مأزق العدالة الدوليّة عبد الحسين شعبان



يبدو أن مسلسل الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية ما يزال مستمرّاً، وأن رصيدها أخذ بالتراجع إلى درجة كبيرة، حتى إن قارة بكاملها قد تكون خارج ولايتها، وهو المقترح الذي سبق أن تقدّم به الرئيس الكيني أوهورو كينياتا بالانسحاب الجماعي لدول الاتحاد الإفريقي من المحكمة الجنائية الدولية، وذلك خلال القمّة الإفريقية الـ 26 التي انعقدت في يومي 30 – 31 يناير (كانون الثاني) العام 2016 في أديس أبابا (أثيوبيا). ولقي هذا الاقتراح ترحيباً واسعاً من القادة الأفارقة بينهم رئيس الدورة الحالية للاتحاد الافريقي إدريس ديبي (رئيس التشاد) الذي اعتبر "المحكمة لا تستطيع أن تقيم العدل إلاّ على الأفارقة..!".
وقد جاء تعليق عضوية جنوب إفريقيا في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 متساوقاً مع هذا القرار، وذلك بعد قرار بوروندي وغامبيا الانسحاب من نظام روما، وهو ما زالت كينيا تدرسه، والأمر "مجرّد وقت" حسب تصريح وزير الدولة بالخارجية السودانية كمال إسماعيل، خلال استقباله الرئيس الكيني في مطار الخرطوم في 29 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم.
كان الرئيس الكيني هو نفسه قد مَثَل أمام القضاء الدولي إثر اتهامه بارتكاب جرائم جسيمة وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الانتخابات التي جرت في العام 2007 وما بعدها في العام 2008، وهو أول رئيس يمثل أمام المحكمة وما يزال في الحكم، وكانت النتيجة أن قامت المحكمة بتبرأته في العام 2014، كما برأت نائبه ويليام روتو في العام 2015، وأسقطت التهم الموجّهة إليهما، الخاصة بأعمال العنف وغيرها من التهم التي استوجبت مقاضاتهما.
حين تأسَّست المحكمة الجنائية الدولية في روما العام 1998، كانت حدثاً طموحاً للوصول إلى نظام قضائي دولي أكثر توازناً مما سبقه لتحقيق العدالة الدولية، وهكذا توافدت الدول للانضمام إليها، وبلغ عددها الآن نحو 124 دولة، ورحّبت بها منظمات حقوق الإنسان، ووقف الضحايا إلى جانب إنشائها عسى أن تنصفهم وتعيد العدالة إلى نصابها القانوني الصحيح، ولكن المحكمة منذ بداية تأسيسها كانت تحمل بذرة تناقضها، لا سيّما إزاء ملاحقة المرتكبين من جانب دول كبرى متنفّذة في العلاقات الدولية، وهي لا تملك جهازاً تنفيذياً لجلب المتهمين إلى القضاء أو لتنفيذ الأحكام عند صدورها.
وكان أول تصدّع تعرّضت له بعد دخولها حيّز التنفيذ بانضمام 60 دولة إليها في العام 2002، هو إعلان الولايات المتحدة و"إسرائيل"، انسحابهما منها بعد أن انضمّا إليها في اللّحظات الأخيرة قبيل إغلاق باب الانضمام، والأسباب لا علاقة لها بانسحاب الدول الإفريقية حالياً، فواشنطن لم ترغب أن تُخضع أي من جنودها للقضاء الدولي، خصوصاً وأن هناك اتهامات بارتكابات موجّهة إليهم، أو يمكن أن توجّه إليهم لاحقاً. أما انسحاب "إسرائيل" فكان بسبب أن ميثاق روما كان قد أكّد أن الاستيطان يعتبر جريمة دولية تقتضي مساءلة القائمين بها.
ويستطيع الباحث القانوني والمراقب السياسي أن يرصد بعض الحقائق التي تتعلّق بالقضايا التي نظرت فيها المحكمة إلى حد الآن، والتي تشكّل الغالبية الساحقة منها الأفارقة والقارة الإفريقية بشكل خاص والبلدان النامية بشكل عام. وبلغ عددها 23 قضية (حسب موقع المحكمة الجنائية الدولية – ICC). وشملت المحاكمات الكبرى في إفريقيا الدول التالية:
1 – كوت ديفوار، حيث تمت محاكمة لوران غباغبو الرئيس الايفواري السابق.
2 – إفريقيا الوسطى، حيث تمت محاكمة جان بيير بيمبا غومبو نائب الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية لارتكاب قواته في إفريقيا الوسطى جرائم خطيرة.
3 – جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث حوكم زعيم المتمردين الكونغوليين بعد صدور مذكرة توقيف بحقه.
4 – كينيا، حيث تمت محاكمة الرئيس ونائبه، ولكن أعلن عن براءتهما.
ولا زال الرئيس السوداني عمر حسن البشير مطلوباً للمحكمة، بسبب اتهامه بأعمال إبادة وجرائم ضدّ الإنسانية، تلك التي ارتكبت في دارفور حسب قرار الادّعاء العام. وكانت أزمة خطرة قد حصلت بسبب رفض حكومة جنوب إفريقيا تسليمه، أو الحجز عليه طبقاً لقرار صدر من محكمة خاصّة فيها العام 2015، حين كان البشير في زيارة لجوهانسبرغ.
بعدها قرّرت حكومة جنوب إفريقيا تعليق عضويتها، وجاء هذا القرار بعد حوار طويل قانوني وسياسي وبرلماني، ونقاش في الاتحاد الإفريقي، وهو ما يؤكد المأزق الكبير الذي وصلته المحكمة، وهذه المرّة من جانب الضحايا والدول النامية وليس من جانب دول متنفّذة، كما تمّت الإشارة إليه.
