طلب الجنرال دافيدسون مزيدًا من الشمبانيا، وأخذ الحسناوين الشقراوين بين ذراعيه، وهو يقهقه من السعادة، كإله المجانين المغتبطين.
الفصل السادس
كان المنشقون الأربعة في قفص الاتهام، بعد أن قررت هيئة الأركان، أن تفوض الأمر إلى محكمة مدنية، لأن هذه القضية لا تخص العسكريين فحسب، بل وكل الشعب، وليحضرها جمهور واسع، ويجعل من صوته مسموعًا. "يعيش المجندون الأحرار!"، هتف بعضهم. "يسقط الخونة!"، زعق معظم الحاضرين. الجبناء للواحدين، هم أكثرهم شجاعة للآخرين. العار من ناحية، الفخار من ناحية. رئيس المحكمة، القضاة، المحلفون، المحامون، المدعي العام، شعروا كلهم بعيش لحظة تاريخية، كانوا كلهم منفعلين. بين المساندين لفلاديمير، عامي، دافي، وإيغور، كانت هناك بالطبع ليا، وكانت زميلتها زان، برفقتها، وهي تختبئ خلفها، بشفتين مرتجفتين من الخوف، ووجه شاحب. كانت ساندرا وسيمون وباقي أصدقائهما ضد عمل الشبان الأربعة، لكن غطت أصواتهم عاصفة المتطرفين الدينيين. "سفلة، جبناء، متواطئون، خَرَّاؤو الحرية! اسجنوهم! اسجنوهم! اسجنوهم! السجن مدى الحياة! اسجنوهم! السجن مدى الحياة! السجن مدى الحياة! السجن مدى الحياة!" وأيضًا: "اسجنوهم! اسجنوهم! اسجنوهم..." ألقت زان نظرة مرتاعة نحو الأفواه الباصقة للتهديدات، فلم تر سوى أنياب مشحوذة، وجلس شالوم بين الطرفين، بِتَبِعَة جسيمة، ولم يقدر على اتخاذ قرار في صالح هؤلاء أو أولئك. لم يقدر بعد على القطع بين وجهتي نظر المتخاصمين. أيد الحرية الفردية للمتمردين الأربعة، غير أنه لم يمكنه أن يتجاهل واجبات كل واحد نحو الجماعة التي تتوقف عليها الحرية المشتركة. كان ضد القمع، لكن هذا ضروري أحيانًا لحفظ تلك. "سفلة، جبناء، متواطئون! اسجنوهم! اسجنوهم! السجن مدى الحياة!" هذه الأفواه التي تزعق، هذه العيون التي تهدد، هذه القبضات التي تعتدي في مكان رفيع للعدالة، دفعته إلى التساؤل عما إذا كانت الحرية المشتركة تُختصر بهذا حقًا. وحرية الآخرين؟ وهؤلاء الفلسطينيون المطرودون، المطاردون، المقموعون، المعتقلون، المعذبون، المجوعون، المحتَقَرون، المتجاهَلُون، الذين يرمي الناس إلى الإنهاء عليهم فقط لأنهم يطالبون بدورهم في الحرية؟ لأنهم يريدون العيش على أرضهم؟ والعيش أحرارًا؟ كانت حياة الشعبين تتشابك تشابكًا دقيقًا إلى حد لا يمكن التمييز بين البداية والنهاية. الماء الذي لا غنى عنه للحياة، سنجد حلاً لاقتسامه. إنه الإنسان الذي بلا ذاكرة من يقول هذا. أما الكولونيل الذي كان... نظر إلى ليا، ثم إلى ساندرا. كانت كلتاهما تهتف مع أو ضد، وهو يبقى صامتًا، مغتمًا، ضائعًا مع أفكاره. بدا منعزلاً، منسيًا. لا أحد، غير زان، يعيره أدنى اهتمام. نظرت إليه فزعة، معتقدة أن تجد فيه من سينقذها من هذا الجو الشيطاني لمحكمة جنايات ليست كغيرها من المحاكم، من هذه الأنياب المشحوذة التي أخذت تدمى، جاهزة لعضها، هي. مضت اللحظة التاريخية، وبدأت اللحظة التراجيدية، فَقُرِأَت النرفزة على وجه الرئيس. حاول بلا جدوى تهدئة جلسة المحكمة التي واصلت الهتاف: "السجن مدى الحياة! السجن مدى الحياة! السجن مدى الحياة! السجن مدى الحياة! السجن مدى ال..." "يحيا المجندون الأحرار! يحيا المجندون الأحرار! يحيا المجندون الأحرار!" "السجن مدى الحياة! السجن مدى الحياة!" "يحيا المجندون الأحرار!" "السجن مدى الحياة! مدى الحياة! مدى الحياة! مدى الحياة! مدى الحياة!" "الأحرار! الأحرار! الأحرار! الأحرار! الأحرار!" "مدى الحياة! مدى الحياة!" "الأحرار!" "مدى الحياة!"
سكتوا كلهم. قذفت الأفواه الأنياب الدامية التي قفزت على حلق زان، فأطلقت صرخة. ثم صوت: "مدى الحياة!" ثم صوت ثان: "الأحرار!" ثم صوت ثالث: "مدى الحياة!" ثم كلهم من جديد: "السجن مدى الحياة! يحيا المجندون الأحرار! مدى الحياة! الأحرار! مدى الحياة! الأحرار! مدى الحياة! الأحرار! مدى الحياة! الأحرار!"
سكتوا كلهم. لم تستطع زان منع الأنياب من الانغراز في عنقها، فكتمت صرختها، وهي تضع يدها على فمها. عرض المدعي العام الملف باقتضاب، وطالب بعقوبة مقدارها ستة شهور سجن مع التنفيذ، فصاح المتطرفون الدينيون ساخطين: "السجن مدى الحياة! مدى الحياة! مدى الحياة!" والمجموعة الصغيرة التي تساند المنشقين: "اطلقوا سراحهم حالاً! حالاً! حالاً!" كانت زان على وشك الانهيار.
عادت القاعة إلى السقوط في السكوت قبل أن يُنهي رئيس المحكمة جملته.
أعطى الكلام لمحاميي الدفاع، لكن إيغور تدخل. أراد الدفاع عن نفسه بنفسه. تحت النظرة المشعة لنورة، أمه، شرع في مرافعته. أشار أول ما أشار إلى أنها المرة الثانية التي يحاكم فيها لنفس "الجنحة"! كانت المرة الأولى محكمة عسكرية، وكان الحكم ستة شهور حبس مع وقف التنفيذ. لكنها إسرائيل... تكلم عن حبه للحرية، وقال إنه لأجل هذا الحب يعيش في إسرائيل، لا للهيمنة، للإهانة، للتجويع، لتكون إسرائيل بالفعل نموذجًا للأمم الأخرى. قال إنه لأجل المساواة بين كل الشعوب. له، ليس هناك شعبٌ عالٍ وشعبٌ واطئ. له، هذا البلد الصغير جدًا هو في نفس الوقت كبير جدًا، يمكنه أن يحوي كل شعوب الكرة الأرضية، إن تخلصنا من أنانيته، من شوفينيته، من امتيازاته، إن كان الناس عادلين. لكن لن يتنازل أرباب الجيش ولا مجانين الأرباب، الأوائل لأن كل السلطة بين أيديهم، والأواخر لأنهم ما هم سوى أدوات حقد وقمع. وصراخ الاستنكار هذا من الأنياب:
وهذا التوسل لِزَان:
وهذا الصياح من رئيس المحكمة:
وهذا التعليق الأخير لإيغور:
أتى بعض التصفيق من الذين هم مع، فقفزت نورة على كتف ابنها، وقبلته، بينما سحبه الحراس خلف القضبان. طَنَّ الذين هم ضد، ساخطين:
سكتوا كلهم. ثم واحد: "الخونة!" أيد فلادمير وعامي ودافي كل ما قاله إيغور، قالوا إن الحياة قصيرة جدًا، إن من اللازم الاستمتاع بها إلى أقصى حد، والتسلي بعمل الحب بدلاً من عمل الحرب. "أرجوك، ليا، أتوسل إليك!" همهمت زان بين شفتيها المغلقتين، الميتتين، القتيلتين. بعد ذلك، تسارعت الأشياء، أعلن المحلفون بالإجماع أنهم مذنبون كلهم، فلم يتناقش الرئيس مع القاضيتين الممحوتين اللتين تساعدانه. أكد عقوبة ستة الشهور حبس مع التنفيذ التي طالب بها المدعي العام، وأُغلقت الجلسة. برفقة سيمون وأصدقائها الآخرين، ذهبت ساندرا تتظاهر في شوارع تل أبيب للاحتجاج على قرار المحكمة، وليس للاحتجاج على واقع أن إيغور ورفاقه أُدينوا، لكن على واقع أن العقوبة كانت خفيفة، ستة أشهر "فقط" سجن مع التنفيذ. وجد المتطرفون ممن هب ودب والمتدينون أنها فرصة ذهبية ليبصقوا حقدهم ضد ا-ل-ع-ر-ب. "الموت للعرب! الموت للعرب! الموت للعرب! الموت للطابور الخامس! الموت للخونة! الموت للخونة! الموت للخونة! الموت، الموت، الموت! لنطردهم من الأرض التي تأتينا من السماء! لنطرهم، لنطردهم، لنطردهم!" على عتبة قصر العدالة، أخذت زان نَفَسًا عميقًا. ولعزائها، عادت الأنياب إلى أماكنها في الأفواه. قالت مع السلامة لليا، ونادت تاكسي.
