البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق (1958-1959) |
عرض كتاب: البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق (1958-1959) تأليف: د. ضرغام الدباغ عرض: حسين سرمك حسن إصدار: دار ضفاف للطباعة والنشر يمكننا القول باستعارة وتحوير من مقولة لميلان كونديرا أن الحرب على شعب العراق هي حرب بين الذاكرة والنسيان. وليس عبثا أن يبدأ الاحتلال البغيض بتدمير أهم مرتكزات الذاكرة والشخصية العراقية وهو المتحف العراقي. والغريب أن تعلن كوندوليزا رايس في بداية التسعينات عن ضرورة الانتصار على العقل العربي وأن يكون مفتاح ذلك الانتصار على العقل العراقي!!. وعليه يجب علينا ككتاب أن نبذل المستحيل للحفاظ على مخزون الذاكرة العراقية ومراجعته وعرضه ونقده. يأتي جهد د. ضرغام الدباغ في كتابه الجديد: البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق (1958-1959) الصادر عن دار ضفاف للطباعة والنشر (الشارقة/بغداد) ضمن هذا الإطار حيث يجيب المؤلف عن سؤال مهم يفتتح به مقدمة كتابه: لماذا نقرأ أو بالأحرى لماذا ندرس الوثائق الرسمية ؟ (ص 9) بالقول: (الأمر بتقديرنا يتعدى ما يعتقد بأنه ترف ثقافي إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير، ومن هنا ولد اهتمامنا بدراسة الوثائق البريطانية حول العراق، ثورة الرابع عشر من تموز: 1959 ـ 1958 التي جمعها وترجمها وله الشكر والتقدير على ذلك الأستاذ خليل إبراهيم حسين ( العميد المهندس، الضابط الحر، وزير الصناعة السابق) بطريقة تدل على الحرص الشديد، بالإضافة إلى الدقة والموضوعية، ووضعها في أجزاء ثلاثة تغطي المرحلة الممتدة من 2 / تموز ـ يوليو / 1958 وحتى 9 / تموز /1959 وهي وثائق البعثات الدبلوماسية البريطانية في العراق والبلدان المحيطة به مع المركز (وزارة الخارجية البريطانية بلندن) وسفارات بريطانيا في واشنطن وباريس وموسكو أو غيرها بقدر تعلق الأمر بالأحداث العراقية...وقد تضمنت 550 وثيقة امتدت بعدد1117 صفحة.. بل اخترنا أن تكون دراستنا مركزة على ثلاثة محاور رئيسية: 1. محور التعريف بأهمية الوثائق البريطانية، درجة دقتها، موضوعيتها. 2 . محور التعريف بأهمية الاتجاهات، وهي التي تركزت حولها الوثائق وتحليل أبعاد تلك الاهتمامات 3 . محور الملاحظات حول الجانب المهني والمعلوماتي، في الوثائق البريطانية وأهمية ذلك في مجال صياغة المواقف والقرارات السياسية حيال العراق بصفة خاصة والقضايا العربية بصفة عامة. وأخيراَ وليس آخراَ، الاستفادة من عبر ودروس التاريخ، فأن الجهات التي تناوئ الأقطار العربية والنامية بصفة عامة تعول بنسبة كبيرة جداً على التناقضات الداخلية، وهي ثانوية في الغالب، كثغرات فتستغلها لإلحاق أقدح الأضرار بالسيادة الوطنية والاستقلال السياسي، وتعميق التبعية الاقتصادية، وفرض أنماط غريبة هجينة على الثقافة الوطنية، وأخيراً لجعل هذه الأقطار لواحق تدور في أفلاكها كبلدان تابعه للمتربولات لا قيمة تاريخية لها، كما وتفقدها الأمل في إحراز مواقع أفضل في التبادلات الاقتصادية أو في مساهمتها في مسرة الحضارة الإنسانية. وسوف يدرك القارئ اللبيب هذه المرامي بسهولة بمجرد أن يمنح هذه الصفحات الاهتمام الكافي ثم ليجد في نهاية المطاف أمراَ آخر في غاية الأهمية: هي أن أهداف المستعمرين واحدة (في معظمها) وإن ما يتغير هو الأساليب فقط دون الجوهر) (ص 9 و11). ولأننا أمّة تُلدغ دائما ومن الجحر ذاته أكثر من مرة خلاف تعاليم رسولها الكريم فقد رأيت أن هذا الكتاب يحمل قيمة كبرى في المرحلة الراهنة بشكل خاص حيث تروّج أجهزة الدعاية الغربية وتلحقها الطبول الرسمية العربية بأن داعش عدوة أمريكا!! وما أشبه أعداء اليوم بأعداء البارحة. يقول المؤلف: (وما يهمنا هنا تأكيده في هذا المجال، العلاقات العراقية ـ البريطانية أن العراق الذي وضع بعد الاحتلال تحت نظام الانتداب المشار إليه كان يدار بصفة تفصيلية من قبل سلطات الانتداب الاستعمارية. وكان إلى جانب كل وزير، مستشار سياسي بريطاني، ولكنهم كانوا في واقع الأمر من ضباط الاستخبارات البريطانية (ليس مدهشاً أن أعاد الأمريكان هذا السيناريو بالضبط بعد احتلالهم للعراق عام 2003)، في نظام أنتداب حديث، أسوء من الأنتداب البريطاني) وكان وجودهم في الوزارات أساسياً، والوزراء العراقيون لم يكن بوسعهم على (الأرجح)، القيام بإجراءات ذات طابع جوهري دون أستحصال موفقة المستشار السياسي البريطاني الذي يهيمن بصورة مباشرة على كافة الخطوط العامة والتفصيلية للفعاليات والأنشطة الإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها، ولم تكن تدخلات المستشارين البريطانيين فنية الطابع أو تقنية، بقدر ما كانت تعبر عن تدخل هذه المؤسسات الانتدابية في مقدرات البلاد، تدخل كان يطال حتى مفردات حساسة تمس السلامة والوحدة الوطنية للبلاد. فكان الضباط السياسيون (من الاستخبارات البريطانية) يقومون بجولات واستطلاعات ميدانيه إلى أرجاء البلاد كافه ومنها المراكز الدينية ويقيمون الصلات الحميمة برجال الدين ورؤساء القبائل والفعاليات الاجتماعية، والعزف على أوتار التكتلات الطائفية والعرقية ومحاولة إثارة الفتن والبغضاء والدسائس بينهم، ودفع المواقف باتجاه إثارة التناقضات عملاً بسياسة استعمارية معروفة (فرق تسد). (ص 19 و20). ومما تؤكده مراجعة هذه الوثائق هو القاعدة البريطانية الاستعمارية الأثيرة: "لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة" التي رفعها البريطانيون وأخلصوا لها حتى اليوم. يقول المؤلف: (ومن نافلة الكلام القول أن البريطانيين لا تهمهم الأسماء كثيراً، فما يهمهم هي المصالح وسير العمل ولا شيء غير ذلك، أولم يسبب لهم الملك غازي مشكلات جمة بسبب طموحه الوطني والقومي، أولم تكن نغمة مزعجة لهم تلك التي كان يرددها عبد الإله (الأمير وولي العهد) عن ضم سوريا وتوحيدها مع العراق، أولم يكن رجل الدولة نوري السعيد مقبولاً لديهم، ولكنه غدا غير مقبولا عندما طالب بالكويت العراقية..! بل وحتى صيغة الاتحاد الهاشمي لم يكن الإنكليز راضين عنها أو مبهورين بها ولم يعدونها صيغة مثلى كحلف بغداد للتعاون السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، سواء بين العرب أو بين غيرهم، فهم يفضلون صيغاً تضمن العمل كفريق تحت إشرافهم وإيعازاتهم ضمن حركه يكونون هم ضابطي الإيقاع فيها، يتحرك فيها كل واحد حسب دوره في الخطة. وصيغاً اقتصادية ككتلة الإسترليني، حيث تضمن فيها بريطانيا والولايات المتحدة التفوق والهيمنة.) (ص 49 