وحتى روسيا والصين اللّتان وقعتا على قرار الانضمام للمحكمة، لم يصادقا عليه، وظلّت غالبية الدول العربية خارج ولاية المحكمة، مثلما هي إيران التي لم تنضم إليه. وكان العراق يرفض قبل الاحتلال الانضمام إلى المحكمة، لكنه بعد الاحتلال وفي ظل حكومة إياد علاّوي انضم إلى المحكمة (العام 2004)، وحصلت المفاجأة بعد أسبوعين حين انسحب منها دون أن يعطي مبرّراً لانضمامه أو تفسيراً لانسحابه.
ويعود السبب في رفض القوى الكبرى الانضمام للمحكمة، لأنها لا تريد أن تخضع لسلطة عليا فوق سلطاتها ونفوذ فوق نفوذها، إلاّ أنّ بعضها الآخر ظلّ يتحاشى موضوع مساءلته لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثلما هناك بعض الدول تخشى من الهيمنة الدولية، ولا تريد أن تكون في كماشة ما يسمى بالعدالة الدولية، لأنها ستكون عدالة انتقائية تطبق على الضعيف وتستثني القوي. وبغض النّظر عن هذه المبرّرات والذرائع، فإن المحكمة التي كانت واعدة، أخذت دائرتها بالانحسار.
وكانت نبرة الاحتجاجات قد ارتفعت من دول الاتحاد الإفريقي التي تندّد بقرارات المحكمة بملاحقة عدد من القادة الأفارقة، واتهمتها باتباعها سياسة ازدواجية في المعايير وانتقائية إزاء القضايا التي تتابعها. وقد أعلنت كل من غامبيا انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية واتهمتها بتجاهل جرائم الحرب التي ترتكبها دول غربية، والسعي فقط لمقاضاة الأفارقة. أما بوروندي فقد سبقتها إلى مثل هذا الإجراء، الذي كان صداه كبيراً بعد تعليق عضوية جنوب إفريقيا في المحكمة، وذلك بحكم ثقلها الدولي ورمزية نظامها، وخصوصاً مبادراتها للمصالحة عبر العدالة الانتقالية التي قادها نيلسون مانديلا. 
وإذا كانت الدول عند تأسيس نظام روما تتسابق للانضمام إليه لتأكيد احترامها للعدالة الدولية (منها خمس دول عربية: الأردن، جيبوتي، جزر القمر، وتونس، وفلسطين)، فإنها اليوم أكثر حذراً وخشية وتشاؤماً إزاء ما يحصل، علماً بأن 34 دولة إفريقية كانت قد انضمّت إلى نظام روما، لكنها اليوم تدرك أنها باتت هي المستهدفة، في حين أن المرتكبين الغربيين يفلتون من يد العدالة ويتصرّفون وكأنهم خارج نطاق أن يطالهم العقاب.
لقد أدرك الرئيس الكيني أن القرار الذي اتخذته محكمة خاصة بشأن اعتقال الرئيس البشير المطلوب إلى المحكمة الجنائية الدولية حال وصوله إلى الأراضي الكينية، هو السبب في إثارة مشكلة جدّية بين بلاده وبين السودان، وكان رد الفعل السوداني هو الطلب من السفير الكيني مغادرة الأراضي السودانية، لكن العلاقات استعيدت، خصوصاً حين تغيّر موقف الرئيس الكيني من المحكمة الذي كان هو مطلوب لديها، ولا تزال المحكمة تلاحق البشير منذ عامي 2009 – 2010، وقد أصدرت بحقه مذكرتي قبض تحت تهم تتعلّق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور.
وتواجه المحكمة الجنائية الدولية اليوم رد فعل حكومي وشعبي إفريقي، بسبب تطبيقاتها الأحادية الجانب، وفي الوقت الذي تتساهل وتغض النظر عن ارتكابات دول غربية لحقوق الإنسان واحتلال بلدان ذات سيادة مثلما حصل للعراق، تتشدّد إزاء انتهاكات أخرى، لدرجة أصبحت توصف بالعدالة الانتقامية، وحسب بيان للحكومة الغامبية أن هناك ما لا يقلّ عن ثلاثين بلداً غربياً ارتكب جرائم حرب سافرة ضدّ دول مستقلّة السيادة ومواطنيها، منذ إنشاء المحكمة، ولم يوجّه اتهام لمجرم حرب غربي واحد. 
لم يكن إنشاء محكمة دولية أمراً يسيراً وعابراً، أو حدثاً طارئاً وظرفياً، فهي أول هيئة قانونية ذات اختصاص قضائي عالمي دائم لمقاضاة جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، فقد جاء بعد كفاح طويل ومطالبات وضغوط لمؤسسات حقوقية مرموقة، لكن هذا النظام تم تسويفه وتسييسه وإخراجه عن أهدافه منذ الأيام الأولى، الأمر الذي عرّضها للانتقادات الشديدة وأضعف من صدقيتها وتأثيرها.
ولمجرد نظرة سريعة للقضايا المعروضة أمام المحكمة، سنلاحظ الانتقائية الشديدة، فهي تنظر حالياً بعشر قضايا جنائية، منها ثمان في إفريقيا (السودان وليبيا) أحيلتا من مجلس الأمن وأربع قضايا ضد (الكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى وأوغندا ومالي) بقرار من حكومات تلك الدول، واثنتان بقرار المدعي العام (كينيا – ساحل العاج)، لكنها لم تبت حتى الآن بطلب النظر في الجرائم "الإسرائيلية" التي ارتكبت في فلسطين منذ العام 2011 وحتى الآن.