وجدت ليا نفسها وحيدة مع شالوم. منذ أن "نشلته" ساندرا منها، وهي تتجنب أن تجد نفسها وحيدة معه. كانت تخاف من خيانة عواطفها لها، لأنها لم تزل تحبه، المسكينة ليا. كانت تخاف أن تبدو ضعيفة أمام هواها لميمو، وهي تعرف الآن أن الحب هو الشعور الأقوى، وأننا لا ننساه بسهولة. فقدان الذاكرة، بالنسبة لها، هو فقدان الحب، وشالوم فَقَدَ الحب، ليجده في حب أختها الصغرى. كانت إذن على خطأ عندما حثته على أن يجد ماضيه، فكل الماضي لا يساوي شيئًا أمام حب صادق. بحبه لساندرا، استعاد شالوم ذاكرته. ساندرا "هي" ذاكرته. ساندرا، التي تُفَعِّل الآن حقدها ضد المجندين المتمردين، كانت قادرة على حب شالوم. ليس لأجل جمالها يحبها بمثل هذا الهوى، لكن لأن ساندرا عرفت كيف تعبر له عن حبها. تعرف ليا في الوقت الحاضر، تعرف أن الماضي ليس كل حياة الكائن الإنساني. سلطة الحب، سلطة قول لا في اللحظة التي تَخْرَب فيها الأشياء، سلطة العيش ستة شهور حبس مع التنفيذ بعيدًا عن الشمس، نعم. كانت حال شالوم من نفس حالها، نظر في عينيها، نظر إليها بانتباه، كما لو كان يراها للمرة الأولى. ابتعدت ساندرا، وغرقت في شوارع تل أبيب. لم يعد صوتها يصله، وعلا شدوٌ لطائرٍ تحتَ شمسِ شتاءٍ مرهقة بشكل غير عادي. واصل النظر إلى ليا ليكتشف أنه يحبها بقدر ما يحب ساندرا، كان يحب الأختين، كلتيهما. قبل، كان يقولُهُ هكذا، دون أن يعلم أن الحب، ذاكرة كل إنسان، كان يقول إنه يحب ليا وساندرا، إنه يحب الاثنتين، لأنهما كانتا جميلتين. خفضت ليا عينيها، وقادته إلى البيت. خلال المسير، لم يقولا كلمة واحدة، لم يتبادلا نظرة واحدة، بقيا صامتين حتى وضعا القدم في الصالون. عندئذ، أخذ شالوم ليا من يدها، وجذبها إلى صدره.
قبلته باندفاع.
قبلته بقوة أكثر، وجرته إلى كنبة.
ثم، بهدوء، بكل هدوء، عادت إلى نفسها: لم يكن هناك غير فعل الحب اللذيذ هذا في رأسها، يسري في عروقها كإشارة وحيدة للذاكرة وللحياة. داعبت له شعره، ابتسمت له، ابتسامة رقيقة وحزينة معًا.
وصلت سيارة جيب جوردان، فعجل شالوم وليا في إعادة ارتداء ثيابهما. لاحظ جوردان مناورتهما، فانفجر ضاحكًا.
لم يفه شالوم بكلمة واحدة، نظر إلى باب ليا المغلق، وشيء ما يعقد حنجرته، ويمنعه من قول لا بصوت عال.
لم يفه شالوم بكلمة واحدة دائمًا.
في تلك اللحظة، وصلت ساندرا كالإعصار، وأخذت شالوم في أحضانها.
اخترق سيمون الصالون بدوره، وقال لجوردان:
خرجت ليا، وسألت عما يجري. فأخبرتها ساندرا بالذهاب المداهم لشالوم وسيمون إلى غزة بحماية التوراة، وزرعت وجه خطيبها بالقبلات.
ثم، لنفسها، مضنية من الحزن:
الفصل السابع
الجو حار في غزة كتل أبيب، تنبأت الأرصاد الجوية بحلول موجة حرارية في كل المنطقة، ولأيام عديدة. لم تكن مضاعفات الحرب في لبنان، لكن انقضاض إعصار معاكس، قوي، لا يقهر، قادم من جزيرة العرب، من الربع الخالي تحديدًا. بقي الناس، الفلسطينيون، كما يحب شالوم القول، يغلقون على أنفسهم الأبواب، رغم الحرارة الشديدة. لم يكن الحصار الذي يفرضه الجيش عليهم السبب الحقيقي لهذا الاختلاء، لأن منع التجول لا يبدأ إلا عند هبوط الليل، في الساعة التي يكون فيها التنظيف عند نهايته. قال المساعدون، الذين يعرفون جيدًا أرض المعركة، لكولونيلهم، إنه ليس من العادي أن يتخفى العرب هكذا، في المنطقة التي سبق "تنظيفها"، وفي المنطقة التي "ستنظف". هم حتمًا يعدون شيئًا ضدهم. لم يقولوا هجومًا، كانوا يتحاشون كلمة "هجوم"، وهم يفضلون ألا يسموا الأشياء بمسمياتها، وأن يتركوا للكولونيل تصور ما يقصدون. شيء ليس غير هجوم. لكنه هجوم من أي نوع؟ فردي؟ جماعي؟ انتحاري؟ بالسلاح الأبيض؟ بالبازوكا؟ بالكلاشينكوف؟ وشالوم ينظر إلى ناحيتي المدينة، التي تم تنظيفها، والتي ستنظف، أراد قبل كل شيء أن يراهم، هؤلاء الفلسطينيين. كان يعرف أولئك الذين يأتون للبحث عن خبزهم اليابس في إسرائيل، كان يعرف الأقلية العربية، المزيَّفين، لكن ليس الأصليين، الذين يفضلون الموت من الجوع على أن "الذهاب لكسب بعض الشيكيلات عند العدو"، ولا وجوههم، أيديهم، أذرعهم، نساءهم أو أطفالهم. في تلك اللحظة، وصل نباح قصير من مستودع في مخيم دولشه فيتا، تبعه انفجار طنان، بُمْ بادابُمْ. أخذ كل الجنود الحاضرين يطلقون كالمعتوهين، وهم يبدون أنهم لم يعد باستطاعتهم أن يتوقفوا لو لم يأمرهم شالوم بوقف إطلاق النار فورًا. - عصابة ساقطين! صاح. من اللازم أولاً التأكد مما وقع: النباح القصير، من الواضح أنه كلب جعلوه يخرس بوحشية، أما الشيء الصائت، بُمْ بادابُمْ، فهل هو حقًا قنبلة؟ عيار ناري؟ ضربة بالسيف، ولو أني أشك في ضربة بالسيف تعمل صوتًا كهذا؟ ضربة ش-ي-ء م-ا عمل بُمْ بادابُمْ؟ وضد من؟ ألقى خوليو نظرة قلقة على الشوارع الضيقة الخالية دومًا لمخيم دولشه فيتا، وهدوء مهدِّد يدب من كل ناحية، فاجتاح قلبه الخوف من الهجوم عليهم في أية لحظة. تصور نفسه في جزيرة محاطة بآلاف العيون السوداء من كل نوع، من أسماك خطيرة مستعدة للقفز. إذن لم تكن عملية تنظيف بسيطة، هدفها معاقبة الإرهابيين، كانت حربًا، حربًا حقيقية، قالها هو نفسه، من الممكن أن يُذبح فيها مثل كلب. عندما كان جده في مدريد، لم يكن يريد ترك إسبانيا. كان يقول لزوجته، نصيرة متحمسة لإسرائيل الكبرى، إن بلد اللبن والعسل هذا الذي يَدَّعون بناءه، سيكون مقبرتهم أو جيتوهم، لها شرف الاختيار. في الواقع، فكرة الموت لم تكن تخيفه، لكن فكرة العيش في جيتو أكبر من جيتو مدريد كانت تعذب روحه. هنا، كانوا يهودًا إسبانيين يعيشون فيما بينهم، في إسرائيل، سيكونون يهودًا قادمين من أركان العالم الأربعة. له، الحرية الحقيقية لليهود الإسبان كما لكل الإسبان، كانت موت فرانكو. لكنه كان قد اضطر إلى مغادرة إسبانيا، لأن زوجته كانت تلح على الإقامة في إسرائيل، والمشاركة في الحرب. كان الأوان قد فات، ولم ينجُ بحياته في حرب السويس. ملأت رائحة كريهة المستودع، فألقى خوليو جيفة الكلب من النافذة، التي سدها بعد ذلك بِحَزمة قش.
