وثيقة التسوية العراقية اجترار للرثاثة الطائفية |
تتسم وثيقة “التسوية الوطنية” التي طرحها التحالف الوطني (الشيعي) في العراق لإنجاز ما سُمي بـ”المصالحة التاريخية”، بالهشاشة والضحالة السياسية وتهافت اللغة كحال غيرها من وثائق وأدبيات العملية السياسية طائفية الطابع. اللغة والاصطلاحات المستخدمة في الوثيقة تعبّر عن رثاثة الخطاب المكوناتي الذي تتعاطاه نخب المحاصصة والأحزاب الدينية وهبوط القدرات الذهنية والانفصال عن الواقع وعدم القدرة على الخروج من مستنقع التطرف والكراهية واجترار التخلف السياسي والعداوة ضد الفرد والمجتمع في العراق. لا يمكن لقوى الكراهية أن تنتج فكرا أو ثقافة أو خطاب مصالحة، ففاقد الشيء لا يعطيه، وأفكار التنوع والتعددية والمواطنة والتماسك الاجتماعي تتناقض جوهريا مع أيديولوجيات هذه الأحزاب، ولذلك جاءت الوثيقة تفتقر للرصانة وتتضمن تعبيرات تلفيقية متهافتة. إنها مجرد محاولة من حزب عمار الحكيم، زعيم التحالف الشيعي، للاستثمار في مرحلة ما بعد داعش ومنافسة حيدر العبادي، الذي يريد تسجيل النصر المفترض باسمه فيما تستعد القوى الميليشياوية الجديدة الصاعدة للاستحواذ على المشهد السياسي. يحاول فريق الحكيم أن يجعل نفسه مظلة للوضع الجديد بعد داعش عبر إصدار هذه الوثيقة التي تعيد إنتاج الطائفية وتكرّس دولة ولاية الفقيه في العراق. وفي الوثيقة تمكن ملاحظة الروح المذهبية الخائفة المرتبكة. ويقولون إن الوثيقة تحظى بـ”إجماع شيعي” وأن الأمم المتحدة تعهدت بتقديم ما سمي “جهة سنية موحدة” للتوقيع على الوثيقة، والواقع أن شيطان الطائفية يكمن في هذه التفاصيل، فالمصالحة لا تحتاج إلى إجماع طائفة أو توحيد مكون، لكنها تحتاج إلى “تضامن وطني” يبرمه العراقيون على أساس الوعي المشترك والمصالح المشتركة والاعتراف المتبادل والتنازلات المتبادلة وإدراك معنى المواطنة لا على أساس الهويات المذهبية أو الإثنية أو التفاهم الهش بين “المكونات”. أول خطوة لبناء إجماع عراقي وتوحيد الموقف الوطني هو التغيير الجذري في اللغة والخطاب والتوقّف عن اجترار الانقسام والتشرذم عبر وثائق التفكيك والخندقة مثل وثيقة التسوية المكوناتية هذه التي تعيد إنتاج الصراع ولا تقدم حلولا للنزيف العراقي. تقول الوثيقة عن نفسها إنها تمثل “رؤية وإرادة قوى التحالف الوطني”، أي أنها تعكس وجهة نظر الطرف الشيعي وهذا أول خلل فيها. فكتابة وثيقة وطنية للمصالحة تتطلب الخروج من الخندق الطائفي وتفكيك التحالفات المذهبية وعلى رأسها “التحالف الوطني” الذي يعد امتدادا للتحالفات الشيعية الطائفية منذ بدء العملية السياسية، وتفكيك تحالف القوى السنية المقابل أيضا، وإنهاء التقابل المكوناتي الذي يؤسس للاحتراب والكراهية. وتتحدث الوثيقة مرة عن “أبناء الدولة ومكوناتها” وثانية عن “طوائف المجتمع وقومياته”، فالعراقيون والعراقيات في وعي الأحزاب السلطوية الطائفية مجرد “مكونات وطوائف” وليسوا موطنين لهم كامل الحقوق