حياتنا الالكترونية، مرض العصر |
رأيتُه قبالتي جالسًا متأبطًا جهازه "المحمول" أو كما يطيب للبعض تسميته ب"الجوّال" أو "الهاتف الذكيّ"، وكأنَّه حبيبةٌ أو وصيفةٌ يصعب فراقُها. سئمتُ المشهد وشقَّ عليَّ عدمُ اهتمامِه بما كنتُ وددتُ الحديثَ عنه ومناقشتَه معه، بعد أن حَرمتُ نفسي من لقاءٍ آخر عزفتُ عنه نظرًا لاعتقادي بأهميته الدنيا مقارنة بلقاء نديمي. عدتُ إلى نفسي، وقد تذكرتُ صورة شبيهة لما تلمحُهُ عيناي من مشهدٍ يتكرّرُ كلّ يومٍ تقريبًا في منزلي. فجهاز المحمول، قلّما يغيب عن أنامل أفراد العائلة عندي. حتى حفيداي يزعقان ويسعيان بحثًا عن هذه الأجهزة المتناثرة في أرجاء الدار كي يغوصا في أسرارها ويستمتعا بالنقر على أزرار لوحة المفاتيح. وبالرغم من صغر سنّهما الذي كاد يتجاوز السنة بقليل، إلاّ أنّهما يدركان تمامًا أنّ انطفاءَ الجهاز يعني التعمّد بحرمانهما من اللعب بالأزرار التي تشغّل الجهاز بقصد حملهما للعزوف عنها ونسيانها. وربّما المنظرُ ذاتُه، لا تغيبُ أو تختلفُ صورتُه عن غيري، في الشارع أو المنزل أو العمل أو السيارة أو المدرسة. فقد انتشر استخدامُه في كلّ مكان، حيث يمكن أن تجده لدى الكبار والصغار ومن كلا الجنسين بدون استثناء، وتلاحظ استخدامه في أي مكان وأيّ زمان. بل أصبح مدعاةً للتباهي من حيث الشكل واللون والحجم والبرمجة والمواصفات وبأشكالٍ تجارية غزت الأسواق. باختصار الكلام، لم تعد استخدامات الهاتف النقّال في الزمان والمكان مشكلة، بقدر ما أضحت ظاهرة سلبية مجتمعيًا، بسبب الإدمان عليه وانشغال مستخدميه بوسائل اتصالهم المتنوعة الكثيرة التي لم تترك مجالاً للحياة الاجتماعية في الأسرة والعائلة كي تأخذ مداها. وحيث إنَّ لغة الالكترونيات والتكنلوجيا قد سطت على ذهنية الإنسان فجعلته أسيرَ الحياة الالكترونية الحديثة من حيث يدري أو لا يدري، فقد ضعفت بسببها بالتالي، آليةُ التواصل والتفاهم بين أفراد العائلة الواحدة في المنزل، حينما ينشغلُ هؤلاء كلّ بجهازه مستغرقًا ومنكبًّا على هاتفه ينبش ما فيه من برامج وتسالي ورسائل واتصالات تأخذُ بعقلِه ووقته وكلّ فكرِه وكيانه، ولا تبقي للحديث العائلي الودّي مجالاً. بقدرِ ما لا ننكر أهمية الاكتشاف الحديث في حياة البشر المعاصرة الذي قصّر المسافات وقلّلَ الجهود ووفّر الأموال والأتعاب والتنقلات، لكنّ واقع الحال فيه مؤشرات سلبية في استخدامات هذه التقنية الحديثة للاتصالات حينما تخرج عن إطار فائدتها وتغالي في طرق استخدامها والوقت المصروف فيها وما يلحقه ذلك من نتائج غير محمودة في بعض الأحيان. صحيحٌ أنه أصبحَ حاجة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها. بل أصبح رفيقَ الإنسان الدائم، أينما حلّ وارتحل، ينقل الخبر ويقرّب الصورة ويقدّم المعلومة الجديدة وكلَّ ما في نفس الكائن البشريّ من مستجدّات ومتع وانغماسات. بل هناك مَن شبّه هذا الجهاز بالطير الزاجل الذي كانت مهمتُه نقل الرسائل بين الأفراد، بما فيها ما يدخل ضمن ممارسات الأمم والدول والشؤون العسكرية وتحرّكات الجيوش الغازية، وما إلى سواها من أسرار تخصّ حالات السلم والحرب. وهناك مَن يدخل إلى تفاصيل جانبية أخرى تتعلّق بطبيعة الجهاز وتفسير الرؤى والأحلام التي تثقل دماغ الإنسان