تدخل إسحاق:
أبوه، أبوه الشيخ شلومو، عندما كان قد ترك الدار البيضاء، كان ذلك بدافع الجبن. كان صديق طفولته، بو بكري، يضربه، كلما التقاه في الطريق، ودومًا ما كان يخاف من رؤيته أو اللعب معه. كان ذلك قد دام سنوات وسنوات، حتى بعد أن غَدَوَا بالِغَيْن. إذن، بدافع الجبن، ولأنه لم يكن ليتعود على صفعات أفضل أصدقائه (نعم، كان بو بكري يصفعه أولاً ثم يلعب معه، ولهذا السبب كان أفضل أصدقائه) ولا على إهاناته كل يوم، كان شلومو قد أتى ليقيم في إسرائيل. كان يريد أن يصفع عربًا آخرين لينتقم من المغربي، فلم يصفع بعضهم، قتل بعضهم، وعرف ما هو الجبن الحقيقي. بعد عدة سنوات، عاد ليبكي قرب أحسن أصحابه، الذي استقبله بذراعين مفتوحتين. "لماذا تبكي، شلومو، يا صديقي؟" لم يكن بو بكري قد رآه يبكي أبدًا من قبل، رغم الصفعات التي كان يقذفه بها كل يوم. "أبكي لكل الصفعات التي أعطيتني إياها دون أن أذرف أقل دمعة!" "لكنها كانت صفعات هكذا، لم أكن جادًا، شلومو، يا صديقي، وهذا، أنت تعرفه جيدًا." "لا، لم أكن أعرفه، بو بكري، يا صديقي، أحلف على رأس المرحومة أمي أنني لم أكن أعرفه." "كان ذلك بدافع العادة، لا غير." شلومو، هو، أبو إسحاق الشيخ، لم يعتد أبدًا على ذلك. إذن الشيء في الدم. يعرف إسحاق، بوصفه جنديًا، أن الثمن سيكون غاليًا، مع فارق بسيط: روبن، لم يكن أفضل أصدقائه، والجبن لم يكن إحدى خِصاله. لم يستطع شالوم الانتظار أكثر، سمع عيارين ناريين، ثم هذا الهدوء المهدِّد الذي يخيم، والذي يَتْخَن بالتدريج. الكابورال سيمون ورفاقه في ضيق، فطلب من الليوتنانت عزرا أن يعد وَحدة هجوم من جنودٍ عشرين، وانطلقوا كلهم في نفس الزقاق الضيق الطيني. لم تقدر الحرارة الساحقة لشتاء لا كغيره تجفيف الأوساخ التي تقذفها البالوعات بتواصل، فتخبطوا فيها، هم كذلك، العرق على الجباه، والإصبع على الزناد. على رؤية الجثتين، أشار شالوم إليهم بالتوقف. ذهب وحدهُ إلى لقاء أول الفلسطينيين القتِيلِين، بلا وجه. بنت في الخامسة من العمر ممددة جنب قطها الصغير. طفلة وقط صغير أبيض! دار رأسه. بداية غثيان. توجه بشتائمة إلى الله، إلى نفسه، إلى العالم أجمع. سارع الليوتنانت عزرا إلى اللحاق به، نظر إلى البُنَيْتَة بعين الحذر، وأدار بقدمه القط كما لو كان يريد التأكد من أنه قط فعلاً. لم تخفف الأبواب المغلقة والزقاق الغارق في السكون من الريبة ولا من الخشية. اقترب من باب مع فكرة أن يحطمه بضربة من قدمه، وأن يخرج كل من يختبئ خلفه، لكن رشقة من الطلقات، من المستودع، أوقفته فجأة. وبينما استعدت الوَحدة للرد، عرف الليوتنانت عزرا أن هذه الطلقات الهالكة، من صفيرها، طلقات عوزي.
دفع روبن حَزمة القش، وظهر بنصفه الأعلى في إطار النافذة.
لم يتابع شالوم. كان واقفًا، هناك، مسمرًا في موضعه، كتمثال، أمام الكلب الذبيح. كلب آخر أبتر، في الدم، يقف أمامه مجمدًا، برز في ذاكرته. أَنَّ في رأسه، فسقط في سواد مطلق، وحوله ظلال تتحرك. لم يميز شالوم أيًا منها. انتظر أن تفيض الذكريات، لكن لا شيء، عدا هذا النباح القصير الذي ينفجر في رأسه. رغب في التقيؤ. وكما فعل الليوتنانت عزرا للقط الصغير، أدار الكلب بقدمه.
ساطه الغثيان، فتناول يد روبن لئلا يقع، وَمَرَّ من النافذة، بينما يوزع الليوتنانت عزرا الأوامر على وَحدته: ابقوا في الخارج، واحموا ظهوركم جيدًا، نحن لا نعلم من أين يخرج الإرهابيون، فحاذروا! حتى نملة يمكنها خيانتكم.
قال شالوم شيئًا مثل بُمْ و بُمْ، وانتشر أنين الكلب الذبيح على انتشاره في رأسه، وهذه الظلال، هذه الأشباح تتحرك وتدور حوله. رغب في التقيؤ بشكل مرعب، بينما فحص الليوتنانت عزرا المواد المتفجرة وأدوات الفبركة. افْتَرَضَ، بالنظر إلى كمية هذه المواد، أن عدة قنابل تمت فبركتها، وقال إنه لم يجدها في المستودع. أكد الليوتنانت عزرا أنها مخبأة في الأكواخ، وطلب من قائده السماح بتمشيط المخيم حالاً. مُخَدَّرًا بأثر ذلك النباح، ذلك الأنين، تلك الذكرى السوداء، لم يرفض شالوم. كان هذا الجسد الذي بِلا وجه للطفلة القتيلة، هذا الجسد الباحث عن وجهه بين آلاف الظلال الطافية في رأسه. إنه سيمون الذي قال "لا" بدله، ليست اللحظة مناسبة لتمشيط، ستقع اشتباكات. بعد موت البنت الصغيرة، لن يسكت سكان المخيم. وراح يبكي، ويقول إن كل شيء من غلطته. راح ينادي شذى، راح يقول: "شذى، أنا مشتاق إليك! شذى، اسمحي لي على كل ما فعلته لك!"
لم يمتنع إسحاق عن صفعه، فأبعد الليوتنانت عزرا روبن، ليتفادى عراكًا لا مجديًا. في تلك اللحظة، فكر الكل في مصيره. كانت لهم كلهم هيئة ضائعة. في أحد الأيام، كان جَدَّا الليوتنانت عزرا قد وجدا نفسيهما محاصرين بالعربات المصفحة، قوة رهيبة، وكانت وارسو تئن. لينفذ بجلده، كان بولندي قد باعهما للألمان، "مقاوم" مثلهم، فأُعْدِما. حتى الحجارة كانت قد ذرفت الدموع عليهم. كان الدرس الذي تعلماه، والدا الليوتنانت عزرا من والديهما، أن يصبحا الأقوى، وألا يثقا بأحد بعد اليوم. لكن... من جيل إلى جيل، نسي القضية النبيلة لجديه. وكما يتنبأ به هذا الكلام الجسيم: يغدو المضطهَدون مضطهِدين، عندما يصبحون الأقوى. وهو يتقدم نحو مخيم دولشه فيتا، مُدَرَّعًا بكل أسلحة العالم، رفع الليوتنانت عزرا رأسه عاليًا، عاليًا جدًا، وهو بهذا يُبدي قوته، بسالته، وبأسه. انتظر أن يقول الناس عنه: "انظروا إليه! محتلٌ هو، وهو جدير بذلك!" انقض على بيوت الصفيح التي تتهدم مع عبوره، وأطلق عن كَثَبٍ، والرجال، والنساء، والأطفال، والحيوانات، كلها تهرب من أمامه. بكوا موتاهم، وبكوا على مصيرهم، وشبان بينهم لم يهربوا، انقضوا مع قنابلهم الحِرَفِيَّة على العربات المصفحة، وفجروا أنفسهم معها، فالبسطاء يعرفون المقاومة، يفعلون كما يقدرون، لكنهم يعرفون المقاومة، ليس لأنهم ضعفاء هم حمقى. "نحن محتلون، يلعن دين! يقولون باسم كل هؤلاء الجنود العجيب والغريب أمرهم. نحن جنود لا كغيرنا، برابرة! ننتمي إلى عصركم رغم ذلك، دونما حاجة إلى فم يندد بنا. نحن لا نقوم بهجوم مضاد، لأننا محتلون، نحن نعتدي، نحن لا نمشط، نحن ندمر، نحن لا ندافع عن أنفسنا، نحن نهاجم، نحن نهاجم ونهاجم، لأننا الأقوى، يلعن دين! نحن أرباب الحرب! لا نثق إلا بأسلحتنا وبغرائزنا. قانون حمورابي، نحن لا نعرفه. لم نعد ضحايا. نحن مذنبون. نعم، نحن مذنبون، محتلون، فلنقلها: م-س-ت-ع-م-ر-و-ن، ونحن فخورون بذلك. لن تتوسلوا لنا إذن لنحرركم. دافعوا عن أنفسكم!" ليجيبوا على التحدي بالتحدي، ألقى سكان مخيم دولشه فيتا القنابل الحِرَفِيَّة، كوكتيلات المولوتوف، الحجارة، ضربوا بالأسلحة البيضاء، بالأغصان، أطلقوا من بنادق الصيد. والأمهات يبكين، والآباء يبكون، والأطفال يبكون، أولئك الصغار الذين لم يعرفوا بعد لغة الحجارة. عند نهاية التمشيط، أو التنظيف، كما يشاء تساهل، جاء موشيه، ذلك المقاول الوحشيّ، ليجمع بالقوة دم التعساء الضحايا. قتل لأجل هذا، لأننا في حاجة إلى دم لأجل الجرحى الفلسطينيين والمرضى في مستشفيات العالم أجمع! جمع حتى دم القتلى. أطلق سيمون رصاصة في رأسه، وشالوم رصاصة في رأس موشيه.
الفصل الثامن
غادر شالوم مخيم دولشه فيتا ليذهب إلى مقر أركان الحرب في تل أبيب. أخطره الاستدعاء الرسمي الذي استلمه بترك كل شيء بين يدي الليوتنانت عزرا، وبأخذ الطائرة المروحية حالاً. وهو بانتطار استقباله من طرف الجنرال دافيدسون، علم شالوم أن وَحدة خاصة ضد-إرهابية لتساهل قد اغتالت سفير إسرائيل في لندن. هذا ما قيل بصوت عال في ممرات البناية الضخمة للقيادة العامة، وليس من الخطر في شيء أن يعرفه الصحفيون الغربيون "المخلصون"، فهم سيلزمون الصمت –سيُدفع لهم كالعادة- حبًا لهذا البلد وحِفظًا لوجوده. بطبيعة الحال، نُسِبَ الحادث إلى فصيل فلسطيني متطرف لم يعد موجودًا. وبدلاً من الصمت أمام دموع زوجة السفير وأبنائه، تلاعب دافيدسون بمشاعرهم: "زوجك، يا مدام، أبوكم، يا صغاري، كونوا مطمئنين، سننتقم له، قال لهم، عديم الذمة. سيصطف كل البلد إلى جانبكم، وردًا على هذا الفعل الإرهابي، سترسل إسرائيل قواتها المسلحة إلى لبنان، لدك معاقل العصابات الفدائية، وإعادة السلام إلى اللبنانيين. ومن يقل السلام للبنانيين يقل السلام لنا، لك، مدام، لأبنائك الغالين."
