العقيلة زينب.. رسالة التحدي والصمود |
ورد في التاريخ أن العقيلة زينب ( ع ) لما خاطبها عبيد الله بن زياد بالكوفة وسألها: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ أجابته ( ع ) بقولها: «ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجُّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أُمّك يا ابن مرجانة».[ بحار الأنوار. ج45، ص116] حينما يحمل الإنسان قضيةً، ويتبنى موقفاً، فإن عليه أن يكون مستعداً لدفع الثمن، ولتحمل أعباء ذلك الموقف. وقد تجد البعض من الناس يتحمسون ويتشجعون لبعض المواقف، وقد يتحدثون عن بعض القضايا التي تهم الدين وتهم المجتمع، ولكنهم ما أن يلحظوا أن هذا التبني وهذا الموقف سيسبب لهم مشكلة، وسيجلب لهم خسارة ما، أو سيفقدهم شيئاً من راحتهم أو مصالحهم، فإنهم يتراجعون عن ذلك الموقف؛ لأنهم يتصورون أن حمل قضية وأن تبنى موقف سيكون دون دفع ثمن، وهذا مخالف لسنن الحياة الاجتماعية. فحالة التدافع والتنافس الموجودة في المجتمعات، واختلاف التوجهات، وتضارب المصالح، كلّها أمور تؤدي الى أن أصحاب المواقف وحملة القضايا يتوجب عليهم أن يدفعوا ثمن مواقفهم، وأن يتحملوا المضاعفات التي قد تحصل لهم. بعض الناس حينما تواجههم المشاكل والمصائب الناتجة عن مواقف قد اتخذوها تصيبهم حالة من الهلع والانهيار، وهذا يدل على ضعف الوعي والإرادة، لأن صاحب الوعي بقضيته وصاحب الإرادة خلف موقفه، يجب أن يكون ثابتاً صامداً. وحينما نرى مواقف العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين ( ع ) نراها تقدم لنا هذا الدرس العظيم: أيها الناس، يا من تريدون أن تحملوا قضايا، وأن تتخذوا مواقف، عليكم أن تعرفوا سلفاً أن ذلك يكلفكم ثمناً ويسبب لكم مشاكل، فهل أنتم مستعدون للتحمل أم لا؟ العقيلة زينب( ع ) هي شريكة الإمام الحسين( ع ) في نهضته يوم عاشوراء، حيث تجلت عظمة الإمام الحسين( ع ) في تضحيته وعطائه وصموده، وتجلّت عظمت العقيلة زينب ( ع ) في مواصلتها للمسيرة والمشوار. وفي يوم الأربعين علينا أن نتذكر صمود السيدة زينب ( ع ) وما قدمته وما تحملته، فلم تكن متورطة فيما واجهته، إذ كان بإمكانها أن تبقى في المدينة، خاصةً وأن لها زوجًا، كفيف البصر، وكان لها أبناء، وكل هذه الأمور تبرر بقاءها في المدينة المنورة، لكنها أصرت على الخروج مع أخيها الحسين ( ع ) ، فاستأذنت زوجها، وخرجت مع الحسين ( ع ). وحينما جاء مَنْ ينصح الإمام الحسين ( ع ) مثل ابن عباس بألا يصحب معه أسرته، اعترضت عليه العقيلة زينب ( ع ) وقالت له: «يا بن عباس، تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا ها هنا، ويمضي وحده، لا والله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره» [جعفر النقدي. زينب الكبرى، ص94]. فهي أصرت أن تصحب الإمام الحسين( ع ). وفي أحداث كربلاء كانت تبادر في المواقف المهولة، رغم أنه كان بإمكانها أن تبقى في الخيمة، لكنها كانت تخرج في كل موقف، فكان لها حضور في كل أحداث كربلاء. ولو لم يكن منها ( ع ) إلا ذلك الموقف العظيم في ذلك اليوم الفظيع، وأمام تلك الكوارث والآلام الجسيمة حيث خرجت ( ع ) إلى أرض المعركة تمشي بين الجثث، وتبحث عن جثة أخيها الإمام الحسين ( ع ) لتقف عند جسده الشريف المقطع، وتُسجّل ذلك الموقف الرهيب من غير أن يدركها الضعف أو الانهيار، مع كل الألم رفعت يديها إلى السماء تخاطب الله تعالى قائلة: اللهم تقبّل منا هذا القربان! أي إرادة هذه وأي صمود هذا. وأكثر من ذلك كانت تسلي الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( ع ) ، فكما ورد عنه ( ع ) أنه قال: لما أصابنا بالطف ما أصابنا، وقتل أبي، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة فجعلت أنظر إليهم صرعى، لم يواروا فعظم ذلك في صدري، واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي؟ فقلت:وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مصرّعين بدمائهم، مرمّلين بالعرىٰ، مسلّبين، لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر، فقالت ( ع ): لا يجزعنّك ما ترى، فو الله إن ذلك لعهد من رسول الله ( ص ) إلى جدّك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله الميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علمًا لقبر أبيك سيد الشهداء.[ جامع أحاديث الشيعة، ص288] هذه هي الروح الرسالية الثاقبة، وعلينا أن نأخذ هذا الدرس العظيم من العقيلة زينب ( ع ) لصبرها ولصمودها، وأن نتحلى بهذه الروحية حينما نحمل قضايا مجتمعاتنا ومبادئنا كما قال أحد الفقهاء، وهو الشيخ هادي آل كاشف الغطاء، رحمة الله عليه: لله صبر زينب العقيلة ** كم شاهدت مصائباً مهولة رأت من الخطوب والرزايا ** أمراً تهون دونه المنايا رأت كرام قومها الأماجد ** مجزرين في صعيد واحد تمشي على جسومها الرياح ** وهي لذئبان الفلا تباح رأت رؤوساً بالقنا تشال ** وجثثًا أكفانها الرمال رأت رضيعاً بالسهام يفطم ** وصبيةً بعد أبيهم يتموا رأت شماتة العدوّ فيها ** وصـنعه مـا شاءَ في أخيها |