ليلاً ولا تفارقُه نهارًا. فهذه لها تفاسيرها لدى البعض، وقد يُستخرجُ منها معانٍ ودلالات، أو قد تحيطُها هالات من الخوف أو الفرح أو الحيطة والحذر معًا. وحيث إنّ فوائد الجوّال كثيرة كما أسلفنا، بل يُعدّ نعمة للإنسان حينما تقتضي الحاجة والظرف، من حيث تقريبه للمسافات وتسهيله للاتصالات وتوفيره للجهد والمال والوقت في التنقل غير الضروري، كما أسلفنا، إلاّ أنّ هناك مَن يسيء استخدامه في الكثير من المفردات، ومنها المبالغة بإطالة المكالمة، والإفراط في الاستخدام غير المبرّر، وانتهاك الخصوصيات، والخروج عن اللياقة والآداب العامة في الكثير من الأحيان. أمّا الخروج عن السياق المرسوم ضمن حدود اللياقة في الاستخدام الأمثل، فهو يدخل ضمن نوعٍ جديد من الأمراض التي أصابت المجتمعات البشرية بسبب سوء استخدام التكنلوجيا الحديثة. وما أشدّ الحرج حينما لا يتورع البعض من إبقاء هواتفهم الجوّالة مفتوحة أثناء لقاء عام أو اجتماع أو مؤتمر أو في أثناء الصلاة في الكنيسة أو الجامع أو المعبد أو المدرسة أو المركز الديني أو التعليمي. فتتجّه الأنظار الغاضبة نحو صاحب الرنّة مؤنِّبةً ومعاتبةً دلالةً على عدم الرضا بسبب التشويش على خشوعهم وقطع توجّه أفكارهم وقلوبهم إلى صاحب الأرض والسماء في لحظة شغف متميزة. حتى سوّاق سيارات التاكسي داخل المدن وخارجها، لا يتورعون باستخدام أجهزتهم، بالرغم ممّا قد يحملُه استخدامُها أثناء السوق من مخاطر ومضايقات للركاب أو للمقابل من سالكي الطرق. ولن أتطرّق إلى قائمة الأضرار الأخرى الكثيرة والعديدة التي يمكن لمستخدمي الجوّالات إلحاقَها بأنفسهم وصحتهم أولاً، وبالغير أيضًا، سواءً برصد المكالمات أو تسجيلها أو تصوير لقطات ومحادثات خارج أصول اللياقة والآداب، لاسيّما من دون علم أصحابها. فهذه من أنواع الخيانة التي لا تقلّ شناعة وبذاءةً في الأذى والضرر. وما أتعس المشهد الذي يتكرّر في المجالس العامة حينما يسمح الشخص بتقليب أزرار هاتفه يمنة ويسرة مستعرضًا برامج وصورًا وقوائم في حضرة الجالسين، غيرَ عابئٍ بحرمة المجلس الذي يتواجد فيه ولا بنوعية الحضور وظروفهم والمناسبة التي تجمعهم. فهذا من الأمور التي تقع خارج اللياقة الأدبية وتضع المستخدِمَ المسيءَ في خانة أجواء التندّر والاستهجان والاستخفاف واللوم. فلنرحم أنفسَنا قليلاً ولنرحم غيرَنا كثيرًا باستخدامنا الأمثل للهاتف الذكيّ الذي قدّمته لنا التكنلوجيا الحديثة على طبق من ذهب كي نستمتع به وبالفائدة التي يقدّمها للبشرية، ونتجنب ما يسيءُ إلى أنفسنا وصحتنا وما يمكن أن يزعجَ غيرَنا وأفرادَ أسرنا ومجتمعنا. فالحفاظ على نعمة الرفاهة والمتعة وكلّ ما يجلب السعادة للإنسان من هواءٍ وماءٍ وأدوات وتكنلوجيا، مسألة أدبية وأخلاقية ومجتمعية، على المستخدمِ صونَها قبل أن تنقلبَ عليه وبالاً ووصمة شيطانية وأداةً لأذى النفس والناس على السواء. من هنا، لا ينبغي القبول باحتلال هذا الجهاز "النعمة"، صدارةَ أعمالنا وقوةَ شخصيتنا وديناميكيةَ علاقاتنا الأسرية والاجتماعية وتركيبتنا الإنسانية. فحينها سنتحول إلى عبيدٍ بطالين كسالى، وعبدة آلة خُلقت للتفاعل الإيجابي والتواصل الودّي من أجل استقصاء المعلومة حين الضرورة لخدمة الإنسان وتمجيد الله في خلقه المبدعين. |