بكت ساندرا بين ذراعي شالوم، بكت بغزارة. كان سيمون رخص العود، قال لها. كان يعمل فرقًا بين مذنب وبريء حتى اللحظة التي ضغط فيها على الزناد، دون أن يحرص على النظر جيدًا إلى من كانت ضحيته. سقطت بنت صغيرة ذات سنوات خمس تحت طلقاته مع قط صغير كله بياض، فدق هذا الخطأ ساعة موته. لم تتوقف ساندرا عن البكاء، وليا تسمع بصمت. تكلم عن أثر الكلب الذبيح عليه. ظِلال، قال، أشباح بلا وجوه كانت تدور في رأسه بينما الكلب يئن. كان قد داخ، وقد رغب في التقيؤ دون أن يصل إلى ذلك. كان على أبواب ماضيه، أمام شاشة من الضباب، ضائعًا دومًا، وكان الغثيان يتصاعد. كان يرغب في التقيؤ، لكنه لا يصل إلى ذلك.
ألقت بنفسها، هي كذلك، بين ذراعيه.
ساندرا تبدلت. تتكلم قليلاً، وتفضل أن تبقى وحدها. تحب شالوم أكثر من أي وقت مضى. تعرف أن ليا تحبه بنفس القوة، لكنها لا تستطيع اقتسام رجلها مع أي كائن كان، حنى ولو كانت أختها الكبرى. إذن، خلال اليومين اللذين سيقضيهما الكولونيل معها قبل الذهاب لمهمته الجديدة، لن تتركه لحظة واحدة. لم تذهب ساندرا إلى الجامعة. كان الذهاب إلى الجامعة يذكرها بسيمون. كانت ترى شبحه في كل مكان، في المكتبة، في المختبرات، في قاعات المحاضرات. وهي تتناقش مع أصدقاء آخرين، كانت تسمع صوته، كانت تسمعه يضحك بينما هي تتعذب لذهابه بلا أي أمل في عودته. لم تكن تنسى سيمون إلا عندما يعمل شالوم الحب لها. كانت قبلاته، تحسيساته، أغلى من كل شيء. في الليلة الأولى، قاما بعمل الحب عدة مرات، وحوالي منتصف الليل، ذهبا ليعوما عاريين، فحرارة الشتاء الغير العادي كانت مستمرة، والشاطئ كان خاليًا. وصلتهما أصوات بعيدة من تلفزيون، حرب إسرائيل في لبنان، طبعًا، فغطسا في الماء لئلا يسمعا شيئًا، وتعانقا. في الغد، ساقت ساندرا شالوم إلى يافا، لأكل سمك مشوي على رصيف الملك سليمان. كان مظهر المدينة ينطق بأكثر ما يكون عليه الدنس في أي وقت مضى. بسبب الحرب في لبنان، اختفى الشباب من الشوارع، ذهبوا ليقاتلوا في بيروت. لم تُرَ غير النساء في كل مكان، نساء عاريات تقريبًا، على الأرصفة، على الإعلانات الدعائية العملاقة، في الدكاكين، نساء، نساء ونساء، وبعض بائعي المخدرات الذين كان معظمهم مسنًا، وقليل من الملتحين الشبان الذين يقرأون التلمود، ويعيدون، وهم يمشون، وهم يأخذون الباص، وهم يأكلون ساندويتش فلسطيني، وهم يرتاحون في ظل نخلة. هم، التلموديون، لم يكونوا مرغمين على عمل الخدمة العسكرية أو التجنيد في الجيش، لم يكونوا يُصَلُّون ليكسب الآخرون الحرب، لكن للقدس، ضد بابل، أوه! يافا. مدينة وثنية تصلي وتنتعظ، تعظ وتفتح فخذيها الروسيتين البيضاوين بحثًا عن هَبَّة ريح تائهة آتية من سيبيريا. وهو يمضي بالشاطئ، لاحظ شالوم أنه لم يزل خاليًا اللهم إلا من زوجين، الزوجين العربيين اللذين أرادوا طردهما ذلك اليوم. كل الشاطئ كان لهما. سمع ضحكات المرأة، ورأى الرجل، وهو يضرب رأسًا، كل البحر الأبيض المتوسط كان ملكه. وكما كان الشاطئ خاليًا، كان المقهى. كانت بعض العاهرات هناك، ومكان النادل نادلة قدمت نفسها. ابنة المعلم. إن لم تتوقف الحرب بسرعة، ذهب أبوها، ففي الوقت العصيب، العمر لا أهمية له. هي، لم تبلغ بعد الثامنة عشرة، لكن البنات اللاتي قمن بالخدمة العسكرية ينتظرن أن يحللن محل الأولاد في الأراضي في حالة ما تم إرسالهم إلى لبنان. أبدت دهشتها لكون شالوم لم يزل هنا.
شذى! دق قلب شالوم بقوة شديدة. شقراء –ربما باروكة؟- أديمها أسمر، وعيناها سوداوان، عينا مها، تشبه شذى على أصغر، حيته بيدها.
احتارت ساندرا وشالوم، وهما يسمعان مثل هذا الكلام، من فم فتاة لم تزل بعد صغيرة جدًا. انقطعت شهيتهما، ومع ذلك طلبا تشكيلة كبيرة من السمك المشوي مع قنينة نبيذ كاشير. ربما وهما يأكلان سيهضمان الحقيقة الفظيعة، حقيقة الاغتراب المروع للإنسان. ابتسمت أخت شذى لشالوم، ابتسم شالوم لها، نظرت ساندرا إلى العاهرة الصغيرة، وابتسمت كذلك.
بعد عشرين دقيقة، اقتربت شادية منهما، وهي تعرض دائمًا ابتسامتها البريئة. توجهت إلى شالوم بالكلام، وهي ترمي ساندرا بنظرة من طرف عينها:
عادت إلى موقعها، وهي تواصل التبسم لهما.
داخ فجأة، وأَنَّ الكلب الذبيح في رأسه، ودارت الأشباح التي لا وجوه لها حوله.
كان شالوم بصدد الإغماء. قال إنه يتوجع، يتوجع كثيرًا في رأسه. نادت ساندرا شادية والعاهرات الأخريات لنجدته، فحملنه إلى الغرفة الصغيرة لشادية التي قالت إن لديه حمى، وإن عليها أن تطلب طبيبًا. بعد أن شرب شالوم كأس ليمونادة، قال إنه لم يعد يحس بالوجع في رأسه، إنه يريد الذهاب مع ساندرا. كانت حقيبة كبيرة تحتل الغرفة الصغيرة، فكاد يسقط فوقها. فتحتها شادية، فبدت فساتين شذى، مجوهراتها، ملابسها الداخلية، سجادتها، قرآنها، صورها، مأطوراتها، حقائب يدها، أحذيتها، أقلام حمرتها...
ابتسامة آسرة بشكل عجيب.
الفصل التاسع
خلت الطريق المؤدية إلى مدينة نابلس، مركز الضفة الغربية، من السيارات، أو شبه خلت، وانطلقت عربة الجيب التي يركب فيها شالوم بأقصى سرعة. رافقته امرأة فاتنة في اللباس العسكري، الليوتنانت مردوخ كلارا، المسئولة عن بسيكولوجيا العدو منذ عدة سنوات. لزمت كلارا الصمت، كذلك شالوم. نظر كلاهما حولهما، ولم يريا سوى اليَباب ممتدًا من السهول إلى الجبال، وفي السهول والجبال قوافلٌ توارت، وجيوشٌُ، ومدن. كانت الحرارة لا تطاق، فتنفس الكولونيل الصُّعَداء، وقال لنفسه: إذن هذه هي "الأراضي"، إذن هذه هي أرض الميعاد: حجارة، رمل، وهضاب جرداء. في الواقع، يوجد القسم الأخضر من فلسطين في إسرائيل. هنا، لا غير سوى الشمس، شمس شديدة، جهنم تحرق كل شيء. على أبواب نابلس، فتحت مدام الليوتنانت مردوخ فمها الجميل، لأول مرة منذ تركهم تل أبيب.
نقطة استراتيجية احتلها أناس آتون من زمن آخر للسيطرة على القرويين، لمحاصرتهم، وجعل حياتهم أسوأ من الحياة في الجحيم. مستوطنون كهؤلاء، لم يكن هناك أكثر من مائة، ولم تكن إلا البداية. مما يساهم في محو الخط الأخضر، وكل هوية فلسطينية.
أخذ السائق أول منعطف، وبدأ صعوده. بعد عدة دقائق، توقف خلف صخرة كبيرة، وفتحوا كلهم عيونهم، حتى شالوم، دون أن يعلم ما يتعلق بِمَ. نظرت الليوتنانت مردوخ إلى ساعتها.
نزل من البؤرة الاستيطانية ملتحٍ في الأربعين، في رداء أسود، وقَلَنْسَوة على الرأس، التوراة بيد، والمسدس بيد. تدحرج عشرة أمتار أو خمسة عشر، ثم ركع على الحجارة. تناول أحدها، فتح كتابه المقدس، وأخذ يتلو بصوت عال. من الناحية الأخرى للتل، كان أحدهم يتلو آيات قرآنية: عربي شيخ ذو وجه متجعد. اختلط الصوتان، فلم يعد شالوم يميز بين العبرية والعربية. مضت بضع دقائق لما أخذ المستوطن فجأة يضرب بالحجر جبينه مرددًا: "أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي!" والعربي من الناحية الثانية يعمل بقدر ما يعمل.
"أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي..." واصل الآخر، وهو يضرب بالحجر جبينه.
وطرده. وهم يعودون إلى أخذ الطريق إلى نابلس، انفرجت الشفتان اللحيمتان لليوتنانت مردوخ.