والواجبات. ويمنح التحالف الشيعي نفسه حق “النقض” ضد مشاركة أي طرف في التسوية، حيث تقول الوثيقة إن حسم تمثيل أطراف المصالحة يكون “بمشورة ممثلي التحالف الوطني” بمعنى أنه يجعل من نفسه مصدر الشرعية. وهنا نلحظ الذاتية المذهبية المفرطة التي تسيطر على الوعي المنتج للوثيقة والروح الخائفة والشعور بهشاشة الشرعية ومحاولة الاستمرار بالإمساك بأوراق اللعبة بهذه الطريقة البدائية، علما وأن التحالف الشيعي يمكن أن يعزز شرعيته لو أنه كان “عراقيا وطنيا” فعلا ووضع نفسه في مستوى واحد مع كل العراقيين، وأولهم الشيعة الذين يزعم تمثيلهم. ثم كيف يراد منا تصديق هذه الوثيقة في رفضها “استخدام العنف كورقة سياسية” إذا كان الذين أعدوها يقودون ميليشيات ويمنحون أنفسهم حق ارتداء الملابس العسكرية مع العمائم ومزاحمة قادة الجيش رغم أنهم رجال دين أو سياسيون ولا علاقة لهم بالقوات المسلحة؟ لقد أصبح العنف في السياسية العراقية بنيويا وجزءا أصيلا من الممارسة السياسية، وتم زج الجيش والشرطة في أتون اللعبة الطائفية، وصارت المؤسسة العسكرية كغيرها من مؤسسات الدولة أداة في الطائفية توظفها أطراف الصراع كافة كنتيجة حتمية للتأسيس الطائفي للدولة بعد 2003. وتناقض الوثيقة نفسها حين تدعو إلى رفض “الابتزاز السياسي” لكنها تطالب الشركاء بما تسميه “الإشادة” بدور المرجعية الدينية والقوات الأمنية والحشد الشعبي، و”إدانة” سياسات النظام السابق، ومن الواضح أن مصطلحات مثل “إشادة” و”إدانة” تنمّ عن منطق إخضاع وابتزاز وإرغام لا منطق اعتراف وإقناع وإشراك وتأهيل وإدماج. من يريد أن يعترف الآخر بمعاناته عليه أن يعترف هو بمعاناة الآخر ويمد له يده بصدق وعمق ومسؤولية، وهو ما ينبغي أن تقوم به كل أطراف النزاع في العراق تجاه بعضها طوعيا دون استثناء ودون ابتزاز أو مساومة. كما تهيمن على الوثيقة “روح أصولية” قمعية مرعبة ومحاولة حثيثة لإضفاء الطابع الديني على كل مفاصل الدولة وتفاصيل حياة المجتمع، فتتحدث الوثيقة عن “عدم المساس بالمرجعية الدينية والرموز الدينية الأخرى”! ولا نعلم ماذا يُراد من وراء الإمعان في تقديس المرجعية الشيعية وجعلها فوق النقد والمساءلة رغم أنها جزء من الصراع السياسي؟ وتطالب بما تسميه “احترام المعتقدات الدينية والمذهبية.. وحماية العتبات المقدسة وجميع دور العبادة.. وأن يضمن التعليم تعريف العراقيين برموزهم ومعتقداتهم وتراثهم الديني والثقافي”، ما يعكس الهاجس الديني الأصولي الذي يسيطر على العقلية السياسية التي أنتجت الوثيقة. ثمة خشية من سقوط شرعية المحاصصة وولاية الفقيه في العراق بسقوط داعش وانبثاق التطلعات المدنية لدى الجمهور، لذلك تسعى هذه الأحزاب التي أخفقت سياسيا وتنمويا وخدميا ونكّلت بالعراقيين إلى تعويض الشعور المرير بالنقص السياسي والفشل عبر الاتجار بالقضايا الدينية وتأجيج النعرات الهوياتية واللعب على وتر العنصرية وتضليل الرأي العام وتزييف الوعي الاجتماعي وانتهاك عقول العراقيين. |