و50). وستريك دراسة هذه الوثائق هذا الحقد والتوجّس من الدور الوطني والقومي للجيش العراقي الذي مازال قائما حتى اليوم ، وهم لا يتورعون – حرصا على الكيان الصهيوني منذ ذلك الوقت- عن توجيه الإهانة لوفد عسكري عراقي برئاسة الملك فيصل زارهم طلبا للتسليح بطريقة تذكرك بالكيفية التي اهان بها الرئيس جونسون كل الوفود الدبلوماسية العربية التي جاءت "معاتبة" عن العدوان الصهيوني عام 1967 حين جلس يخاطب كلبه بعبارات مهينة للعرب. يقول الدباغ: (ورغم أن الدبلوماسية البريطانية كانت تمارس وبسعي حثيث، محاولة ( احتواء ) العراق (منع اشتداد التوجه القومي أو الشيوعي ) ومعرفتهم أن الحكومة العراقية سوف تتجه إلى شراء الأسلحة من المعسكر الاشتراكي، لأن تسليح الجيش العراقي كان من أهداف الثورة المعلنة، وقد أبدى الغرب استعدادا لتسليح الجيش، ولكن ضمن هذا الهدف: أبعاده عن المعسكر الاشتراكي وبسلاح لا يكفي لمواجهة الكيان الصهيوني أو حتى التوازن معه. ومن المدهش القول أن هذه السياسة كانت متبعة حتى مع الحكومة العراقية الملكية ... !. ويمتعض القادة والسياسيون في الغرب (بريطانيا وأمريكا خاصة) من طلبات التسلح العراقية والعربية. ونجد مثال على ذلك في مفاوضات وفد سياسي/عسكري عراقي يرأسه الملك فيصل الثاني، بحديث فظ خال من التهذيب لوزير الخارجية الأمريكية(جون فوستر دلاس) حيال طلب سلاح عراقي مع أن العراق كان ضمن حلف بغداد، بوقاحة تشبه وقاحة الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في خطابه إلى الرئيس حسني مبارك، رئيس جمهورية مصر العربية. ونلاحظ اهتماما محموماً مدهشا حيال تشكيل العراق للفرقة الخامسة من جيشه في مطلع عام1959، فنراهم يهتمون بتفاصيل عن تسليحه وقدراته وتعداده وعناصره، من الضباط خاصة، ثم عن قائد هذه الفرقة، معلومات عن شخصية هذا الضابط وتأريخه. ودبت الراحة في نفوسهم قليلاً عندما علموا أنه ليس من العنصر القومية الوحدوية، ثم أنه ليس بشيوعي، ولكنهم علموا أنه ضابط محترف كفء، فابتدأ القلق هذه المرة صوب الكيان الصهيوني الذي سيواجه فرقة عراقية جديدة وبقائد كفء ...!) (ص 63 و64). لكن من الملاحظات المهمة جدا في الكتاب والتي استقاها الكاتب من تحليله لهذه الوثائق هي في الحقيقة ظاهرة محيرة تثبت أن الهالة التي أضفيت على العقلية البريطانية في العراق على الأقل بكونها عقلية دقيقة باحثة متعمقة نافذة البصيرة "تفرك" أدنى الظواهر وتحللها وتفككها هي هالة زائفة . يقول الكاتب: (ثم أننا نلاحظ على سبيل المثال لا الحصر، أن هذه الدوائر التي كنا نفترض نحن وغيرنا أنها تعمل في غاية الدقة، بحيث كنا نطلق على أي عمل دقيق (شغل إنكليز.. !)، وإذ بها تقع في أخطاء كبيرة لا تغتفر. فهل يعقل مثلاً أن يخطأ الملحق العسكري البريطاني في السفارة ببغداد أو وزارة الخارجية البريطانية في معرفة شخصية قائد الثورة العميد الركن عبد الكريم قاسم على أنه خريج كلية الأركان البريطانية(Camberley) كامبرلي، في حين أن قاسماً لم يتبع سوى دورة قصيرة للضباط الأقدمين في (Charles) تشيرليس ببريطانيا، وزار بريطانيا في سفرة علاجية. ثم من المدهش حقاً أن السفير فوق العادة ومطلق الصلاحية (Ambassador Extraordinary and Plenipotentiary) بمرتبة السير مايكل