بدت حواجز الجيش الأولى، وللحيلولة دون أية تجاوزات بسبب حرب إسرائيل في لبنان، ضُرِبَ الحصار على "الأراضي"، وتم عزل الضفة الغربية عن العالم. انتظر شالوم، وهو يخترق مدينة نابلس، أن يجد نفسه أمام غليان شعبي. لأن السياسة الاستيطانية نجحت في إخضاع اقتصاد "الأراضي" لشهوات الرأسماليين العبريين، فالتجارة تتوقف تمام التوقف على مشيئتهم، مثلما يتوقف العمل على مشيئة الجيش، عن طريق الجنرالات الذين يتمنون "إنعاش" هذا الجزء من العالم. هكذا يجبرون السكان على العمل كعملاء سريين، كمخبرين، أو كعمال على القطعة في "الفروع" الصناعية التي يمتلكونها: قناني كوكا كولا، قناني زيت، قناني خل، علب ملح، علب سكر، علب سردين، علب بندورة، مرتبانات مربى، أكياس قهوة، ألواح شوكلاطة، أقراص أسبرين... كل شيء على القطعة، كل شيء إطلاقًا. نَعُدُّ القطع التي تنتجها، وندفع لك. عشر ساعات عمل، خمس عشرة، أربع وعشرون ساعة، هذا شغلك. نَعُدُّ القطع، وندفع لك. أقل ما يمكن، لكن ندفع لك. الفائض نصدره إلى إسرائيل. هكذا، هؤلاء الجنرالات الأبالسة يعملون على انتفاع الوطن-الأم ببضائع ممتازة، ليست غالية جدًا، وبتفاديه استيراد الإرهاب. لكن في وقت الحصار، تتوقف كل هذه الصناعة المزدهرة للاستهلاك من نفسها، بلا انتظار أمر الحاكم. تتوقف وحدها، كما لو كان ذلك يأتي وحده، فيرتفع التوتر، لا يرتقي درجة، وإنما درجات، عشرات الدرجات، إن لم يكن مئاتها، مراعاةً لِخَطَر النقص الغذائي. لكن لا شيء من هذا... نفس البضاعة المنتجة هنا بسعر زهيد ستستورد من إسرائيل بسعر يتحدى كل نظرية، ثمن فاحش، ومع ذلك يفحشه (يدفعه) الناس، بفضل بيع الدم. يبيع الناس دمهم في نقاط جمع الدم التي أنشئت هنا وهناك، يقبضون قليلاً، ويبيعون كثيرًا، وكل يوم لو يلزم. ليفحشوا ما لا يُفحش، وليستطيعوا قضاء حاجاتهم. كانت فكرة عبقرية بشكل من الأشكال، "دماء بلا حدود"، سَتُبدي إسرائيل للعالم أجمع، بضربها الحصار بعد الحصار على مدن الأراضي، أنها لا تجوع الناس، بل على العكس، تحشوهم، في الوقت الذي تجعلهم فيه وديعين كالحملان. في مخيم عين بيت الماء، يجري بيع الدم الفلسطيني بشكل منظم جدًا. لاحظ شالوم الصف الطويل أمام الخيمة البيضاء الكبيرة المكتوب عليها: "بيعوا قليلاً منكم لخير الإنسانية". ابتهجت الليوتنانت كلارا من النظام السائد، خاصية نادرة عند محتل، من وجهة نظر بسيكولوجية. أخيرًا استطاع شالوم النظر، على هينته، إلى هؤلاء الفلسطينيين. في قطاع غزة، لم يمكنه النظر إليهم كالآن. نظر إليهم، إلى وجوههم الخالية من الجراح، وإلى عيونهم الخالية من الضغناء: ملعونو العصر السعداء هؤلاء، المطرودون من الجنة التي لا يتفضلون حتى بالنظر إليها. كانوا يُبْدون صبرًا وإذعانًا مثاليين. تذكر توسلات ساندرا، "عِدْني، ميمو!" و "قل لي نعم!" وقال لنفسة إن ساندرا تعيش، في نهاية الأمر، بعيدًا عن الحقيقة. لم تكن هناك حرب لخوضها، لم يكن هناك عظم لكسره، لم يكن هناك دم لإراقته، يُرِيق الناس دمهم بأنفسهم.
وقع على وجه متجعد لامرأة عجوز تنظر إليه بين كل تلك الوجوه، فانزعج من تلك النظرة العميقة المتسائلة. أدار رأسه، وعاد يقع على شفتي كلارا التي تمر بلسانها فوقهما.
وأطلقت ضحكة مستفزة.
تكلمت كلارا مع المرأة التي أدارت رأسها، ولم تجب. عادت الليوتنانت.
قبل الدخول في الخيمة، شخصت المرأة العجوز ببصرها إلى شالوم، وتنهدت عميقًا. تبعها الكولونيل، فَعَلا صوت الممرض.
العجوز خرساء فعلاً. ألحت بحركة حادة من رأسها، فزعق الممرض "لا!" من جديد، ونادى جنديًا.
نطقت ببضع كلامات مفرومة، مكسرة، غير مفهومة.
ابتسمت المرأة العجوز لشالوم ابتسامة غريبة، واتجهت إلى كرسي أبيض، دون أن تفارقه بعينيها، فابتعد مغادرًا المكان بعجلة. في الزقاق الضيق لمخيم عين بيت الماء، نادته الليوتنانت كلارا مردوخ.
ابتعدا في الزقاق الطويل: بيوت تنك، لكن بدون مجارٍ تصب كنوزها، بدون براز، بدون طين. مخيم أكثر متانة بقليل من مخيم دولشه فيتا. مع ذلك، أشارت الليوتنانت مردوخ إلى بعض الجرذان. عَزَت وجودها إلى جودة الحياة التي يعيشها السكان. "يأكلون جيدًا"، قالت. معظم سكان الأراضي ينامون دون أكل: تطويق، حصار، عقابات جماعية، عقابات أنا ضدها، شخصيًا. تخضع الأراضي لنا كليًا، اقتصاديًا وبسيكولوجيًا. حتى بدون تطويق، بدون حصار، الناس لا تأكل في المساء. هنا، في المخيم، يأكلون جيدًا، بفضل الفكرة العبقرية "دماء بلا حدود". ليست عبقرية-عبقرية، لكن مَشِّينا. وعلى عكس ما نفكر، توجد الفئران حيث يعيش الناس في بحبوحة، حيث وفرة الطعام لا القذارة. هذا جزء من البسيكولوجيا الغذائية".
أدار شالوم بوجهه إليها، وهو يواصل السير، ونظر إلى مظهرها الجانبي: انفرجت شفتاها اللحيمتان وانغلقتا كدعوة للتقبيل، إلا أنه حدق في ذقنها، الصغيرة والناعمة، التي تتبع حركة الشفتين دونما توقف.
الآن، حَطَّ شالوم بنظره على نهديها الكريمين. كانا يتبعان الإيقاع ذاته لذقنها، وكل حركة جسدها كانت مضبوطة على إيقاع الكلمات التي تلفظها. حتى مشيتها تتبع الإيقاع. كانت كلارا قافلة جنس وجمال.
مرت المرأة العجوز أمامهما، ورمت شالوم بنفس النظرة الغامضة والعميقة، المليئة بالتساؤل.
أخذها من يدها، وسارع إلى تعقب المرأة العجوز التي كانت، من حين إلى آخر، تلتفت إلى الوراء، بنفس النظرة دائمًا. مع الاقتراب من كوخها الحقير، سُمِعَت تراتيلٌ جسيمة لرجال يجلسون على العتبة، ومن البسطة، ندبٌ حاد لنساء يدورون بتابوت، ليس بعيدًا من خُمّ. على مرأى المرأة العجوز، رفع شيوخ ثلاثة أصواتهم: "أنت ملاك في السماء، يا شهيد! أنت طائر في الجنة!"...
دون أن تتوقف المرأة العجوز عن النظر إلى الرجل الذي في لباسه العسكري، أعطت الشيوخ نقودًا، والندابات، وأشخاصًا آخرين. حملوا التابوت، وذهبوا كلهم. كانت شادية بين الحاضرين، بشعرها الأسود، شعرها الحقيقي الأسود، ووجهها الأسمر، حيث اختفت كل ابتسامة. عَكَسَ شعرها حزنًا مفعمًا بالكره. لم يتحرك شالوم، كذلك كلارا. ألقت المرأة العجوز نظرتها الداكنة للمرة الأخيرة، وأغلقت الباب. عند هبوط الليل، عاد شالوم إلى المخيم في جيب صغيرة يقودها بنفسه. طلب من كلارا أن تنتظره في العربة، الوقت الذي يذهب فيه للكلام مع المرأة العجوز الغريبة. كان المخيم يغرق في الظلام والهدوء، كما لو كان يغرق في الأبدية، والعدم، والماضي، كما لو كان يغرق في الجحيم. أما شالوم، فكان يبدو معلقًا على هُوَّة الزمن. ما أن دخل البسطة حتى خنقته رائحة الإسمنت المغتسل بالماء التي تنتشر حوله، التي تخترقه. عاد إليه دُوار ذلك اليوم، مع فارق بالغ: كل شيء يدور أمامه لا في رأسه. الكلب الذبيح الذي يئن. ومن فرط ما استنشق رائحة الإسمنت، رأى وجوه الأشباح، وهي تظهر، وأجسادها، وهي تتشكل. رأى الآن أمه، وأخته، وأخويه، وخالته، وابني خالته. رأى نفسه الآن. جاءته المرأة العجوز في نفس الوقت الذي جاءته فيه كل ذكرياته، وشدته بقوة إلى صدرها.
وأخذ كلاهما يبكي مِدرارًا. حاولت أن تقول شيئًا، لكنها ثغثغت. سحبته من ذراعه، وأدخلته في التناكية، وهو يردد "يَمَّا، يَمَّا، يَمَّا، يَمَّا...". أجلسته، أشعلت الفرن لتسخن الشاي، وأحضرت الخبز والزعتر والزيت. حاولت التعبير من جديد، بلا جدوى. أعانها عبد السلام، تبعها، حاول أن يقرأ أفكارها. في بداية الأمر، من مات؟ أخته ياسمين؟ عمته بدرية؟ أحد ولديها، إسماعيل، إسحق؟ أخوه سالم؟ أخوه عزة؟ انفجرت باكية، شدت شعرها، لطمت. إذن، فهو عزة العرب. أخوه الأصغر عزة مات. عاد إلى الجلوس، ويداه على رأسه، مضنى. قامت أمه بفعل كل ما تقدر عليه من جهد لتصف كيف مات عزة. الجيش الإسرائيلي؟ قال عبد السلام. من السهل عليه أن يحزر ذلك. أكدت أمه بهزة من رأسها. لكن كيف؟ من جديد، حاولت الإجابة بينما يقترح عبد السلام تأويلاً. ودفعة واحدة، أفلتت أمه جملة كاملة.
