تجاوز الظاهر الى الجوهر

 

يلاحظ المتتبع، ان وسائل الاعلام والاتصال الجماهيري ومنتديات الفكر والجمعيات الثقافية ومؤسسات قياس الرأي في كل مكان من هذا العالم توشك ان تنشغل بصورة دائمة بقضايا هامشية وبصراعات طارئة دون ان تحاول التوقف ولو للحظة واحدة وقفة تأمل عميق ودراسة موضوعية نافذة امام مجمل المتغيرات العالمية للنفاذ الى اعماقها في محاولة جادة للتعرف الى المرض الحقيقي الذي يعاني منه عالم اليوم. هذا المرض الذي تنبثق منه وتنفجر عنه جميع المشكلات والقضايا والنزاعات الفرعية التي يعاني منها المجتمع الدولي شر معاناة.
وسائل الاعلام في كل مكان تتحدث الآن عن قضايا الطاقة، توطين التقنية ومستلزمات الولوج الى عصر ما بعد المعلوماتية، مديونيات البلدان المدينة، الانفجار المكاني السكاني وازمة توفير الغذاء والسكن، وتتحدث عن المظالم والعدوانات التي تثقل كاهل الشعوب المغلوبة على امرها في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية... وغيرها من القضايا التي تتحدث عنها صباح مساء، لكنها تحاول ولا تحاول تجاوز الظاهر الى الجوهر، ربما، لاختصار الوقت والاقتصاد في الورق والحبر والجهد وتخفيف آلام الصداع الذي يثقل رأس المجتمع البشري ويكتم انفاسه نتيجة التكرار والاصرار على الحديث عن هذه الشؤون والهموم... بصورة توحي بانها من النوع الذي يستعصي على الحل والعلاج. 
والحقيقة ان هذه القضايا جميعاً هي اغراض ظاهرة تنبئ عن مرض خفي يعاني منه المجتمع العالمي المعاصر. 
لا بد ان هناك خللاً ما، في مكان ما، من جسد العالم ورووحه، وعقله، وضميره... والمطلوب هو محاولة البحث عن مكمن الداء وموضع الخلل. ذلك، ان اي حل لاية قضية هامشية او نزاع طارئ في شأن عالمي، لا ينهي الآلام والويلات التي يعاني منها المجتمع الدولي. 
ان مثل هذا الحل الحل يعالج (بثرة) في الجسد ولكنه لا ينفذ الى اعماق الداء الحقيقي، العام، الشامل، الذي يفتك بانسان اليوم. 
مطلوب من ممثلي العقل الانساني والضمير الانساني، ان يتجاوزوا الظواهر، وان يتجهوا الى رصد الاعماق بروح الانسان الذي يلتزم بالمسؤولية ازاء المجتمع البشري كله، بعيداً عن الاقليمية والعرقية والتعصب الديني او الحضاري. وهم لو فعلوا ذلك، فلسوف يتبين لهم ان المجتمع الدولي ليس بحاجة الى اصلاح سياسي، وان الساسة ربما يكونون هم سبب العلة. ولهذا فان علاج المرض الذي يعاني منه عالم اليوم، لن يأتي من اهل السياسة الناعمين في المقاعد الوثيرة في القمم العالمية، وربما يجد هؤلاء الذين يمثلون روح المجتمع العالمي وعقله وضميره، ان المشكلات القائمة على سطح الكرة الارضية، هي تعبير صارخ عن فشل الانظمة التي تحكم العالم، سواء في السياسة ام في الاقتصاد ام في الاجتماع. 
لقد افرزت الاجتهادات الانسانية الحديثة ومشروعات كثيرة لتجنب المجتمع العالمي مخاطر الحروب والمجاعة والامراض والمظالم... فكانت تجربة عصبة الامم، وكانت تجربة منظمة الامم المتحدة، وكانت تجارب اخرى... مثلها على مستوى اقليمي محدود، لكنها فشلت جميعها في تحقيق اهدافها، وظلت قائمة كالاشباح في الليل البشري الطويل دون ان يجرؤ صوت واحد على الاعلان عن فشل هذه المنظمات والمؤسسات، بل ان الدول الكبرى ذات المطامع والمصالح غير المشروعة، شرعت تستثمر ضعف هذه المنظمات العالمية العاطرة وتتخذ منها اداة مسخرة لتمرير مشروعاتها ومصالحها وتبرير غاياتها واهدافها المعادية للانسان. 
- فهل من يتوقف قليلاً امام خريطة العالم الدامية المتهرئة وقفة عقل وضمير؟ 
- هل هناك من يتقدم خطوة واحدة ليقرع جرس الانذار للقوافل البشرية النائمة على سراب التكنولوجيا لعلها تستفيق قبل ان يداهمها الطوفان؟