رايت Michael Wright يبعث تقريراً إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن يتضمن معلومات خطيرة عن الوضع السياسي والأمني اعتمادا على أقوال بستاني عراقي يعمل في حدائق السفارة، ربما هو أمي على الأرجح، وذا عقلية سياسية بسيطة، هذا إذا استبعدنا أن يكون الرجل على صلة بدوائر أمنية في بلادة، فالأمر يدل في النهاية على ضعف مصادرهم المعلوماتية وتشير الوقائع أن أفضل تلك المعلومات التي حصلوا عليها، كانت عبر المصادر الرسمية العراقية، التي كانت تبلغهم وغيرهم من ممثلي السفارات الأجنبية في بغداد تطورات الموقف وما يودون الحصول عليه من معلومات. ويثير الاستغراب مرة أخرى الجهل البريطاني المطبق (كانت معلوماتهم شكلية وبعيدة عن التحسس العميق لمعاناة الشعب العراقي ومشكلاته) عن التيار الوطني والقومي المعادي للاستعمار ضمن الجيش العراقي، وقد لاحظنا أن مفاجأتهم بالثورة كانت كاملة، رغم أن حركة الضباط الأحرار كانت تعمل بنشاط ودأب منذ عام 1948، حيث ابتدأت الخلايا بالعمل عقب حرب فلسطين التي دقت جرس الإنذار: الخطر القومي !..عندما قررت الجيوش العربية التصدي للتآمر الاستعماري في إقامة الكيان الصهيوني، وتوج هذا النشاط في مصر بثورة تموزـ يوليو/1952، مع أنهم كان يفترض بهم أن يتعظوا من حركة مايس /1941 التي قادها الوطنيون والقوميون في الجيش العراقي ومن خارجه، والاندفاع القومي للجنود والضباط في حرب فلسطين. ثم أننا نلاحظ أن ارتباكاً شديداً وجهلاً وتخبطاً يسود أوساط الدبلوماسية البريطانية، فقد كانت الثورة وأسماء قادتها مثلاً، مجهولة...!.. ولا سيما الضباط بالدرجة الأولى الذين كان بعضهم قد تلقى مراحل من تعليمه وتدريبه العسكري في معاهد ومؤسسات بريطانية، ويا للعجب.....! كما في أخطاء فاحشة تتحكم في رسم الرؤية المستقبلية وتقديرات هذه الدبلوماسية العريقة والتنبؤ بالتطورات، والاحتمالات القادمة والنتائج الارتدادية الغير مباشرة للثورة، عدا حالتين كان التنبؤ فيهما صادقاً في تقرير المستر مورفي موفد الرئيس الأمريكي أيزنهاور، وفي تقديرات المستر هريدج مدير عام شركة (I.P.C.) للنفط، والتي جاءت قبل يوم واحد من قرارات نفطية هامة..(.....) أما التحليل (وهو موقف ورأي السفارة) فهو الآخر ينطوي بسبب الجهل والخطل بمفردات الموقف السياسي الميداني على استنتاجات خاطئة، فعلى سبيل المثال: على مدى دراسة 550 وثيقة تضمنتها ثلاث مجلدات مجموع صفحاتها1117 صفحة، لم نجد ولا مرة واحدة تنبؤاً مصيباً، وتحليلا مسبقاً يتوقع أحداثاً مهمة حتى لو كانت واضحة جلية، مثل الأحداث التي بتراكمها قادت إلى حركة الشواف في الموصل (1959)، ناهيك أنهم لم يكونوا على بينة من نوايا الحكومة العراقية في الانسحاب من حلف بغداد ومنطقة الإسترليني، ومواقف وقرارات أخرى كثيرة). (ص 30،31،32،34). اشتمل الكتاب (106 صفحات) على مقدّمة وثلاثة محاور وملاحق. تناول المحور الأول التعريف والتثبيت، والثاني التعريف بأهم الاتجاهات في الوثائق وتحليل تلك الاهتمامات ، أما الثالث والأخير فخصصه الكاتب لملاحظات حول الجانب النظري والمهني والمعلوماتي. أما لملاحق فقد ضمت نصوص اتفاقية سايكس بيكو وصك الانتداب البريطاني على العراق. ختم الكتاب بتعريف بالكاتب والكتاب.
|