أخذها عبد السلام بين ذراعيه، وكلاهما راح يبكي مِدرارًا.
بعد قليل، هدأ رُوعُهُما. مسحت أمه دموعها، ومسح دموعه. ابتسمت له:
صبت له الشاي، ودهن قطعة خبز كبيرة بالزيت والزعتر.
حركة في البسطة، فسارع عبد السلام نحو النافذة، وشادية تهرب ناظرة إلى الوراء عدة مرات.
شرب كأس شايه دفعة واحدة، وبلع خبزته بلقمتين، وفجأة أحس بنفسه مصعوقًا بتوعك غير متوقع. لم يعد الدُّوار، ولا الغثيان. اشتعل جسده كالجمر، ولعنف ارتعاشه، سقط على كرسيه.
التهمته حمى شديدة، ارتعد، اصطكت أسنانه، قال من اللازم إبلاغ الليوتنانت كلارا مردوخ، وطفا في حالةِ مَنْ فَقَدَ وعيه نصفًا. في اليوم التالي، استيقظ عبد السلام في سريره قديمًا، على الساعة الرابعة بعد الظهر تقريبًا. إلى جانبه، لم تزل كلارا تنام، وهي عارية مثله. ذهبت عنه الحمى، واستعاد ذاكرته تمامًا. نهض، وبحث عن أمه في زوايا الكوخ الأربع.
سارَعَ إلى ارتداء ملابسه، وطلب منها أن تفعل مثله.
ضغطت بقوة كبيرة يدي عبد السلام على نهديها الكريمين بِعَظَمَة، ثم على شفتيها اللحيمتين بملوكية، ولعقت أصابعه بشهوانية.
عاد عبد السلام إلى ارتداء ملابسه، وكذلك كلارا.
بما أنه كشف بسرعة أكثر مما يجب مشاعره نحو أمه، حاول تبرير نفسه:
لم يجد سوى هذا كحجة:
إلا أنها لم تشك في شيء. كولونيل في تساهل، ابن عجوز فقيرة خرساء فلسطينية، هذا يتجاوز الإدراك. ليس هذا شيئًا لا يُعقل فقط، ولكن أيضًا لا يخطر ببال. إنه الجنس –من وراء كل بسيكولوجية، أَقَرَّ بذلك- الذي يعميها على مثل هذا الشكل. "لكن دارلنج، طيب دارلنج، كانت ليلة حب جنونية". وقالْ لها زوج، واحد بريتيشمان، وطفلان، الأَحْبِة! مع ذلك، عمل فرقًا بين الحب وفعل الحب. ماثَلَ فعل الحب وفعل الحرب، ورأى أننا نقتل شريكنا بالطلقات كالقبلات. في كلتا الحالتين، يبقى موضوع التعذيب والمتعة، وتنتهي فيهما الأخلاق. في هذا، كل عساكر وسياسيي العالم يتشابهون. وَلْنُشِرْ إلى أن كلارا مردوخ ضابطة في الجيش قبل أن تكون محللة بسيكولوجية أو امرأة. إذن، الديمقراطية الغربية –يمكنه أن يركض في فكره كما يحلو له بما أنه استعاد الآن ذاكرته- أو بالأحرى من يوظفها، السياسيون الغربيون، يعتمدون على ممارسة انتخابية بسيطة: نحن نعطيكم (للناخبين) بعض النقود، وبالمقابل، أنتم تعطوننا أصواتكم. التناوب بين اليسار واليمين، لإدارة رأس المال، يجري حسب قاعدة كم؟ كم بعض النقود هذه يمكنها أن تجعل من الأرقام البيانية للاستهلاك تزداد؟ حيلة حلوة حتى الانتخابات القادمة! عند ذاك، ستدور معركة حب وإغراء بأكملها، تشبه تمام الشبه المعركة التي تدور في سرير الخيانة الزوجية، أو في معسكر هالكين خاضعين للحصار. لهذا هذه الديمقراطية غير المُجْزِيَة متواطئة مع العسكرية، في إسرائيل، في لبنان، في الجزائر، في فرنسا، في أمريكا الشمالية، في أمريكا الجنوبية، في الهند، في الصين، في العالم. كان عبد السلام يعرف مسبقًا أنه بكتمه هويته، "وحده"، لن يمكنه فعل شيء. القادم أوسخ.
كان من الصعب على الضابطين المضي إليها بين العدد الهائل لبائعي الدم، وقبل الوصول إلى رأس هذا الأفعى العجيب الغريب من الجوعى، تضارب مع الفريق الطبي مَنْ رَفَضَ له هذا الفريق بيع المائع اللزج ذي اللون الأحمر، وحطم القناني المليئة بالدم. أصاب الجنود ذعر مفاجئ عنيف، فأطلقوا، وسقط الموتى بالعشرات. دفعوا عبد السلام من ناحية، وكلارا من ناحية، وكلا الاثنين يأمر بوقف المجزرة، عبثًا. لم يسمعهما الجنود، ولم يكن باستطاعة الكولونيل ومساعِدته أن يفعلا غير شيء واحد: تفادي الوقوع تحت الأقدام الممسوسة والدوس. أرعدت السماء، وهطلت الأمطار، فاختلط دم الناس وماء السماء. مشهد بمثل هذا الهول هو في نفس الوقت لحظة كبرى للحقيقة البسيكولوجية، قالت الليوتنانت المحللة النفسية كلارا في طويتها. وكلارا الأخرى، المرأة التي فيها، صرخت بكل قوتها: "هذا لا يهمنا، ليوتنانت مردوخ! هذا لا يهمنا! هذا لا يهمنا! هذا لا يهمنا! ه-ذ-ا ل-ا ي-ه-م-ن-ا! يجب إنقاذ كل هؤلاء البؤساء، يجب الحفاظ على حياتهم، يجب... يجب..." لم تعد تضبط نفسها، انفجرت منتحبة. مع عودة الهدوء، وتوقف الأمواج الحمراء عن الزمجرة، تقدمت من كولونيلها الذي يرقد بين الجثث. كان يضم المرأة العجوز إلى صدره، ولا يجرؤ على البكاء. أبدى لكلارا أُمَّ الآخر، أم عبد السلام، لِتُثْبِتَ كلارا وفاتها، لكنه ابتسم بغرابة. أعاد عبد السلام وضعها على الأرض، ونهض، رازحًا تحت ثقل هذه المصيبة الجديدة. في الخارج، عصفت الريح بقوة، وعاد الشتاء. انتهت الأيام المشمسة، انتهت السعادة العابرة. طارد الجنودُ "المذنبين"، نسفوا التناكيات أو هدموها بالجرافات. لم يكن كولونيلهم قادرًا على مواجهتهم، تركهم يفعلون، وهو يفكر فجأة في بطرس الأحمر الذي سلمه أبو أرز للجيش الإسرائيلي. هل هو ميت أم حي؟ كيف العمل لمعرفة ذلك؟ وإن كان حيًا، فكيف العمل للعثور عليه؟ كل شيء ينهار من حوله. أحس بالضياع. احتاج إلى صحبة صاحبة. استطاعت الليوتنانت مردوخ منع إبادة المخيم بفارق قليل. كانت مقتنعة أن بؤسنا الحقيقي هو بؤسنا الداخلي، الذي نسببه بأنفسنا نحن، من وجهة نظر بسيكولوجية، الآن لا. الآن، ليس في رأسها غير الصراع ضد ازدراء الإنسان، هذا الازدراء الذي وجود هذا المخيم هو المظهر، وكذلك وجود كل مخيمات اللاجئين منذ 48. على طريق العودة إلى تل أبيب، صعد عبد السلام حتى قمة الهضبة حيث كانت البؤرة الاستيطانية مزروعة. أراد التأكد من أن العربي كاليهودي لم يزالا على موقفهما، وأن الدم لا يسيل لا من ناحية ولا من أخرى، بانتظار اختفاء هذا الجسد غير الضروري. رَكَنَ سيارة الجيب الصغيرة التي يقودها بنفسه وراء الصخرة الكبيرة، واتجه نحو الصوتين اللذين يرتلان آياتهما بتساوق، ليشكلا ترتيلاً واحدًا غير مفهوم. بعد ذلك بقليل، في الشتاء كما في الصيف، في القيظ كما في القر، أخذ المستوطن يردد: "أرض ميعادي، أرض ميعادي، أرض ميعادي، أرض ميعادي..."، وهو يضرب جبهته بحجرين كبيرين يحملهما. فجأة، ضغطهما على صدره، وقرر الرجوع إلى بيته. منعه القروي الشيخ من أخذهما، فسأله عبد السلام:
وارتمى على المستوطن، وهو في الأسود رداء، أسود من الغضب. نجح الآخر في التخلص من قبضته، وصعد التل حاملاً الحجرين الضخمين، فأخذ الشيخ العربي ينادي أولاده. قطعوا على المستوطن الطريق، وأشبعوه بالحجارة ضربًا، دون أن يضطروه إلى إفلات الحجرين الكبيرين.
أراد إطلاق النار على الصغار.
هذا بالضبط ما وقع عندما أصابه حجر في بوزه، فأخذ يطلق على الأولاد بشكل هستيري، والأولاد يختبئون لا ندري أين. أخيرًا قرر المستوطن اللحاق بالبؤرة الاستيطانية بلا الحجرين الضخمين، مما أرضى عبد السلام، فابتسم لَمَّا فجأة شج رأسه حجر صغير.
التفت المستوطن، ونظر إليه بعين الظفر، كمن يقول له "شُفْْت، ما هي سوى حجارة صغيرة!" ضغط عبد السلام أسنانه، وراح ليختبئ خلف الصخرة الضخمة. نظر من حوله ليتأكد من أن لا أحد يراه، وأفلت صياحًا كبيرًا، وهو يضغط على المكان الذي أصابه الحجر.
ثم سكت، ألقى نظرة قلقة من فوق الصخرة، وعاد إلى الصراخ. عاد يرى النظرة المجنونة للمستوطن تحت مطر الحجارة التي ترشقه بها الأيدي الصغيرة الشيطانية بكل المهارة وكل الشجاعة، وأخذ يضحك، ومن جديد يصرخ، ثم يضحك، ثم يصرخ، ثم يضحك، بلا نهاية.
الفصل العاشر
اكتظت شوارع تل أبيب بالمتظاهرين ضد مذابح مخيمي صبرا وشاتيلا، مئات آلاف الناس، نصف مليون ربما، وهم يدينون عملية الجيش الإسرائيلي في لبنان، متهمين إياه بالتواطؤ، وحتى بالمشاركة المباشرة في الجرائم التي ارتكبها الكتائب. طالبوا بعودة الجنود إلى بيوتهم، وببدء المفاوضات مع كل جيرانهم لإقامة السلام بلا إرجاء. كانت حركة "السلام الآن" في رأس الموكب، وليا وساندرا تقودان المسيرة. نددت بعض اللافتات بالتجاوزات التي ارتُكبت في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، والسماء الداكنة بالغيم تراقب من فوق عبور الذين هزت الحرب ضمائرهم. بدت على اتفاق معهم، لأنها منعت المطر من الهطول، وَعَبَّر البحر عن دعمه على طريقته، وهديره يغطي هديرهم. ارتفعت أمواجه من الأعماق الزرقاء، وانسحقت بالزَّبَد على الشاطئ المهجور. هبت ريح جليدية من لبنان، وكنست المدينة. مَتْرَسَ الجنود شارع بروفيدنس (العناية الإلهية) من كل ناحية، ليس لأن الأفواه التي تصرخ غضبها وسخطها تتجه نحو مقر القيادة العامة، لكن بسبب الزيارة السرية لشخصية "ليست كالآخرين".
غادر مكتبه تحت الابتسامات المنحرفة لسكرتيرتيه، جولدا وأولجا.
قطع دافيدسون الممر، ومن ورائه جوردان وشالوم يتبعان، للأول وجه هادئ، وللثاني وجه حائر. على عكس الآخرين الذين يخفون الحقيقة، جاء شالوم ليرفع تقريره لرئيس القيادة العامة عما جرى في مخيم عين بيت الماء، وها هو مجروف في متاهات كل هذا اللغز. "أخذ أمه بين ذراعيه دون أن يذرف أقل دمعة! قال جوردان لدافيدسون. مع ذلك، من الغريب ألا يستعيد ذاكرته الهالكة! ألا تجد ذلك، عمو دافيد؟" فقررا أن يخضعاه لامتحان جديد، بمواجهة هذه الشخصية التي ليست كالآخرين. وهم عند نهاية الممر، أخذوا مصعدًا صغيرًا فتحه الجنرال بمفتاح صغير. في الطابق التحت الأرضي الثالث، تابعوا السهم "جناح التمريض"، جناح تحت الحراسة المشددة لحوالي ضباط عشرة وجنود. تحولت قاعة الانتظار إلى صالون فخم، لكن الشخصية الغامضة لم تكن هناك. ألصق دافيدسون ابتسامة كبيرة على شفتيه، ودفع باب قاعة الاستشارات. تقدم بخطوات سريعة من الشخصية التي ليست كالآخرين، والتي تخفيها القامة الضخمة لرئيس القيادة العامة، فلم يرها عبد السلام إلا عندما انحنى هذا الأخير ليقبل يدها. أبو الدميم! قُلُنْسُوَة على الرأس، وهو في لباس الحاخام. لم يصدق كولونيل تساهل المتنكر عينيه، لا ولم يصدق أذنيه، عند سماعه دافيدسون، وهو يهمس بتبجيل "رباني، معلمي!" قام جوردان بعمل الشيء نفسه، "رباني!"، عبد السلام كذلك، وهو يتفادى نظرته، بينما أخذت الأرض تتزلزل تحت قدميه. رباني! ظن أنه يسمعه يقول "أهلاً وسهلاً، سلام سلم"!
لم يكن أبو الدميم مبسوطًا.
وفي طويته، لم يتوقف عن ترديد: "أوه! ابن الأَحْبِه! أوه! ابن الأَحْبِه! أوه! ابن الأَحْبِه! أوه! ابن الأَحْبِه... إنه لمن "الحداءة" بكثير التخلص مني على مثل هذه السهولة."
وهو أكثر ما يكون عليه هدوءًا:
أضاف دون أن يصحح نفسه:
ثم:
تراشق الجنرال وكولونيله بالنظرات: المعجزة وقعت، الصدمة حصلت.
ثم وهو يخفض صوته:
ثم لجوردان:
"نعم، ابن الأَحْبِه!" لكن عبد السلام احتفظ بهذا لنفسه.
ثم محاكيًا بسخرية دافيدسون:
"ابن الأَحْبِه! ابن الأَحْبِه! ابن الأَحْبِه! ابن الأَحْبِه! ابن الأَحْبِه! ردد عبد السلام لنفسه دون توقف. ابن الأَحْبِه! ابن الأَحْبِه! ابن الأَحْبِه..." هو، يحلم بشيء آخر، بحل يرضي الكل. أغمض عينيه، وفكر في خطة تحل كل المشكل، في خطة سلام، وستكون خطة س-ل-ا-م-ه.
عندما عاد عبد السلام إلى نفسه، قال إن كل هذا عبث، كل هذا زيغ. كان دافيدسون الإثبات الحي لهذا الزيغ، كأبي الدميم. كبرا، وترعرعا مع الشعار الكارثي "إسرائيل، من الفرات إلى النيل". تغذى دمهما من نفس القوت الذي يغذي هذا الحُلم العتهي: الإبادة، التوسع، الإذلال، العسكرة، نفي الآخر، الإرهاب الدائم، والشعبان الضحيتان يدفعان الثمن، جوردي! ليس دافيدسون، ليس أبو الدميم، وحدهما المالكان لعدن!
كالحاخام منذ قليل، أخلى التقزز المكان للاهتمام، لدى الجنرال.
ونهض.
في الطابق الأرضي، كانت البركة تحت الحراسة المشددة. ما أن اخترقها أبو الدميم حتى عملت له جولدا وأولجا "كوكو" بيديهما من بعيد، ولم تتأخرا على التقدم عومًا، وهما عاريتان تمامًا، لتعرياه، ولتدخلاه في الماء.
وللمخلوقتين الجميلتين:
الفصل الحادي عشر
إذن، ليست المكيدة ابنة اليوم، قال عبد السلام لنفسه. إنها إستراتيجية مكيافيلية استخدمت منذ سنوات طويلة، يلعب دافيدسون فيها دور العسكري القابل للرثاء والعديم الذمة ذي المطامح السرية. ماذا يستطيع عبد السلام أن يفعل؟ استرجع الذاكرة، لكن تريده الذاكرة أن يكون مثقلاً بتبكيت الضمير وبالعجز، بالآلام وبالغضب على نفسه. تاريخ الإنسان لا يُختصر بثلاثة أسطر يمحوها التاريخ، أبدًا لا يُختصر. إنه تاريخ كل هذه الأحاسيس التي تنبثق ثانية من كل الأنحاء، والتي تصنع الذاكرة. هذا يخص كل الذين أحببناهم أو كرهناهم، كل الذين سنحبهم أو سنكرههم. ولخير كل الذين نحبهم، لا يمكننا إلا أن نقاتل التمويه، الحيلة، التآمر، وكل تلاعب آخر خليق بالشياطين. لكن كيف؟ كيف نقاتلها وهي تملأ ذاكرتنا بالخداع، بالمؤامرات، بالمجازر، بالرعب، بالبؤس، باللامبالاة، فتحرمنا من سخونة هذه الذاكرة، من سرها، من عظمتها، ومن لحظاتها الأكثر رقة؟ قدر عبد السلام أشبه بقدر هاملت، حب مجهض، حقد، نفس الحقد الذي يقاتله، عدالة مرجأة. ربما سيفعل ابنه شيئًا، حفيده، ابن حفيده. هو، سيمثل دور المصاب بالنسيان حتى النهاية. هكذا هي المكيدة السرية التي تفرض على الكل ألا يكونوا سوى دولاب في ماكينة عملاقة. لكنه يعي أن المستقبل سيكون شيئًا آخر، طالما كانت هناك ساندرا، طالما كانت هناك ليا، طالما كانت هناك ياسمين، طالما كانت هناك فريدة، طالما كانت هناك نادين، طالما كانت هناك أغنيتا، طالما كانت هناك بدرية، طالما كانت هناك كلارا. عاد إلى البيت عاقدًا العزم على الزواج من ساندرا، فوجد نفسه أمام شادية، الجالسة في الصالون، إلى جانب حقيبة كبيرة، تلك التي رآها في ذلك اليوم، حين وعكته.
تخلصت، واستقامت في وضع الهجوم، كالمصارعة.
في تلك اللحظة، عادت ليا إلى البيت. اقتربت بحذر، و "شالوم" يتكلم اللغة التي من المفترض أنه نسيها. بقيت في انفراج الباب تسمع، وهي تحبس أنفاسها.
لكنها لم تشأ فهم شيء.
تمالكت ليا نفسها عن البكاء، فليس الوقت لإفساد كل شيء، قالت لنفسها.
تركها، وسأل بسطوة:
أخذ نفسًا عميقًا، واتجه نحو الباب في الوقت الذي تهرب فيه ليا خارج المنزل.
تردد عبد السلام، وهو في الصالون. واحدة مثل شادية، مُرَوَّضَة ضد كل العالم، بمثل هذا الحقد، وهذا العمى، تُمثل خطرًا "لأسرته". يجب ألا تبقى تحت هذا السقف. قرر طردها، ولتفكر ساندرا ما أرادت في هذه اللفتة اللاصداقية نحو "مَحْمِيَّتِهَا"! دفعت ليا الباب الرئيسي، وهي تتظاهر بالوصول لتوها. خرجت شادية من غرفة عبد السلام، واعتمدت بظهرها على الباب، وهي ترى ليا بعين مُغْتَمَّة، دون أن تتحرك.
قامت بخطوتين باتجاه عبد السلام وهي تثبت عينيها في عينيه، وكأنها تريد أن تقول له "تمنيت ألا أعرضك للمتاعب، لكن الأمر أقوى مني!"، ثم عادت إلى الغرفة، وأغلقت الباب بهدوء من ورائها. عند منتصف الليل، وعبد السلام ينام أمام التلفزيون، فتح عينيه فجأة. تذكر كلمات شادية بخصوص موت أختها شذى، موت يجهله أهلها. وتذكر أمه، وهي تصف معاناتهم لموت ابنتهم. هذا يعني أن شادية كانت تكذب. على عكس ما قالت، كان أهلها يعلمون، فهم الذين دفنوا ابنتهم. برقت السماء، وأرعدت، في الوقت الذي ترك فيه عبد السلام مكانه بسرعة إلى غرفته. سقط مطر غزير. لم تكن شادية هناك، وساعة قنبلة موقوتة تعمل تِكْتاك مصمًا أكثر فأكثر. فتح عبد السلام الحقيبة، والتِّكْتاك يغدو مهددًا أكثر. أفرغ الحقيبة من محتوياتها بحثًا عن الجهاز المرعب بينما ترسل السماء من جديد برقها ورعدها. وهذه التِّكْتاكات التي لا تنتهي، وهذه البروق، وهذه الرعود، وهذه الأمطار، طوفان حقيقي. ها هو أخيرًا أمام قدره الرهيب. أوقف الساعة بضع ثوان قبل الانفجار، ولم تعد ساندرا بعد إلى البيت.
كانت ليا تقرأ في سريرها.
ساق عبد السلام تحت المطر مخاطرًا بحياته، مرددًا بلا توقف "آه! يا إلهي! آه! يا إلهي! آه! يا إلهي!" وانفجرت ليا منتحبة.
وصلتهما صفارة رجال المطافئ من بعيد.
تسمرا أمام اللهب الملتهم للبناية حيث تقيم الحركة السلمية، لهب كثير لم تستطع كل أمطار نهاية العالم هذه أن تطفئه.
اخترق عبد السلام الزحام، وهو متحجر كتمثال حقنوه بالحياة، الوقت الذي يتحقق فيه إن كان نحاته بين الضحايا. اكتشف الوجوه التي لم يستطع المطر غسل آثار الدم عنها، الوجه الأول كان وجه شادية، "آه! يا إلهي!"، عاد إلى الهمهمة. الوجه الثاني لم يكن وجه ساندرا. الوجه الثالث لم يكن وجه ساندرا. الوجه الرابع لم يكن وجه ساندرا. كانت كلها ممزقة. هل هذا هو الجيش الذي لا يُقهر؟ هل هذا هو الشعب الذي لا يُمس؟ هل هذه هي الدولة القوية، المجهزة بقنبلة نووية؟ لم يكن أحد في مأمن، في نهاية المطاف، عندما يتعلق الأمر بعمل جنوني، من طرف أو من آخر. ترك عبد السلام وجوه الضحايا، ونظر خلال لحظة إلى وجوه المتجمهرين، وجوه مفعمة بالخوف. لم يعد النير العسكري يُثقل أفكارهم. أخيرًا الإسرائيليون هم أنفسهم، كائنات بشرية. ليسوا فوق بشريين، لكن كائنات بشرية. ارتعدوا من الخوف، ومنهم من بكى. عاد يرى دموع أمه، وكل الذين كانوا يبكون في عين بيت الماء، في دولشه فيتا، في تل الزعتر. أخذ يبكي حتى قبل أن يكتشف الوجه الخامس: وجه ساندرا، وهو يبتسم له رغم الموت.
* * *
بعد عام، انهمك عبد السلام في صفورية بين الحجارة، برفقة زوجته ليا، الحامل في شهرها السابع. أراد أن يعيد بناء القرية الشهيدة بنفسه، وأبناؤه سيواصلون من بعده. أراد أن يحقق هذا الحُلم لأمه، وَلِيا دومًا إلى جانبه. نقلت الحجارة رغم حالتها، فإعادة بناء صفورية حُلمها كذلك. "لوليدي"، قالت. باس عبد السلام بطنها الضخم بوستين، بوسة لها وبوسة للوليد. وكل يوم، كانا يعملان من الشروق إلى الغروب. كانا يتكلمان عن ساندرا من وقت إلى آخر، وهما يشعران بالحزن. لكن حب ليا حَوَّلَ الحزن إلى فرح، ومنح الرغبة في الحياة، في مواصلة الحياة. بفضل هذا الحب على كل شيء أن يتغير، كل شيء سيتغير، كل شيء، كل شيء إطلاقًا، في الرؤوس، في الحجارة، في الأحلام. في صباح أحد الأيام، استيقظ عبد السلام على صوت ترتيل بعيد. نظر، ورأى مستوطن في ما مضي، مَنْ كان يضرب جبينه بحجر على تل قرب نابلس مرددًا دون تعب "أرض ميعادي، أرض ميعادي، أرض ميعادي". فَعَلَ الشيء ذاته. وكل يوم، اقترب قليلاً أكثر: ها هو في الوقت الحاضر على بعد خطوتين من بناء عبد السلام.
ركله عبد السلام ركلة قوية، لكن قوية، قوية جدًا، في مؤخرته، وطرده. هذا الأبله، هذا الجاهل، هذا المُسَيَّر بلا مخ! وَلِيا تراه يهرب كالجرذ انفجرت ضاحكة. منذ الأزمنة السحيقة، فكر عبد السلام وهو يغيب قليلاً عن كل ما يحيط به، الإنسان فكرة نتلاعب بها كما نشاء، لتقع مآسيه، وليدفع ثمن وجوده غاليًا، بالدمع والدم! قيل من الكلام أحكمه، أملاً في إنقاذ الإنسان من نفسه: اغفر، أحبب، لا تسئ، أحبب عدوك! أعاده صوت ليا إلى الواقع. نادته لأول مرة باسمه الحقيقي:
حط عليها نظرة دَهِشَة وسعيدة في آن واحد، "كانت تعلم!" قال لنفسه. ثم أجاب على ابتسامتها بذات الابتسامة.
تمت كتابة القسم الثاني بالفرنسية عام 2000 صدرت الرواية بالفرنسية عند دار لارماطان عام 2003 باريس
أعمال أفنان القاسم 7) كوابيس 2013 41) مدينة الشيطان 2012 42) هنا العالم 2012 43) هاملت 2014
الأعمال السينمائية
44) إرهابيون 2015 45) رعب 2016
الأعمال المسرحية النثرية
69) المشروعان مشروع التنوير ومشروع الدولة 2015
بيروت تل أبيب رواية مُسَارِّيَّة لأحد قياديي المقاومة الفلسطينية، والمُسَارَّة هي الاحتفالات التي تقام لإيقاف عضو جديد على بعض أسرار الديانات القديمة والجمعيات السرية الحديثة، وهي في الرواية أسرار المقاومة الفلسطينية في بيروت التي كانت احتفالاتها مآتم للبنانيين والفلسطينيين. في مخيم تل الزعتر، ينعم عبد السلام بالحرب التي يخوضها، وسيعمل من تدمير بيروت ثروته القادمة، بعد أن تفاوض على حصته مع المقاولين الذين سيعيدون بناء المدينة. لكن حياته تتأرجح ببطء، وهو يواجه ويلات الحرب، بين الجنون الحربي والكحول وفقدان الذاكرة.
بعد وصول رجال الأعمال الإسرائيليين، وهو غائب عن الوعي، يفيق في ثوب كولونيل في الجيش الإسرائيلي، ولفقدانه ذاكرته، عليه أن يتعلم من الحياة كل شيء من جديد. سيتعلم الحب، لأن هناك ساندرا، إسرائيلية من تل أبيب، يهيم بها، ولأن هناك ليا، أختها التي يحبها كذلك. كلتاهما على صورة معضلته، وفي علم المنطق، كلتاهما البرهان ذو الحدين، عندما يُكْرَه الخصم على اختيار واحد من بديلين، كلاهما في غير مصلحته: إحداهما معادية للفلسطينيين، والأخرى مدعمة. أما هو، كولونيل "تساهل"، صاحب الذاكرة العذراء، والذي يحركه رؤساؤه في الجيش الإسرائيلي، فسيلحق به قدره.
ستعود الذاكرة إليه في الأراضي المحتلة، بعد أن يجد أمه التي يقتلها جنوده، ومع ماضيه الآن، يمكنه أن يفكر في مستقبله. عندئذ، يحلم حلمًا رائعًا يصبح سبب حياته: بلدٌ سلميّ يستطيع أطفاله أن يكبروا فيه.
قسم بيروت هو القسم المحذوف من رواية "العصافير لا تموت من الجليد"، المعدل جذريًا ليتناسب مع أحداث القسم الثاني، المحذوف والمكتوب في السبعينات من القرن الماضي، وقسم تل أبيب هو القسم المكتوب بالفرنسية الصادر في باريس سنة 2003 بين دفتي الرواية كاملة، والذي تنشر ترجمته بالعربية لأول مرة.
|